هِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّها. قالَ القُرْطُبِيُّ: إلّا آيَةً واحِدَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عامَ الفَتْحِ في عُثْمانَ بْنِ طَلْحَةَ الحَجْبِيِّ، وهي قَوْلُهُ تَعالى:
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ [النساء: ٥٨] عَلى ما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ، قالَ النَّقّاشُ: وقِيلَ: نَزَلَتْ عِنْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ، وعَلى ما تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: يا أيُّها النّاسُ حَيْثُما وقَعَ فَإنَّهُ مَكِّيٌّ يُلْزِمُ أنْ يَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيًّا، وبِهِ قالَ عَلْقَمَةُ وغَيْرُهُ.
وقالَ النَّحّاسُ: هَذِهِ الآيَةُ مَكِّيَّةٌ. قالَ القُرْطُبِيُّ: والصَّحِيحُ الأوَّلُ، فَإنَّ في صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ عائِشَةَ أنَّها قالَتْ: ما نَزَلَتْ سُورَةُ النِّساءِ إلّا وأنا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. يَعْنِي قَدْ بَنى بِها. ولا خِلافَ بَيْنَ العَماءِ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ إنَّما بَنى بِعائِشَةَ بِالمَدِينَةِ، ومَن تَبَيَّنَ أحْكامَها عَلِمَ أنَّها مَدَنِيَّةٌ لا شَكَّ فِيها.
قالَ: وأمّا مَن قالَ: يا أيُّها النّاسُ مَكِّيٌّ حَيْثُ وقَعَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإنَّ البَقَرَةَ مَدَنِيَّةٌ وفِيها يا أيُّها النّاسُ في مَوْضِعَيْنِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ في فَضائِلِهِ والنَّحّاسُ في ناسِخِهِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النِّساءِ بِالمَدِينَةِ، وفي إسْنادِهِ العَوْفِيُّ وهو ضَعِيفٌ، وكَذا أخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، وأخْرَجَهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ.
وقَدْ ورَدَ في فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ ما أخْرَجَهُ الحاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: إنَّ في سُورَةِ النِّساءِ لَخَمْسَ آياتٍ ما يَسُرُّنِي أنَّ لِي بِها الدُّنْيا وما فِيها
﴿إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ الآيَةَ
[النساء: ٤٠]،
﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ الآيَةَ
[النساء: ٣١]،
﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨] الآيَةَ،
﴿ولَوْ أنَّهم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾ الآيَةَ
[النساء: ٦٤] . ثُمَّ قالَ: هَذا إسْنادٌ صَحِيحٌ إنْ كانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ سَمِعَ مِن أبِيهِ، وقَدِ اخْتُلِفَ في ذَلِكَ.
وأخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: خَمْسُ آياتٍ مِنَ النِّساءِ هُنَّ أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الدُّنْيا جَمِيعًا
﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ الآيَةَ
[النساء: ٣٥] ﴿وإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها﴾ الآيَةَ
[النساء: ٣٠] ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآيَةَ
[النساء: ٤٨] ﴿ومَن يَعْمَلْ سُوءًا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ الآيَةَ
[النساء: ١١٠] ﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنهم﴾ الآيَةَ
[النساء: ١٥٢] . ورَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
ثُمَّ رُوِيَ مِن طَرِيقِ صالِحٍ المُرِّيِّ عَنْ قَتادَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ثَمانُ آياتٍ نَزَلَتْ في سُورَةِ النِّساءِ هُنَّ خَيْرٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وغَرَبَتْ، وذَكَرَ ما ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وزادَ
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ الآيَةَ
[النساء: ٢٦] ﴿واللَّهُ يُرِيدُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْكم﴾ الآيَةَ
[النساء: ٢٧] ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْكم﴾ الآيَةَ
[النساء: ٢٨] . وأخْرَجَ أحْمَدُ وابْنُ الضُّرَيْسِ ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ عَنْ عائِشَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ:
«مَن أخْذَ السَّبْعَ فَهو حَبْرٌ» .
وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ واثِلَةَ بْنِ الأسْقَعِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ:
«أُعْطِيتُ مَكانَ التَّوْراةِ السَّبْعَ الطِّوالَ والمِئِينُ: كُلُّ سُورَةٍ بَلَغَتْ مِائَةً فَصاعِدًا، والمَثانِي: كُلُّ سُورَةٍ دُونَ المِئِينَ وفَوْقَ المُفَصَّلِ» . وأخْرَجَ أبُو يَعْلى وابْنُ خُزَيْمَةَ وابْنُ حِبّانَ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أنَسٍ قالَ:
«وجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ذاتَ لَيْلَةٍ شَيْئًا فَلَمّا أصْبَحَ قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أثَرَ الوَجَعِ عَلَيْكَ لَبَّيِّنٌ، قالَ: أما إنِّي عَلى ما تَرَوْنَ بِحَمْدِ اللَّهِ قَدْ قَرَأْتُ السَّبْعَ الطِّوالَ» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ عَنْ حُذَيْفَةَ قالَ:
«قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقَرَأ السَّبْعَ الطِّوالَ في سَبْعِ رَكَعاتٍ» . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ بَعْضِ أهْلِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ
«أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قَرَأ بِالسَّبْعِ الطِّوالِ في رَكْعَةٍ واحِدَةٍ» .
وأخْرَجَ الحاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ( سَلُونِي عَنْ سُورَةِ النِّساءِ فَإنِّي قَرَأْتُ القُرْآنَ وأنا صَغِيرٌ ) قالَ الحاكِمُ: صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ولَمْ يُخْرِجاهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ عَنْهُ قالَ: ( مَن قَرَأ سُورَةَ النِّساءِ فَعَلِمَ ما يُحْجَبُ مِمّا لا يُحْجَبُ عَلِمَ الفَرائِضَ ) .
* * *بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المُرادُ بِالنّاسِ المَوْجُودُونَ عِنْدَ الخِطابِ مِن بَنِي آدَمَ، ويَدْخُلُ مَن سَيُوجَدُ؛ بِدَلِيلٍ خارِجِيٍّ وهو الإجْماعُ عَلى أنَّهم مُكَلَّفُونَ بِما كُلِّفَ بِهِ المَوْجُودُونَ، أوْ تَغْلِيبُ المَوْجُودِينَ عَلى مَن لَمْ يُوجَدْ كَما غَلَّبَ الذُّكُورَ عَلى الإناثِ في قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ لِاخْتِصاصِ ذَلِكَ بِجَمْعِ المُذَكَّرِ. والمُرادُ بِالنَّفْسِ الواحِدَةِ هُنا آدَمَ.
وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ ( واحِدٍ ) بِغَيْرِ هاءٍ عَلى مُراعاةِ المَعْنى، فالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبارِ اللَّفْظِ، والتَّذْكِيرُ بِاعْتِبارِ المَعْنى. قَوْلُهُ:
﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ قِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلامُ؛ أيْ: خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ خَلَقَها أوَّلًا، وخَلَقَ مِنها زَوْجَها، وقِيلَ: عَلى خَلْقِكم، فَيَكُونُ الفِعْلُ الثّانِي داخِلًا مَعَ الأوَّلِ في حَيِّزِ الصِّلَةِ.
والمَعْنى: وخَلَقَ مِن تِلْكَ النَّفْسِ الَّتِي هي عِبارَةٌ عَنْ آدَمَ زَوْجَها وهي حَوّاءُ. وقَدْ تَقَدَّمَ في البَقَرَةِ مَعْنى التَّقْوى والرَّبِّ والزَّوْجِ والبَثِّ، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: مِنها راجِعٌ إلى آدَمَ وحَوّاءُ المُعَبِّرُ عَنْها بِالنَّفْسِ والزَّوْجِ.
وقَوْلُهُ: كَثِيرًا وصْفٌ مُؤَكَّدٌ لِما تُفِيدُهُ صِيغَةُ الجَمْعِ لِكَوْنِها مِن جُمُوعِ الكَثْرَةِ، وقِيلَ: هو نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: بَثًّا كَثِيرًا. وقَوْلُهُ: ونِساءً أيْ كَثِيرَةً، وتَرَكَ التَّصْرِيحَ بِهِ اسْتِغْناءً بِالوَصْفِ الأوَّلِ.
قَوْلُهُ:
﴿واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ﴾ قَرَأ أهْلُ الكُوفَةِ بِحَذْفِ التّاءِ الثّانِيَةِ، وأصْلُهُ تَتَساءَلُونَ تَخْفِيفًا لِاجْتِماعِ المِثْلَيْنِ. وقَرَأ أهْلُ المَدِينَةِ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ عامِرٍ بِإدْغامِ التّاءِ في السِّينِ، والمَعْنى: يَسْألُ بَعْضُكم بَعْضًا بِاللَّهِ والرَّحِمِ، فَإنَّهم كانُوا يَقْرِنُونَ بَيْنَهُما في السُّؤالِ والمُناشَدَةِ، فَيَقُولُونَ: أسْألُكَ بِاللَّهِ والرَّحِمِ، وأنْشُدُكَ اللَّهَ والرَّحِمَ، وقَرَأ النَّخَعِيُّ وقَتادَةُ والأعْمَشُ وحَمْزَةُ ( والأرْحامِ ) بِالجَرِّ.
وقَرَأ الباقُونَ بِالنَّصْبِ. وقَدِ اخْتَلَفَ أئِمَّةُ النَّحْوِ في تَوْجِيهِ قِراءَةِ الجَرِّ، فَأمّا البَصْرِيُّونَ فَقالُوا: هي لَحْنٌ لا تَجُوزُ القِراءَةُ بِها. وأمّا الكُوفِيُّونَ فَقالُوا: هي قِراءَةٌ قَبِيحَةٌ. قالَ سِيبَوَيْهِ في تَوْجِيهِ هَذا القُبْحِ: إنَّ المُضْمَرَ المَجْرُورَ بِمَنزِلَةِ التَّنْوِينِ، والتَّنْوِينُ لا يُعْطَفُ عَلَيْهِ.
وقالَ الزَّجّاجُ وجَماعَةٌ بِقُبْحِ عَطْفِ الِاسْمِ الظّاهِرِ عَلى المُضْمَرِ في الخَفْضِ إلّا بِإعادَةِ الخافِضِ كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَخَسَفْنا بِهِ وبِدارِهِ الأرْضَ﴾ [القصص: ٨١] وجَوَّزَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وأنْشَدَ:
فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَمْدَحُنا فاذْهَبْ فَما بِكَ والأيّامِ مِن عَجَبِ
ومِثْلُهُ قَوْلُ الآخَرِ:
تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوارِي سُيُوفُنا ∗∗∗ وما بَيْنَها والكَعْبِ بَهْوٌ نَفانِفُ
بِعَطْفِ الكَعْبِ عَلى الضَّمِيرِ في بَيْنِها. وحَكى أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ أنَّ المُبَرِّدَ قالَ: لَوْ صَلَّيْتُ خَلْفَ إمامٍ يَقْرَأُ ( واتَّقَوُا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامِ ) بِالجَرِّ، لَأخَذْتُ نَعْلَيَّ ومَضَيْتُ. وقَدْ رَدَّ الإمامُ أبُو نَصْرٍ القُشَيْرِيُّ ما قالَهُ القادِحُونَ في قِراءَةِ الجَرِّ فَقالَ: ومِثْلُ هَذا الكَلامِ مَرْدُودٌ عِنْدَ أئِمَّةِ الدِّينِ؛ لِأنَّ القِراءاتِ الَّتِي قَرَأ بِها أئِمَّةُ القُرّاءِ أُثْبِتَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ تَواتُرًا، ولا يَخْفى عَلَيْكَ أنْ دَعْوى التَّواتُرِ باطِلَةٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ مَن يَعْرِفُ الأسانِيدَ الَّتِي رَوَوْها بِها، ولَكِنْ يَنْبَغِي أنْ يُحْتَجَّ لِلْجَوازِ بِوُرُودِ ذَلِكَ في أشْعارِ العَرَبِ كَما تَقَدَّمَ، وكَما في قَوْلِ بَعْضِهِمْ:
وحَسْبُكَ والضَّحّاكِ سَيْفُ مُهَنَّدُ
وقَوْلِ الآخَرِ:
وقَدْ رامَ آفاقُ السَّماءِ فَلَمْ يَجِدْ ∗∗∗ لَهُ مِصْعَدًا فِيها ولا الأرْضِ مَقْعَدا، وقَوْلِ الآخَرِ:
ما إنْ بِها والأُمُورِ مِن تَلَفٍ
وقَوْلِ الآخَرِ:
أكُرُّ عَلى الكَتِيبَةِ لَسْتُ أدْرِي ∗∗∗ أحَتْفِي كانَ فِيها أمْ سِواها
فَسِواها في مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ في فِيها، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى
﴿وجَعَلْنا لَكم فِيها مَعايِشَ ومَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ﴾ [الحجر: ٢٠] . وأمّا قِراءَةُ النَّصْبِ فَمَعْناها واضِحٌ جَلِيٌّ؛ لِأنَّهُ عَطَفَ الرَّحِمَ عَلى الِاسْمِ الشَّرِيفِ؛ أيِ: اتَّقُوا اللَّهَ واتَّقُوا الأرْحامَ فَلا تَقْطَعُوها، فَإنَّها مِمّا أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ، وقِيلَ: إنَّهُ عَطْفٌ عَلى مَحَلِّ الجارِّ والمَجْرُورِ في قَوْلِهِ: ( بِهِ ) كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وعُمْرًا؛ أيِ: اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وتَتَساءَلُونَ بِالأرْحامِ.
والأوَّلُ أوْلى. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ والأرْحامُ بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرُ مُقَدَّرٌ؛ أيْ: والأرْحامُ صِلُوها أوْ والأرْحامُ أهْلٌ أنْ تُوصَلَ، وقِيلَ: إنَّ الرَّفْعَ عَلى الإغْراءِ عِنْدَ مَن يَرْفَعُ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
إنَّ قَوْمًا مِنهم عَمِيرٌ وأشْبا ∗∗∗ هُ عَمِيرٍ ومِنهُمُ السَّفّاحُ
لَجَدِيرُونَ بِاللِّقاءِ إذا قا ∗∗∗ لَ أخُ النَّجْدَةِ السِّلاحُ السِّلاحُ
والأرْحامُ: اسْمٌ لِجَمِيعِ الأقارِبِ مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ المُحَرَّمِ وغَيْرِهِ، لا خِلافَ في هَذا بَيْنَ أهْلِ الشَّرْعِ ولا بَيْنَ أهْلِ اللُّغَةِ.
وقَدْ خَصَّصَ أبُو حَنِيفَةَ وبَعْضُ الزَّيْدِيَّةِ الرَّحِمَ بِالمُحَرَّمِ في مَنعِ الرُّجُوعِ في الهِبَةِ مَعَ مُوافَقَتِهِمْ عَلى أنَّ مَعْناها أعَمُّ، ولا وجْهَ لِهَذا التَّخْصِيصِ. قالَ القُرْطُبِيُّ: اتَّفَقَتِ المِلَّةُ عَلى أنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ واجِبَةٌ، وأنْ قَطِيعَتَها مُحَرَّمَةٌ انْتَهى.
وقَدْ ورَدَتْ بِذَلِكَ الأحادِيثُ الكَثِيرَةُ الصَّحِيحَةُ. والرَّقِيبُ: المُراقِبُ وهي صِيغَةُ مُبالَغَةٍ، يُقالُ: رَقَبْتُ أرْقُبُ رُقْبَةً ورُقْبانًا: إذا انْتَظَرْتَ.
قَوْلُهُ:
﴿وآتُوا اليَتامى أمْوالَهُمْ﴾ خِطابٌ لِلْأوْلِياءِ والأوْصِياءِ. والإيتاءُ: الإعْطاءُ. واليَتِيمُ: مَن لا أبَ لَهُ. وقَدْ خَصَّصَهُ الشَّرْعُ بِمَن لَمْ يَبْلُغِ الحُلُمَ.
وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعْناهُ في البَقَرَةِ مُسْتَوْفًى، وأطْلَقَ اسْمَ اليَتِيمِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ إعْطائِهِمْ أمْوالَهم، مَعَ أنَّهم لا يُعْطَوْنَها إلّا بَعْدَ ارْتِفاعِ اسْمِ اليُتْمِ بِالبُلُوغِ مَجازًا بِاعْتِبارِ ما كانُوا عَلَيْهِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِاليَتامى المَعْنى الحَقِيقِيَّ، وبِالإيتاءِ ما يَدْفَعُهُ الأوْلِياءُ والأوْصِياءُ إلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ والكُسْوَةِ، لا دَفْعُها جَمِيعِها، وهَذِهِ الآيَةُ مُقَيَّدَةٌ بِالآيَةِ الأُخْرى وهي قَوْلُهُ تَعالى:
﴿فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهم﴾ [النساء: ٦] فَلا يَكُونُ مُجَرَّدُ ارْتِفاعِ اليُتْمِ بِالبُلُوغِ مُسَوِّغًا لِدَفْعِ أمْوالِهِمْ إلَيْهِمْ حَتّى يُؤْنَسَ مِنهُمُ الرُّشْدُ. قَوْلُهُ:
﴿ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ نَهْيٌ لَهم عَنْ أنْ يَصْنَعُوا صُنْعَ الجاهِلِيَّةِ في أمْوالِ اليَتامى، فَإنَّهم كانُوا يَأْخُذُونَ الطَّيِّبَ مِن أمْوالِ اليَتامى ويُعَوِّضُونَهُ بِالرَّدِيءِ مِن أمْوالِهِمْ ولا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وقِيلَ: المَعْنى: لا تَأْكُلُوا أمْوالَ اليَتامى وهي مُحَرَّمَةٌ خَبِيثَةٌ وتَدَعُوا الطَّيِّبَ مِن أمْوالِكم.
وقِيلَ: المُرادُ لا تَتَعَجَّلُوا أكْلَ الخَبِيثِ مِن أمْوالِهِمْ وتَدَعُوا انْتِظارَ الرِّزْقِ الحَلالِ مِن عِنْدِ اللَّهِ. والأوَّلُ أوْلى، فَإنَّ تَبَدُّلَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ في اللُّغَةِ أخْذُهُ مَكانَهُ، وكَذَلِكَ اسْتِبْدالُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿ومَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ١٠٨] وقَوْلُهُ:
﴿أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾ [البقرة: ٦١] .
وأمّا التَّبْدِيلُ فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كَذَلِكَ كَما في قَوْلِهِ:
﴿وبَدَّلْناهم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ وأُخْرى بِالعَكْسِ كَما في قَوْلِكَ: بَدَّلْتُ الحَلْقَةَ بِالخاتَمِ، إذا أذَبْتَها وجَعَلْتَها خاتَمًا، نَصَّ عَلَيْهِ الأزْهَرِيُّ. قَوْلُهُ:
﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهم إلى أمْوالِكم﴾ ذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ في هَذِهِ الآيَةِ هو الخَلْطُ فَيَكُونُ الفِعْلُ مُضَمَّنًا مَعْنى الضَّمِّ؛ أيْ: لا تَأْكُلُوا أمْوالَهم مَضْمُومَةً إلى أمْوالِكم، ثُمَّ نَسَخَ هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وإنْ تُخالِطُوهم فَإخْوانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠] وقِيلَ: إنَّ إلى بِمَعْنى مَعَ كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٥٢] .
والأوَّلُ أوْلى. والحُوبُ: الإثْمُ يُقالُ: حابَ الرَّجُلُ يَحُوبُ حُوبًا: إذا أثِمَ، وأصْلُهُ الزَّجْرُ لِلْإبِلِ، فَسُمِّيَ الإثْمُ حُوبًا لِأنَّهُ يُزْجَرُ عَنْهُ. والحَوْبَةُ: الحاجَةُ. والحُوبُ أيْضًا: الوَحْشَةُ، وفِيهِ ثَلاثُ لُغاتٍ: ضَمُّ الحاءِ وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ. وفَتْحُ الحاءِ وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، قالَ الأخْفَشُ: وهي لُغَةُ تَمِيمٍ. والثّالِثَةُ الحابُ.
وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ حابًا عَلى المَصْدَرِ كَقالَ قالًا. والتَّحَوُّبُ التَّحَزُّنُ، ومِنهُ قَوْلُ طُفَيْلٍ:
فَذُوقُوا كَما ذُقْنا عَداهُ يُحَجَّرُ ∗∗∗ مِنَ الغَيْظِ في أكْبادِنا والتَّحَوُّبِ
قَوْلُهُ:
﴿كَبِيرًا وإنْ خِفْتُمْ ألّا تُقْسِطُوا في اليَتامى فانْكِحُوا﴾ وجْهُ ارْتِباطِ الجَزاءِ بِالشَّرْطِ أنَّ الرَّجُلَ كانَ يَكْفُلُ اليَتِيمَةَ لِكَوْنِهِ ولِيًّا لَها ويُرِيدُ أنْ يَتَزَوَّجَها فَلا يُقْسِطُ لَها في مَهْرِها؛ أيْ: يَعْدِلُ فِيهِ ويُعْطِيها ما يُعْطِيها غَيْرُهُ مِنَ الأزْواجِ، فَنَهاهُمُ اللَّهُ أنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلّا أنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ ويَبْلُغُوا بِهِنَّ أعْلى ما هو لَهُنَّ مِنَ الصَّداقِ، وأُمِرُوا أنْ يَنْكِحُوا ما طابَ لَهم مِنَ النِّساءِ سِواهُنَّ، فَهَذا سَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ كَما سَيَأْتِي، فَهو نَهْيٌ يَخُصُّ هَذِهِ الصُّورَةَ.
وقالَ جَماعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ ناسِخَةٌ لِما كانَ في الجاهِلِيَّةِ وفي أوَّلِ الإسْلامِ مِن أنَّ لِلرَّجُلِ أنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ الحَرائِرِ ما شاءَ، فَقَصَرَهم بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أرْبَعٍ، فَيَكُونُ وجْهُ ارْتِباطِ الجَزاءِ بِالشَّرْطِ أنَّهم إذا خافُوا ألّا يُقْسِطُوا في اليَتامى فَكَذَلِكَ يَخافُونَ ألّا يُقْسِطُوا في النِّساءِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَتَحَرَّجُونَ في اليَتامى ولا يَتَحَرَّجُونَ في النِّساءِ والخَوْفُ مِنَ الأضْدادِ، فَإنَّ المَخُوفَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا، وقَدْ يَكُونُ مَظْنُونًا، ولِهَذا اخْتَلَفَ الأئِمَّةُ في مَعْناهُ في الآيَةِ، فَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ( خِفْتُمْ ) بِمَعْنى أيْقَنْتُمْ. وقالَ آخَرُونَ: ( خِفْتُمْ ) بِمَعْنى ظَنَنْتُمْ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو الَّذِي اخْتارَهُ الحُذّاقُ وأنَّهُ عَلى بابِهِ مِنَ الظَّنِّ لا مِنَ اليَقِينِ، والمَعْنى: مَن غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ التَّقْصِيرُ في العَدْلِ لِلْيَتِيمَةِ فَلْيَتْرُكْها ويَنْكِحْ غَيْرَها. وقَرَأ النَّخَعِيُّ وابْنُ وثّابٍ ( تَقْسِطُوا ) بِفَتْحِ التّاءِ مِن قَسَطَ: إذا جارَ، فَتَكُونُ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى تَقْدِيرِ زِيادَةِ لا، كَأنَّهُ قالَ: وإنْ خِفْتُمْ أنْ تَقْسِطُوا.
وحَكى الزَّجّاجُ أنَّ أقْسَطَ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمالَ قَسَطَ، والمَعْرُوفُ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّ أقْسَطَ بِمَعْنى عَدَلَ، وقَسَطَ بِمَعْنى جارَ، وما في قَوْلِهِ: ما طابَ مَوْصُولَةٌ، وجاءَ بِما مَكانَ مِن؛ لِأنَّهُما قَدْ يَتَعاقَبانِ فَيَقَعُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مَكانَ الآخَرِ كَما في قَوْلِهِ:
﴿والسَّماءِ وما بَناها﴾ [الشمس: ٢] ﴿فَمِنهم مَن يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ﴾ [النور: ٤٥] . وقالَ البَصْرِيُّونَ: إنَّ " ما " تَقَعُ لِلنُّعُوتِ كَما تَقَعُ لِما لا يَعْقِلُ، يُقالُ: ما عِنْدَكَ، فَيُقالُ: ظَرِيفٌ وكَرِيمٌ، فالمَعْنى: فانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّساءِ؛ أيِ: الحَلالَ، وما حَرَّمَهُ اللَّهُ فَلَيْسَ بِطَيِّبٍ، وقِيلَ: إنَّ ما هُنا مُدِّيَّةٌ؛ أيْ: ما دُمْتُمْ مُسْتَحْسِنِينَ لِلنِّكاحِ، وضَعَّفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وقالَ الفَرّاءُ: إنَّ " ما " هاهُنا مَصْدَرِيَّةٌ. قالَ النَّحّاسُ: وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا.
وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ ( فانْكِحُوا مَن طابَ ) . وقَدِ اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ عَلى أنَّ هَذا الشَّرْطَ المَذْكُورَ في الآيَةِ لا مَفْهُومَ لَهُ، وأنَّهُ يَجُوزُ لِمَن لَمْ يَخَفْ أنْ يُقْسِطَ في اليَتامى أنْ يَنْكِحَ أكْثَرَ مِن واحِدَةٍ، ومَن في قَوْلِهِ: مِنَ النِّساءِ إمّا بَيانِيَّةٌ أوْ تَبْعِيضِيَّةٌ؛ لِأنَّ المُرادَ غَيْرُ اليَتائِمِ.
قَوْلُهُ:
﴿مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى البَدَلِ مِن ما كَما قالَهُ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، وقِيلَ عَلى الحالِ، وهَذِهِ الألْفاظُ لا تَتَصَرَّفُ لِلْعَدْلِ والوَصْفِيَّةِ كَما هو مُبَيَّنٌ في عِلْمِ النَّحْوِ. والأصْلُ: انْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وثَلاثًا ثَلاثًا، وأرْبَعًا أرْبَعًا. وقَدِ اسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى تَحْرِيمِ ما زادَ عَلى الأرْبَعِ، وبَيَّنُوا ذَلِكَ بِأنَّهُ خِطابٌ لِجَمِيعِ الأُمَّةِ، وأنَّ كُلَّ ناكِحٍ لَهُ أنْ يَخْتارَ ما أرادَ مِن هَذا العَدَدِ، كَما يُقالُ لِلْجَماعَةِ: اقْتَسِمُوا هَذا المالَ وهو ألْفُ دِرْهَمٍ، أوْ هَذا المالَ الَّذِي في البُدْرَةِ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وثَلاثَةً ثَلاثَةً، وأرْبَعَةً أرْبَعَةً.
وهَذا مُسَلَّمٌ إذا كانَ المَقْسُومُ قَدْ ذُكِرَتْ جُمْلَتُهُ أوْ عُيِّنَ مَكانُهُ، أمّا لَوْ كانَ مُطْلَقًا كَما يُقالُ: اقْتَسِمُوا الدَّراهِمَ، ويُرادُ بِهِ ما كَسَبُوهُ فَلَيْسَ المَعْنى هَكَذا. والآيَةُ مِنَ البابِ الآخَرِ لا مِنَ البابِ الأوَّلِ.
عَلى أنَّ مَن قالَ لِقَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مالًا مُعَيَّنًا كَثِيرًا: اقْتَسِمُوهُ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ، فَقَسَمُوا بَعْضَهُ بَيْنَهم دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وبَعْضَهُ ثَلاثَةً ثَلاثَةً، وبَعْضَهُ أرْبَعَةً أرْبَعَةً كانَ هَذا هو المَعْنى العَرَبِيُّ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ إذا قالَ القائِلُ: جاءَنِي القَوْمُ مَثْنى وهم مِائَةُ ألْفٍ، كانَ المَعْنى أنَّهم جاءُوهُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وهَكَذا في جاءَ القَوْمُ ثُلاثَ ورُباعَ، والخِطابُ لِلْجَمِيعِ بِمَنزِلَةِ الخِطابِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ كَما في قَوْلِهِ: اقْتُلُوا المُشْرِكِينَ
[التوبة: ٥] أقِيمُوا الصَّلاةَ آتُوا الزَّكاةَ ونَحْوِها، فَقَوْلُهُ:
﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ مَعْناهُ لِيَنْكِحْ كُلُّ فَرْدٍ مِنكم ما طابَ لَهُ مِنَ النِّساءِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وثَلاثًا ثَلاثًا، وأرْبَعًا أرْبَعًا، هَذا ما تَقْتَضِيهِ لُغَةُ العَرَبِ. فالآيَةُ تَدُلُّ عَلى خِلافِ ما اسْتَدَلُّوا بِها عَلَيْهِ، ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ الآيَةِ:
﴿فَإنْ خِفْتُمْ ألّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً﴾ فَإنَّهُ وإنْ كانَ خِطابًا لِلْجَمِيعِ فَهو بِمَنزِلَةِ الخِطابِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ.
فالأوْلى أنْ يُسْتَدَلَّ عَلى تَحْرِيمِ الزِّيادَةِ عَلى الأرْبَعِ بِالسُّنَّةِ لا بِالقُرْآنِ. وأمّا اسْتِدْلالُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِالآيَةِ عَلى جَوازِ نِكاحِ التِّسْعِ بِاعْتِبارِ الواوِ الجامِعَةِ، فَكَأنَّهُ قالَ: انْكِحُوا مَجْمُوعَ هَذا العَدَدِ المَذْكُورِ، فَهَذا جَهْلٌ بِالمَعْنى العَرَبِيِّ، ولَوْ قالَ: انْكِحُوا اثْنَتَيْنِ وثَلاثًا وأرْبَعًا كانَ هَذا القَوْلُ لَهُ وجْهٌ وأمّا مَعَ المَجِيءِ بِصِيغَةِ العَدْلِ فَلا، وإنَّما جاءَ سُبْحانَهُ بِالواوِ الجامِعَةِ دُونَ أوْ؛ لِأنَّ التَّخْيِيرَ يُشْعِرُ بِأنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا أحَدُ الأعْدادِ المَذْكُورَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وذَلِكَ لَيْسَ بِمُرادٍ مِنَ النَّظْمِ القُرْآنِيِّ.
وقَرَأ النَّخَعِيُّ ويَحْيى بْنُ وثّابٍ ( ثُلُثَ ورُبُعَ ) بِغَيْرِ ألِفٍ. قَوْلُهُ:
﴿فَإنْ خِفْتُمْ ألّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً﴾ فانْكِحُوا واحِدَةً كَما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ:
﴿فانْكِحُوا ما طابَ﴾ وقِيلَ: التَّقْدِيرُ فالزَمُوا أوْ فاخْتارُوا واحِدَةً.
والأوَّلُ أوْلى، والمَعْنى: فَإنْ خِفْتُمْ ألّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الزَّوْجاتِ في القَسْمِ ونَحْوِهِ فانْكِحُوا واحِدَةً، وفِيهِ المَنعُ مِنَ الزِّيادَةِ عَلى الواحِدَةِ لِمَن خافَ ذَلِكَ. وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ.
قالَ الكِسائِيُّ أيْ: فَواحِدَةٌ تُقْنِعُ، وقِيلَ التَّقْدِيرُ: فَواحِدَةٌ فِيها كِفايَةٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ " واحِدَةٌ " عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: فالمُقْنِعُ واحِدَةٌ. قَوْلُهُ:
﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى واحِدَةٍ؛ أيْ: فانْكِحُوا واحِدَةً أوِ انْكِحُوا ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِنَ السَّرارِيِّ وإنْ كَثُرَ عَدَدُهُنَّ كَما يُفِيدُهُ المَوْصُولُ.
والمُرادُ نِكاحُهُنَّ بِطَرِيقِ المِلْكِ لا بِطَرِيقِ النِّكاحِ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا حَقَّ لِلْمَمْلُوكاتِ في القَسْمِ كَما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ جَعْلُهُ قَسِيمًا لِلْواحِدَةِ في الأمْنِ مِن عَدَمِ العَدْلِ، وإسْنادُ المِلْكِ إلى اليَمِينِ، لِكَوْنِها المُباشِرَةَ لِقَبْضِ الأمْوالِ وإقْباضِها ولِسائِرِ الأُمُورِ الَّتِي تُنْسَبُ إلى الشَّخْصِ في الغالِبِ، ومِنهُ:
إذا ما رايَةٌ نُصِبَتْ لِمَجْدٍ ∗∗∗ تَلَقّاها عَرابَةُ بِاليَمِينِ
قَوْلُهُ:
﴿ذَلِكَ أدْنى ألّا تَعُولُوا﴾ أيْ: ذَلِكَ أقْرَبُ إلى ألّا تَعُولُوا؛ أيْ: تَجُورُوا، مِن عالَ الرَّجُلُ يَعُولُ: إذا مالَ وجارَ، ومِنهُ قَوْلُهم: عالَ السَّهْمُ عَنِ الهَدَفِ، مالَ عَنْهُ، وعالَ المِيزانُ إذا مالَ، ومِنهُ: قالُوا اتَّبَعْنا رَسُولَ اللَّهِ واطَّرَحُوا قَوْلَ الرَّسُولِ وعالُوا في المَوازِينِ. ومِنهُ قَوْلُ أبِي طالِبٍ:
بِمِيزانِ صِدْقٍ لا يَغُلُّ شَعِيرَةً ∗∗∗ لَهُ شاهِدٌ مِن نَفْسِهِ غَيْرُ عائِلِ
ومِنهُ أيْضًا:
فَنَحْنُ ثَلاثَةٌ وثَلاثُ ذَوْدٍ ∗∗∗ لَقَدْ عالَ الزَّمانُ عَلى عِيالِ
والمَعْنى: إنْ خِفْتُمْ عَدَمَ العَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجاتِ، فَهَذِهِ الَّتِي أُمِرْتُمْ بِها أقْرَبُ إلى عَدَمِ الجَوْرِ، ويُقالُ: عالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ: إذا افْتَقَرَ وصارَ عالَةً، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ [التوبة: ٢٨]، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
وما يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِناهُ ∗∗∗ وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ
وقالَ الشّافِعِيُّ
﴿ألّا تَعُولُوا﴾ ألّا تَكْثُرَ عِيالُكم. قالَ الثَّعْلَبِيُّ: وما قالَ هَذا غَيْرُهُ، وإنَّما يُقالُ أعالَ يُعِيلُ: إذا كَثُرَ عِيالُهُ.
وذَكَرَ ابْنُ العَرَبِيِّ أنَّ عالَ تَأْتِي لِسَبْعَةِ مَعانٍ: الأوَّلُ عالَ: مالَ. الثّانِي: زادَ.
الثّالِثُ: جارَ. الرّابِعُ: افْتَقَرَ.
الخامِسُ: أثْقَلَ. السّادِسُ: قامَ بِمَئُونَةِ العِيالِ، ومِنهُ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ:
«وابْدَأْ بِمَن تَعُولُ» .
السّابِعُ عالَ: غَلَبَ، ومِنهُ عِيلَ صَبْرِي، قالَ: ويُقالُ: أعالَ الرَّجُلُ؛ كَثُرَ عِيالُهُ. وأما عالَ بِمَعْنى كَثُرَ عِيالُهُ فَلا يَصِحُّ، ويُجابُ عَنْ إنْكارِ الثَّعْلَبِيِّ لِما قالَهُ الشّافِعِيُّ، وكَذَلِكَ إنْكارُ ابْنِ العَرَبِيِّ لِذَلِكَ، بِأنَّهُ قَدْ سَبَقَ الشّافِعِيَّ إلى القَوْلِ بِهِ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ وهُما إمامانِ مِن أئِمَّةِ المُسْلِمِينَ لا يُفَسِّرانِ القُرْآنَ هُما والإمامُ الشّافِعِيُّ بِما لا وجْهَ لَهُ في العَرَبِيَّةِ.
وقَدْ أخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُما الدّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ. وقَدْ حَكاهُ القُرْطُبِيُّ عَنِ الكِسائِيِّ وأبِي عُمَرَ الدُّورِيِّ وابْنِ الأعْرابِيِّ، وقالَ أبُو حاتِمٍ: كانَ الشّافِعِيُّ أعْلَمَ بِلُغَةِ العَرَبِ مِنّا ولَعَلَّهُ لُغَةٌ.
وقالَ الثَّعْلَبِيُّ: قالَ أُسْتاذُنا أبُو القاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ: سَألْتُ أبا عُمَرَ الدُّورِيَّ عَنْ هَذا وكانَ إمامًا في اللُّغَةِ غَيْرَ مُدافَعٍ، فَقالَ: هي لُغَةُ حِمْيَرٍ، وأنْشَدَ:
وإنَّ المَوْتَ يَأْخُذُ كُلَّ حَيٍّ ∗∗∗ بِلا شَكٍّ وإنْ أمَشى وعالا
أيْ: وإنْ كَثُرَتْ ماشِيَتُهُ وعِيالُهُ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ ( أنْ لا تُعِيلُوا ) قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَدَحَ الزَّجّاجُ في تَأْوِيلِ عالَ مِنَ العِيالِ بِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قَدْ أباحَ كَثْرَةَ السَّرارِيِّ، وفي ذَلِكَ تَكْثِيرُ العِيالِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أقْرَبَ إلى أنْ لا يُكْثِرُوا، وهَذا القَدْحُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأنَّ السَّرارِيَّ إنَّما هي مالٌ يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِالبَيْعِ، وإنَّما العِيالُ: الحَرائِرُ ذَواتُ الحُقُوقِ الواجِبَةِ.
وقَدْ حَكى ابْنُ الأعْرابِيِّ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: عالَ الرَّجُلُ إذا كَثُرَ عِيالُهُ، وكَفى بِهَذا. وقَدْ ورَدَ عالَ لَمَعانٍ غَيْرِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرَها ابْنُ العَرَبِيِّ، مِنها عالَ: اشْتَدَّ وتَفاقَمَ، حَكاهُ الجَوْهَرِيُّ، وعالَ الرَّجُلُ في الأرْضِ: إذا ضَرَبَ فِيها، حَكاهُ الهَرَوِيُّ، وعالَ: إذا أعْجَزَ، حَكاهُ الأحْمَرُ، فَهَذِهِ ثَلاثَةُ مَعانٍ غَيْرُ السَّبْعَةِ، والرّابِعُ عالَ كَثُرَ عِيالُهُ، فَجُمْلَةُ مَعانِي عالَ أحَدَ عَشَرَ مَعْنًى.
قَوْلُهُ:
﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ الخِطابُ لِلْأزْواجِ، وقِيلَ: لِلْأوْلِياءِ. والصَّدُقاتُ بِضَمِّ الدّالِ جَمْعُ صَدَقَةٍ كَثَمَرَةٍ، قالَ الأخْفَشُ: وبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: صَدَقَةٌ والجَمَعُ صَدَقاتٌ، وإنْ شِئْتَ فَتَحْتَ وإنْ شِئْتَ أسْكَنْتَ.
والنِّحْلَةُ بِكَسْرِ النُّونِ وضَمِّها لُغَتانِ، وأصْلُها العَطاءُ نَحَلْتُ فُلانًا: أعْطَيْتُهُ، وعَلى هَذا فَهي مَنصُوبَةٌ عَلى المَصْدَرِيَّةِ؛ لِأنَّ الإيتاءَ بِمَعْنى الإعْطاءِ، وقِيلَ: النِّحْلَةُ التَّدَيُّنُ فَمَعْنى ( نِحْلَةً ) تَدَيُّنًا، قالَهُ الزَّجّاجُ، وعَلى هَذا فَهي مَنصُوبَةٌ عَلى المَفْعُولِ لَهُ. وقالَ قَتادَةُ: النِّحْلَةُ الفَرِيضَةُ، وعَلى هَذا فَهي مَنصُوبَةٌ عَلى الحالِ، وقِيلَ: النِّحْلَةُ طِيبَةُ النَّفْسِ، قالَ أبُو عُبَيْدٍ: ولا تَكُونُ النِّحْلَةُ إلّا عَنْ طِيبَةِ نَفْسٍ.
ومَعْنى الآيَةِ عَلى كَوْنِ الخِطابِ لِلْأزْواجِ: أعْطُوا النِّساءَ اللّاتِي نَكَحْتُمُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي لَهُنَّ عَلَيْكم عَطِيَّةً أوْ دِيانَةً مِنكم أوْ فَرِيضَةً عَلَيْكم أوْ طِيبَةً مِن أنْفُسِكم. ومَعْناها عَلى كَوْنِ الخِطابِ لِلْأوْلِياءِ: أعْطُوا النِّساءَ مِن قَراباتِكُمُ الَّتِي قَبَضْتُمْ مُهُورَهُنَّ مِن أزْواجِهِنَّ تِلْكَ المُهُورَ.
وقَدْ كانَ الوَلِيُّ يَأْخُذُ مَهْرَ قَرِيبَتِهِ في الجاهِلِيَّةِ ولا يُعْطِيها شَيْئًا، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي صالِحٍ والكَلْبِيِّ. والأوَّلُ أوْلى لِأنَّ الضَّمائِرَ مِن أوَّلِ السِّياقِ لِلْأزْواجِ.
وفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الصَّداقَ واجِبٌ عَلى الأزْواجِ لِلنِّساءِ، وهو مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَما قالَ القُرْطُبِيُّ، قالَ: وأجْمَعَ العُلَماءُ أنَّهُ لا حَدَّ لِكَثِيرِهِ، واخْتَلَفُوا في قَلِيلِهِ. وقَرَأ قَتادَةُ ( صُدْقاتِهِنَّ ) بِضَمِّ الصّادِ وسُكُونِ الدّالِ.
وقَرَأ النَّخَعِيُّ وابْنُ وثّابٍ بِضَمِّهِما. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ الصّادِ وضَمِّ الدّالِ.
قَوْلُهُ:
﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ الضَّمِيرُ في مِنهُ راجِعٌ إلى الصَّداقِ الَّذِي هو واحِدُ الصَّدُقاتِ، أوْ إلى المَذْكُورِ وهو الصَّدُقاتُ، أوْ هو بِمَنزِلَةِ اسْمِ الإشارَةِ، كَأنَّهُ قالَ مِن ذَلِكَ، ونَفْسًا: تَمْيِيزٌ. وقالَ أصْحابُ سِيبَوَيْهِ: مَنصُوبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ لا تَمْيِيزٌ؛ أيْ: أعْنِي نَفْسًا. والأوَّلُ أوْلى. وبِهِ قالَ الجُمْهُورُ.
والمَعْنى: فَإنْ طِبْنَ؛ أيِ: النِّساءُ لَكم أيُّها الأزْواجُ أوِ الأوْلِياءُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ المَهْرِ
﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ وفي قَوْلِهِ: طِبْنَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُعْتَبَرَ في تَحْلِيلِ ذَلِكَ مِنهُنَّ لَهم إنَّما هو طِيبَةُ النَّفْسِ لا مُجَرَّدَ ما يَصْدُرُ مِنها مِنَ الألْفاظِ الَّتِي لا يَتَحَقَّقُ مَعَها طِيبَةُ النَّفْسِ، فَإذا ظَهَرَ مِنها ما يَدُلُّ عَلى عَدَمِ طِيبَةِ نَفْسِها لَمْ يَحِلَّ لِلزَّوْجِ ولا لِلْوَلِيِّ، وإنْ كانَتْ قَدْ تَلَفَّظَتْ بِالهِبَةِ أوِ النَّذْرِ أوْ نَحْوِهِما. وما أقْوى دَلالَةَ هَذِهِ الآيَةِ عَلى عَدَمِ اعْتِبارِ ما يَصْدُرُ مِنَ النِّساءِ مِنَ الألْفاظِ المُفِيدَةِ لِلتَّمْلِيكِ بِمُجَرَّدِها لِنُقْصانِ عُقُولِهِنَّ وضَعْفِ إدْراكِهِنَّ وسُرْعَةِ انْخِداعِهِنَّ وانْجِذابِهِنَّ إلى ما يُرادُ مِنهُنَّ بِأيْسَرِ تَرْغِيبٍ أوْ تَرْهِيبٍ.
وقَوْلُهُ:
﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ مَنصُوبانِ عَلى أنَّهُما صِفَتانِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: أكْلًا هَنِيئًا مَرِيئًا أوْ قائِمانِ مَقامَ المَصْدَرِ، أوْ عَلى الحالِ، يُقالُ: هَنّاهُ الطَّعامُ والشَّرابُ يُهَنِّيهِ، ومَرَأهُ وأمْرَأهُ مِنَ الهَنِيءِ والمَرِيءِ، والفِعْلُ هَنَأ ومَرَأ؛ أيْ: أتى مِن غَيْرِ مَشَقَّةٍ ولا غَيْظٍ، وقِيلَ: هو الطَّيِّبُ الَّذِي لا تَنْغِيصَ فِيهِ، وقِيلَ: المَحْمُودُ العاقِبَةِ الطَّيِّبُ الهَضْمِ، وقِيلَ: ما لا إثْمَ فِيهِ، والمَقْصُودُ هُنا أنَّهُ حَلالٌ لَهم خالِصٌ عَنِ الشَّوائِبِ، وخَصَّ الأكْلَ لِأنَّهُ مُعْظَمُ ما يُرادُ بِالمالِ وإنْ كانَ سائِرُ الِانْتِفاعاتِ بِهِ جائِزَةً كالأكْلِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ:
﴿خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ قالَ: آدَمُ
﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ قالَ: حَوّاءُ مِن قَصِيرَيْ آدَمَ؛ أيْ: قَصِيرَيْ أضْلاعِهِ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ قالَ: خُلِقَتْ حَوّاءُ مِن خُلْفِ آدَمَ الأيْسَرِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الضَّحّاكِ قالَ: مِن ضِلْعِ الخُلْفِ وهو مِن أسْفَلِ الأضْلاعِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ
﴿واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ﴾ قالَ: تَعاطَوْنَ بِهِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ قالَ: تُعاقِدُونَ وتُعاهِدُونَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: يَقُولُ أسْألُكَ بِاللَّهِ والرَّحِمِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الحَسَنِ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ واتَّقُوا الأرْحامَ وصِلُوها.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكم رَقِيبًا﴾ قالَ: حَفِيظًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: إنَّ رَجُلًا مِن غَطَفانَ كانَ مَعَهُ مالٌ كَثِيرٌ لِابْنِ أخٍ لَهُ، فَلَمّا بَلَغَ اليَتِيمُ طَلَبَ مالَهُ فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَخاصَمَهُ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ
﴿وآتُوا اليَتامى أمْوالَهُمْ﴾ يَعْنِي الأوْصِياءَ، يَقُولُ: أعْطُوا اليَتامى أمْوالَهم
﴿ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ يَقُولُ: لا تَسْتَبْدِلُوا الحَرامَ مِن أمْوالِ النّاسِ بِالحَلالِ مِن أمْوالِكم، يَقُولُ: لا تَذَرُوا أمْوالَكُمُ الحَلالَ وتَأْكُلُوا أمْوالَهُمُ الحَرامَ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: لا تَعْجَلْ بِالرِّزْقِ الحَرامِ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَكَ الحَلالُ الَّذِي قُدِّرَ لَكَ
﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهم إلى أمْوالِكُمْ﴾ قالَ: مَعَ أمْوالِكم تَخْلِطُونَها فَتَأْكُلُونَها جَمِيعًا
﴿إنَّهُ كانَ حُوبًا﴾ إثْمًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في الآيَةِ قالَ: كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ لا يُوَرِّثُونَ النِّساءَ ولا يُوَرِّثُونَ الصِّغارَ يَأْخُذُهُ الأكْبَرُ، فَنَصِيبُهُ مِنَ المِيراثِ طَيِّبٌ وهَذا الَّذِي يَأْخُذُ خَبِيثٌ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ قالَ: مَعَ أمْوالِكم. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الحَسَنِ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أمْوالِ اليَتامى كَرِهُوا أنْ يُخالِطُوهم، وجَعَلَ ولِيُّ اليَتِيمِ يَعْزِلُ مالَ اليَتِيمِ عَنْ مالِهِ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ
﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ اليَتامى قُلْ إصْلاحٌ لَهم خَيْرٌ وإنْ تُخالِطُوهم فَإخْوانُكم﴾ [البقرة: ٢٢٠] قالَ: فَخالَطُوهم.
وأخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما: أنَّ عُرْوَةَ سَألَ عائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ:
﴿وإنْ خِفْتُمْ ألّا تُقْسِطُوا في اليَتامى﴾ قالَتْ: يا ابْنَ أُخْتِي هَذِهِ اليَتِيمَةُ تَكُونُ في حَجْرِ ولَيِّها تُشْرِكُهُ في مالِها ويُعْجِبُهُ مالُها وجَمالُها، فَيُرِيدُ ولَيُّها أنْ يَتَزَوَّجَها بِغَيْرِ أنْ يُقْسِطَ في صَداقِها، فَيُعْطِيَها مِثْلَ ما يُعْطِيها غَيْرُهُ، فَنُهُوا عَنْ أنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلّا أنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ ويَبْلُغُوا بِهِنَّ أعْلى سُنَنِهِنَّ في الصَّداقِ، وأُمِرُوا أنْ يَنْكِحُوا ما طابَ لَهم مِنَ النِّساءِ سِواهُنَّ،
«وأنَّ النّاسَ قَدِ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ويَسْتَفْتُونَكَ في النِّساءِ﴾»
[النساء: ١٢٧] قالَتْ عائِشَةُ: وقَوْلُ اللَّهِ في الآيَةِ الأُخْرى
﴿وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ رَغْبَةُ أحَدِكم عَنْ يَتِيمَتِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ المالِ والجَمالِ، فَنُهُوا أنْ يَنْكِحُوا مَن رَغِبُوا في مالِهِ وجَمالِهِ مِن باقِي النِّساءِ إلّا بِالقِسْطِ مِن أجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ إذا كُنَّ قَلِيلاتِ المالِ والجَمالِ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ عَنْ عائِشَةَ: أنَّ رَجُلًا كانَتْ لَهُ يَتِيمَةٌ فَنَكَحَها وكانَ لَها عَذْقٌ فَكانَ يُمْسِكُها عَلَيْهِ ولَمْ يَكُنْ لَها مِن نَفْسِهِ شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ
﴿وإنْ خِفْتُمْ ألّا تُقْسِطُوا في اليَتامى﴾ أحْسَبُهُ قالَ: كانَتْ شَرِيكَتَهُ في ذَلِكَ العَذْقِ وفي مالِهِ.
وقَدْ رُوِيَ هَذا المَعْنى مِن طُرُقٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِن طَرِيقِ العَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: كانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ بِمالِ اليَتِيمِ ما شاءَ اللَّهُ تَعالى، فَنَهى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: قَصَرَ الرِّجالَ عَلى أرْبَعِ نِسْوَةٍ مِن أجْلِ أمْوالِ اليَتامى. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في قَوْلِهِ:
﴿وإنْ خِفْتُمْ ألّا تُقْسِطُوا في اليَتامى﴾ قالَ: كانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ ما شاءَ فَقالَ: كَما تَخافُونَ ألّا تَعْدِلُوا في اليَتامى فَخافُوا ألّا تَعْدِلُوا فِيهِنَّ فَقَصَرَهم عَلى الأرْبَعِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: كانُوا في الجاهِلِيَّةِ يَنْكِحُونَ عَشْرًا مِنَ النِّساءِ الأيامى، وكانُوا يُعَظِّمُونَ شَأْنَ اليَتِيمِ، فَتَفَقَّدُوا مِن دِينِهِمْ شَأْنَ اليَتامى وتَرَكُوا ما كانُوا يَنْكِحُونَ في الجاهِلِيَّةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: كَما خِفْتُمْ ألّا تَعْدِلُوا في اليَتامى فَخافُوا ألّا تَعْدِلُوا في النِّساءِ إذا جَمَعْتُمُوهُنَّ عِنْدَكم.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ عَنْهُ قالَ: فَإنْ خِفْتُمُ الزِّنا فانْكِحُوهُنَّ، يَقُولُ: كَما خِفْتُمْ في أمْوالِ اليَتامى ألّا تُقْسِطُوا فِيها فَكَذَلِكَ فَخافُوا عَلى أنْفُسِكم ما لَمْ تَنْكِحُوا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي مالِكٍ
﴿ما طابَ لَكُمْ﴾ قالَ: ما أُحِلَّ لَكم. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الحَسَنِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عائِشَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ الشّافِعِيُّ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَهْ والنَّحّاسُ في ناسِخِهِ والدّارَقُطْنِيُّ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
«أنَّ غَيْلانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أسْلَمَ وتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: اخْتَرْ مِنهُنَّ - وفي لَفْظٍ - أمْسِكْ مِنهُنَّ - أرْبَعًا وفارِقْ سائِرَهُنَّ» هَذا الحَدِيثُ أخْرَجَهُ هَؤُلاءِ المَذْكُورُونَ مِن طُرُقٍ عَنْ إسْماعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ وغُنْدَرٍ وزَيْدِ بْنِ زُرَيْعٍ وسَعِيدِ بْنِ أبِي عَرُوبَةَ وسُفْيانَ الثَّوْرِيِّ وعِيسى بْنِ يُونُسَ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ المُحارِبِيِّ والفَضْلِ بْنِ مُوسى وغَيْرِهِمْ مِنَ الحُفّاظِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سالِمٍ عَنْ أبِيهِ فَذَكَرَهُ.
وقَدْ عَلَّلَ البُخارِيُّ هَذا الحَدِيثَ فَحَكى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ أنَّهُ قالَ: هَذا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. والصَّحِيحُ ما رُوِيَ عَنْ شُعَيْبٍ وغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوِيدٍ الثَّقَفِيِّ أنَّ غَيْلانَ بْنَ سَلَمَةَ، فَذَكَرَهُ، وأمّا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أبِيهِ: أنَّ رَجُلًا مِن ثَقِيفٍ طَلَّقَ نِساءَهُ فَقالَ لَهُ عُمَرُ: لَأرْجُمَنَّ قَبْرَكَ كَما رُجِمَ قَبْرُ أبِي رِغالٍ.
وقَدْ رَواهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا، وهَكَذا رَواهُ مالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا. قالَ أبُو زُرْعَةَ: وهو أصَحُّ. ورَواهُ عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ بَلَغَنا عَنْ عُثْمانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي سُوِيدٍ قالَ: أبُو حاتِمٍ: وهَذا وهْمٌ، إنَّما هو الزُّهْرِيُّ بَلَّغَنا عَنْ عُثْمانَ بْنِ أبِي سُوِيدٍ. وقَدْ سامَهُ أحْمَدُ بِرِجالِ الصَّحِيحِ فَقالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ ومُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قالا: حَدَّثَنا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ أبُو جَعْفَرٍ في حَدِيثِهِ: أخْبَرَنا ابْنُ شِهابٍ عَنْ سالِمٍ عَنْ أبِيهِ أنَّ غَيْلانَ فَذَكَرَهُ وقَدْ رُوِيَ مِن غَيْرِ طَرِيقِ مَعْمَرٍ والزُّهْرِيِّ، فَأخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ عَنْ أيُّوبَ عَنْ نافِعٍ وسالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ غَيْلانَ. . . فَذَكَرَهُ.
وأخْرَجَ أبُو داوُدَ وابْنُ ماجَهْ في سُنَنِهِما عَنْ عُمَيْرٍ الأسَدِيِّ قالَ:
«أسْلَمْتُ وعِنْدِي ثَمانُ نِسْوَةٍ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَقالَ: اخْتَرْ مِنهُنَّ أرْبَعًا». قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إنَّ إسْنادَهُ حَسَنٌ.
وأخْرَجَ الشّافِعِيُّ في مُسْنَدِهِ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعاوِيَةَ الدِّيلِيِّ قالَ:
«أسْلَمْتُ وعِنْدِي خَمْسُ نِسْوَةٍ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أمْسِكْ أرْبَعًا وفارِقِ الأُخْرى». وأخْرَجَ ابْنُ ماجَهْ والنَّحّاسُ في ناسِخِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ الحارِثِ الأسَدِيِّ قالَ:
«أسْلَمْتُ وكانَ تَحْتِي ثَمانُ نِسْوَةٍ، فَأتَيْتُ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَأخْبَرْتُهُ، فَقالَ: اخْتَرْ مِنهُنَّ أرْبَعًا وخَلِّ سائِرَهُنَّ، فَفَعَلْتُ» وهَذِهِ شَواهِدُ لِلْحَدِيثِ الأوَّلِ كَما قالَ البَيْهَقِيُّ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ الحَكَمِ قالَ: أجْمَعَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَلى أنَّ المَمْلُوكَ لا يَجْمَعُ مِنَ النِّساءِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في الآيَةِ يَقُولُ: إنْ خِفْتَ ألّا تَعْدِلَ في أرْبَعٍ فَثَلاثٌ وإلّا فَثِنْتَيْنِ وإلّا فَواحِدَةٌ، فَإنْ خِفْتَ ألّا تَعْدِلَ في واحِدَةٍ فَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنِ الضَّحّاكِ
﴿فَإنْ خِفْتُمْ ألّا تَعْدِلُوا﴾ قالَ: في المُجامَعَةِ والحُبِّ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ:
﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكم﴾ قالَ: السَّرارِيُّ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ عَنْ عائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ
«﴿ذَلِكَ أدْنى ألّا تَعُولُوا﴾ قالَ: ألّا تَجُورُوا» .
قالَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ: قالَ أبِي: هَذا حَدِيثٌ خَطَأٌ، والصَّحِيحُ عَنْ عائِشَةَ مَوْقُوفٌ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ:
﴿ألّا تَعُولُوا﴾ قالَ: ألّا تَمِيلُوا.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: ألّا تَمِيلُوا، ثُمَّ قالَ: أما سَمِعْتَ قَوْلَ أبِي طالِبٍ:
بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَخِيسُ شَعِيرَةً ∗∗∗ ووازِنِ صِدْقٍ وزْنُهُ غَيْرُ عائِلِ
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُجاهِدٍ: قالَ: ألّا تَمِيلُوا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْ أبِي رَزِينٍ وأبِي مالِكٍ والضَّحّاكِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ في الآيَةِ، قالَ: ذَلِكَ أدْنى ألّا يَكْثُرَ مَن تَعُولُوا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: قالَ: ألّا تَفْتَقِرُوا.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي صالِحٍ قالَ: كانَ الرَّجُلُ إذا زَوَّجَ أيِّمَةً أخَذَ صَداقَها دُونَها، فَنَهاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ونَزَلَتْ
﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: نِحْلَةً قالَ: يَعْنِي بِالنِّحْلَةِ المَهْرَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عائِشَةَ نِحْلَةً قالَتْ: واجِبَةٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ قالَ: فَرِيضَةً مُسَمّاةً. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم﴾ قالَ: هي لِلْأزْواجِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ
﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ﴾ قالَ: مِنَ الصَّداقِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ
﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا﴾ يَقُولُ: إذا كانَ مِن غَيْرِ ضِرارٍ ولا خَدِيعَةٍ فَهو هَنِيءٌ مَرِيءٌ كَما قالَ اللَّهُ.