الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ الآية. تعلقت الوعيدية [[هم قوم من المعتزلة وغيرهم غلبوا جانب الوعيد في النصوص الشرعية وأغفلوا جانب الوعد. انظر "مقالات الإسلاميين" ص 274، 276.]] بهذه الآية، وقالت: أخبر الله تعالى أن عصاةَ أهل الصلاة إذا أهملوا أمرهم إلى انقضاء آجالهم حصلوا على عذاب الآخرة مع الكفار؛ لأنه جمعهم في قوله: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [[انظر: "الكشاف" 1/ 257.]]. والجواب: ليس الأمر على ما زعمتم، فقد قال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ يريد الشرك [[لم أجده عن ابن عباس من رواية عطاء، لكن ثبت معناه عنه من طريق علي ابن أبي طلحة قال: قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ الآية قال: فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، فحرم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة. "تفسير ابن عباس" ص 139، == والطبري 4/ 304، وانظر: "زاد المسير" 2/ 38، ابن كثير 1/ 504 - 505، "الدر المنثور" 2/ 233.]]. وقال عكرمة عنه في هذه الآية: هم أهل الشرك [[أورده السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 233، وعزاه إلى ابن المنذر.]]. أخبرناه أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا محمد بن الحسن الكارزي، أخبرنا على بن عبد العزيز، أخبرنا أبو عبيد [[السند إلى أبي عبيد تقدم قريبًا.]]، حدثنا مُحمد بن ربيعة [[هو محمد بن ربيعة الكلابي بن وكيع، صدوق، توفي -رحمه الله- بعد سنة 190هـ (هذا ما وجدته عنه مما يناسب المقام). انظر: "ميزان الاعتدال" 3/ 545، "التقريب" ص 478 رقم (5877).]]، عن النّضر بن عمران [[لم أقف له على ترجمة.]]، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقال الربيع بن أنس: ﴿إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ هو المنافق، ألا ترى يتلوه الكافرون [[أخرج الطبري بإسناده عن الربيع: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، قال: نزلت الأولى في المؤمنين، ونزلت الوسطى في المنافقين، يعني: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾، والأخرى في الكفار، يعني: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾. "تفسير الطبري" 4/ 303.]]. وقال سعيد بن جبير: نزلت الأولى في المؤمنين، يعني قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ الآية، والوسطى في المنافقين، يعني قوله: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾، والأخرى في الكافرين، يعني قوله: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ﴾ [[لم أقف على من أخرجه عن سعيد بن جبير، وقد تقدم قريبًا أن الطبري أخرجه عن الربيع بن أنس 4/ 303، وانظر: "زاد المسير" 2/ 38.]]. وإذا كانت الآية نازلة إما في الكفار أو المنافقين، على قول الصحابة والتابعين الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، فلا وجه لحملها على أهل الصلاة. وبهذا الإسناد الذي ذكرنا عن أبي عبيد قال: حدثنا ابن صالح ، -يعني: عبد الله-، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ قال: ثم أنزل الله بعد ذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48] فحرم الله المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجى أهل التوحيد إلى مشيئته، ولم يُؤيسهم من المغفرة [["تفسير ابن عباس" ص 139، وأخرجه الطبري بنفس الإسناد 4/ 304، وانظر: "تحقيق المروي" عن ابن عباس 1/ 203.]]. فإن قيل: هذا على ما رَوَيتم نسخٌ للأول، ونسخ الخبر لا يجوز. قلنا: لا نَدعي [[في (د): (يدعى) بالياء.]] النسخ، ولفظ النسخ لم يُنقل عن ابن عباس، ولكن الآية الأولى اقتضت العموم بظاهرها، فلما نزلت الآية الثانية علمنا أن المراد بالأولى غير أهل التوحيد، من المنافقين والكافرين [[أي: أن الآية الثانية مخصصة لعموم الأولى.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾. الذين في موضع الخفض بالعطف على الأول [[انظر: "معاني الفراء" 1/ 259، والطبري 4/ 304، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 402 - 403، والثعلبي 4/ 28 أ.]]. ومعناه: لا توبة للكفار إذا ماتوا على كفرهم في الآخرة [[انظر: "معاني الفراء" 1/ 259، والطبري 4/ 304.]]، وإنما لم تقبل التوبة في الآخرة لرفع التكليف ومعاينة ما وعدوا في الدنيا من الثواب والعقاب، ولهذا لم تقبل توبة المُحتَضر لمعاينة أحكام الآخرة. قال الزجاج: ولأنه تاب في وقت (لا يُمكنه التصرف [[في "معاني الزجاج": لا يمكن الإقلاع بالتصرف.]]) فيما يُحقق التوبة [["معاني الزجاج" 2/ 29.]]. وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا﴾ أي: هيأنا وأعددنا. يقال: أعتدت الشيء فهو معتد وعتيد، وقد عتد الشيء عتادة وهو عتيد حاضر. قاله الليث، قال: ومن هنالك سميت العتيدة، التي فيها طيب الرجل وأدهانه، والعتاد ما أعده الرجل من السلاح والدواب والآلة للجهاد، ويُجمع: أعْتُدَةً، وأعتُدًا. ويقال: فرس عَتِدٌ وعَتَدٌ، وهو المُعَدّ للركوب [[انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2316، "الكشف والبيان" 4/ 28 أ، "اللسان" 5/ 2794 (عتد).]]. واختلفوا في هذا الحرف، فقال قوم: عَتَد، بناء على حدة وأصل بنفسه [[لعلها هكذا.]] ثم تُدغم التاء في الدال فيقال: أعدّ، والعدّة إنما هي العتدة ولكن أُدغمت التاء في الدال، الذي يدل على هذا قولهم: العدان، في جمع: عتود، وأصله عتدان، فعلى هذا الأصل أعتد، وأعدّ مدغم منه. وقال آخرون بناء أَعدّ من عين ودالين؛ لأنهم يقولون: أعددنا، فيظهرون الدالين، وأنشدوا قول امرئ القيس [[تقدمت ترجمته.]]: أعددتُ للحرب صارمًا ذَكرًا ... مُجرَّب الوَقع غير ذي عَتَبِ [[البيت غير منسوب عند الأزهري في "التهذيب" 3/ 2316، ولا في "اللسان" 5/ 2795 (عتد) ولم أجده في "ديوان امرئ القيس" الذي بين يدي.]] ولم يقل أَعَتدْت [["تهذيب اللغة" 3/ 2316 - 2317 (عتد) بتصرف، وانظر: "اللسان" 5/ 2794 المادة نفسها.]]. قال الأزهري: جائز أن يكون الأصل أعددت، ثم قلبت إحدى الدالين تاء، فعلى هذا الأصل أعدّ، وأعتد مقلوب [[في (د): (مقارب).]] منه [["تهذيب اللغة" 3/ 2316 (عتد) بتصرف، وانظر: "اللسان" 5/ 2795 المادة نفسها.]]. قال الأزهري: وجائز أن يكون عتد بناء على حدة، وأعدّ بناء مضاعفًا، وهذا هو الأصوب عندي [["تهذيب اللغة" 3/ 2317 (عتد) بتصرف، وانظر "اللسان" 5/ 2795 المادة نفسها.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب