الباحث القرآني

لما وَصَّى في الآية السابقة بالأرحام وصَّى في هذه الآية بالأيتام؛ لأنهم قد صاروا بحيثُ لا كافِلَ لهم ولا مُشْفِقَ فيهم - أسوأ حلاً ممن له رحم، فإنه عطفه عليه، وهذا خطاب الأولياء والأوصياء. قالوا: إن اليتيم من لا أب له ولا جد، والإيتاء: الإعطاء قال أبو زيد: أتَوْتُ الرجلَ آتُوه إتاوَةٌ، وهي الرّشوة. وقال الزمخشري: الأيتام الذين مات آباؤهم، وَالايُتْمُ: الانفراد، ومنه الرملة اليتيمة، والدُّرة اليتيمة. وقيل: [اليتيم] في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات. قال: وحق هذا الاسم أن يقع على الضعفاء والكبار لمن يبقى معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنَّ في العرف اختصّ هذا الاسم بمن لم يبلغ، فإذا صار مستعينً بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافله، زال عنه هذا الاسم؛ وكانت قريش تقول لرسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يَتِيم أبي طَالِبٍ، إمَّا على القياس، وإما حكاية للحال التي كان عليها حين صغره ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له. وأما على قوله عليه السلام: «لاَ يتم بَعْدَ بُلُوغ» فهو تعليم للشريعة لا تعليم للغة. وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه: إذا أونِسَ منه الرشد انقطع يتمه. وفي بعض الروايات: إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعدُ [فأخبر ابن عباس] أن اسم اليتيم يلزمه بعد البلوغ، إذا لم يؤنس منه الرُّشْدُ، ثم قال أبو بكر: «واسم اليتم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها» . قال عليه السلام: «تستأمر اليتيمة في نفسها» وهي لا تستمر إلاَّ وهي بالغة. قال الشاعر: [الرجز] 1732 - إنَّ الْقُبٌورَ تَنْكِحُ الأيَامى ... النِّسْوَةَ ولأرَمِلَ الْيَتَامَى فالحاصل أنّ اسم اليتيم بحسب اللُّغة يتناول الصغير والكبير. فإن قيل: كيف جُمِعَ اليتيمُ على يتامى؟ واليتيم فعيل: فيجمع على فعلى، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى؟ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فيه وجهان. أحدهما: أن يقال: إن جمع اليتيم، يَتْامَى، ثمّ يجمع فعلى على فَعَالَى كأسير وأسَارِى. والثاني: أن نقول: جمع اليتيم يتائم؛ لأن اليتيم جار مجرى الاسم نحو «صاحب» و «فارس» ثم تنقلب «اليتائم» «يتامى» . قال القفّال: «ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى، ويجوز أيضاً يتيم وأيتام كشريف وأشراف» . فإن قيل: إن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيماً، فكيف قال: ﴿وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ﴾ . فالجوابُ من وجهين: الأول: أن يقال: المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا، وسمَّاهم لله - تعلى - يتامى، إما على أصل اللغة، وإما لقرب عهدهم باليُتْم، وإن كان قد زال من هذا الوقت كقوله تعالى: ﴿وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ﴾ [الأعراف: 120] . أي: الذين كانوا سحرة قبل السُّجود، وأيضاً سمَّى اللهُ تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ [الطلاق: 2] والمعنى مقاربة الأجل، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: 6] والإشهاد عليهم لا يصح قبل البلوغ. الوجه الثاني: أن يقال: المراد باليتامى الصِّغار، وعلى هذا ففي الآية وجهان: أحدهما: أن قوله «وَآتَوَا» أمر، والأمر يتناول المستقبل فيكون المعنى: أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم. فتزول المناقضة. والثاني: أنَّ المُرَاد: وآتوا اليتامى حال كونهم يَتَامَى ما يحتاجونه مِنْ نفقتهم وكسوتهم، والفائدة فيه: أنه كان يجوز أن يظنّ أنّه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال صغره، فباح اللهُ - تعالى - ذلك، وفيه إشكال وهو: أنه لو كان المراد ذلك لقال: وآتوهم من أموالهم، والآية تَدُلُّ على إيتائهم كل مالهم. فصل نقل أبو بكر الرازيُّ في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم، وعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى، فَشَكَوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزل اللهُ تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: 220] . فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. قال المفسرون: الصحيح أنها «نزلت في رجل من غطفان، كان معه كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمُّهُ فترافعا إلى النَّبيِّ صلى لله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فلما علمها العَمُّ قال: أطَعْنَا لرَّسُولَ، نعوذ بالله من الحُوب الكبير، ودفع إليه ماله فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيطعْ رَبَّهُ هكذا فإنَّهُ يَحِلُّ دَارَهُ «أي: جَنَّتهُ، فلما قبض الصَّبِيُّ ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى لله عليه وسلم» ثَبَتَ الأجْرُ وَبَقِيَ الوِزْرُ» . قال القرطبيُّ: وإيتاء اليتامى أموالهم يكون من وجهين: أحدهما: إجراء الطَّعام والكسوة ما دامت الولاية، إذْ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي كالصغير والسفيه الكبير. والثاني: الإيتاء بالتمكين وتسليم المال إليه، وذلك عند ابتلاء والإرشاد وتكون تسميته حينئذ يتيماً مجازاً بمعنى: الَّذي كان يتيماً استصحاباً للاسم، كقوله ﴿فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ﴾ [الشعراء: 46] أي الذين كانوا سحرة، وكان يقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» يتيم أبي طالب «فإذا تحقَّقَ الوليّ رشده حَرُمَ عليه إمساك ماله عنه. قال أبو حنيفة: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، أعطي ماله على كل حال؛ لأنَّه يصير جداً. قوله: ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ﴾ وقد تقدَّم في البقرة قوله: ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: 59] أنَّ المجرور بالباء هو المتروك، والمنصوب هو الحاصل، وتفعل هنا بمعنى استفعل، وهو كثير، نحو تَعَجَّل وَتََأَخَّرَ بمعنى استعجل واستأخر ومن مجيء تبدَّلَ بمعنى اسْتَبْدَلَ قولُ ذي الرمة: [الطويل] 1733 - فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا ... عَنِ الدَّارِ وَالمُسْتَخْلَفِ الْمَتِبَدِّلِ أي: المستبدل. قل الواحدي:» تبدل الشَّيء بالشيء إذا أخذ مكانه» . قوله: «بالطّيب» . هو المفعول الثاني ل «تتبدلوا» . وفي معنى هذا التبدُّل وجوه: الأول: قال الفرّاء والزَّجَّاج: لا تستبدلوا الحرام، وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي لأبيح لكم. الثاني: قل سعيد بن المسيب والنخعي والزهْري والأسُّدِّيُّ: وكان ولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتم ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد، ويجعل مكانه الزيف، يقول: درهم بدرهم، فَنُهُوا عن ذلك. وطعن الزمخشريُّ: في هذا الوجه فقال: ليس هذا تَبَدُّلاً، إنما هو تبديل. الثالث: أن يكون صديقه فيأخذ منه نعجة عجفاء مكان سمينة من مال الصبي. الرابع: معناه لا تأكلوا مال اليتيم سلفاً مع التزام بَدَلِهِ بعد ذلك. فصل قل أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «الطيِّب» في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الحلال كهذه الآية. الثاني: بمعنى الظَّاهر كقوله تعالى: ﴿صَعِيداً طَيِّباً﴾ [النساء: 43] أي: ظاهراً. الثالث: بمعنى الحَسَن قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10] أي: الحسن، ومثله ﴿والطيبات لِلطَّيِّبِينَ﴾ [النور: 26] أي: الكلام الحسن للمؤمنين. الرابع: الطيِّبَ: المؤمن قال تعالى: ﴿حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب﴾ [آل عمران: 179] يعني: الكافر من المؤمن. قوله: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ في قوله ثلاثة أوجه: أحدها: أن «إلى» بمعنى «مع» كقوله: ﴿إِلَى المرافق﴾ [المائدة: 6] ، وهذا رأي الكوفيين. الثاني: أنها على بابها وهي ومجرورها متعلّقة بمحذوف على أنَّه حال، أي: مضمومة، أو مضافة إلى أموالكم. الثالث: أن يضمَّن «تأكلوا» بمعنى «تضموا» كأنه قيل: ولا تَضمُّوها إلى أموالكم آكلين. قال الزمخشري: «فإن قلت: قد حَرَّمَ عليهم أكل مال اليتامى، فدخل فيه أكله وحده ومع أموالهم، فَلِمَ ورد النهي عن أكلها معها؟ قلت:» لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله - تعالى - من الحلال، وهم من ذلك يَطْعمون منها، كان القبحُ أبلغ والذمُّ ألحق، ولأنهم كنوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم، وَنَّعَ بهم ليكون زجر لهم» . واعلم أنه تعالى، وَإن ذكر الأكل، فالمرادُ به سائر التصرفات المملكة للمال، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع التصرف لأجله. قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوباً﴾ في الهاء ثلاثة أوجه: حده: أنها تعود على الأكل المفهوم، من «لا تأكلوا» . الثَّاني: على التبدُّلِ المفهوم من «لا تَتَبَدَّلُوا الخبيث» . الثالث: عليهما ذهاباً به مذهب اسم الإشارة نحو: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك ﴾ [البقرة: 68] ومنه: [الرجز] 1714 - كأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ ... وقد تقدم ذلك في البقرة، والأول أولى لأنه أقرب مذكور. وقرأ الجمهور «حُوبً» بضم الحاءِ، ولحسن بفتحها، وبعضهم: «حَباً» بالألف، وهي لغت في المصدر، والفتح لغة تميم. ونظير الحوْب والحاب، والقول والقال، والطُّرد والطَّرْد - وهو لإثم - وقيل: المضموم اسم مصدر، [والمفتوح مصدر] وصله من حوب الأبل، وهو زجرها فسُمِّي به لإثم؛ لأنه يزجر به، ويطلق على الذَّنب أيضاً؛ لأنه يزجر عنه، ومنه قول عليه السلام: «إنَّ طَلاقَ أمِّ أيُّوبَ لَحُوبْ» أي: لذنب عظيم. وقل القرطبي: والحوبُ الوحشة، ومنه قوله عليه السَّلام أبي أيوب «إن طلاق أم أيوب لحوب» . قال القفال: وكأن أصل لكلمةِ من لتَّحوُّبِ وهو التَّوجُّعُ، فالحوبُ هو ارتكاب ما يتوجَّعُ لمرتكبُ منه، يقال: حَابَ يَحُوب، حَوْباً، وحَاباً وحِيابة. قال المخبل السعدي: [الطويل] 1735 - فلا يَدْخُلَنَّ الدَّهْرَ قَبْرَكَ حُوبُ ... فَإنَّكَ تَلْقَاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ وقال آخر [الوافر] 1736 - وإنّ مُهَاجِرَيْنِ تَكَنَّفَاهُ ... غَدَاتَئِذٍ لَقَدْ خَطِئَا وَحَابَا والحَوْبةُ: المرة الواحدة، والحَوْبَةُ: الحاجة، ومنه في الدعاء «إليكَ أرفع حَوْبَتِي» ، وأوقْعَ اللهُ الْحَوْبَة، و «تحوَّب فلان» إذا خرج من الحَوْب كتحرَّج وتَأَثَّمَ، والتضعيف للسَّلْبِ، و «الحَوِأب» بهمزة بعد الواو المكان الواسع والحوب الحاجة، يقال: ألحق اللهُ به الحوبةَ، أي: [المسألة] والحاجة، والمسكنة ومنه قولهم باب بحيبة سوء، وأصل الياء الواو، وتحوَّب فلان أي: تعبد وألقى الحوب عن نفسه، والتحوُّب أيضاً التحزُّن، وهو أيضاً الصياحُ الشديد كالزَّجْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب