الباحث القرآني
﴿ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ عَلى اللَّهِ ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾ أيِ المَعاصِيَ وجُمِعَتْ بِاعْتِبارِ تَكَرُّرِ وُقُوعِها في الزَّمانِ المَدِيدِ لا لِأنَّ المُرادَ بِها جَمِيعُ أنْواعِها وبِما مَرَّ مِنَ السُّوءِ نَوْعٌ مِنها ﴿حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ﴾ بِأنْ شاهَدَ الأحْوالَ الَّتِي لا يُمْكِنُ مَعَها الرُّجُوعُ إلى الدُّنْيا بِحالٍ وعايَنَ مَلَكَ المَوْتِ وانْقَطَعَ حَبْلُ الرَّجاءِ ﴿قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ أيْ هَذا الوَقْتَ الحاضِرَ، وذُكِرَ لِمَزِيدِ تَعْيِينِ الوَقْتِ، وإيثارِ قالَ عَلى تابَ لِإسْقاطِ ذَلِكَ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبارِ والتَّحاشِي عَنْ تَسْمِيَتِهِ تَوْبَةً، ولَوْ أكَّدَهُ ورَغِبَ فِيهِ، ولَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ كَوْنُ تِلْكَ الحالَةِ أشْبَهَ شَيْءٍ بِالآخِرَةِ بَلْ هي أوَّلُ مَنزِلٍ مِن مَنازِلِها، والدُّنْيا دارُ عَمَلٍ ولا جَزاءَ، والآخِرَةُ دارُ جَزاءٍ ولا عَمَلَ، وحَتّى حَرْفُ ابْتِداءٍ، والجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَعْدَها غايَةٌ لِما قَبْلَها أيْ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِقَوْمٍ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ إلى حُضُورِ مَوْتِهِمْ وقَوْلِهِمْ: كَيْتَ وكَيْتَ.
﴿ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾ عَطْفٌ عَلى المَوْصُولِ قَبْلَهُ أيْ لَيْسَ قَبُولُ التَّوْبَةِ (p-240)لِهَؤُلاءِ ولا لِهَؤُلاءِ، والمُرادُ مِن ذِكْرِ هَؤُلاءِ مَعَ أنَّهُ لا تَوْبَةَ لَهم رَأْسًا المُبالَغَةُ في عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ المُسَوِّفِينَ والإيذانِ بِأنَّ وُجُودَها كالعَدَمِ بَلْ في تَكْرِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ في المَعْطُوفِ كَما قِيلَ إشْعارٌ خَفِيٌّ بِكَوْنِ حالِ المُسَوِّفِينَ في عَدَمِ اسْتِتْباعِ الجَدْوى أقْوى مِن حالِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلى الكُفْرِ، والكَثِيرُ مِن أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ما يَشْمَلُ الفَسَقَةَ والكَفَرَةَ، ومِنَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ إلَخْ الكَفّارُ فَقَطْ، وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِالمَوْصُولَيْنِ الكَفّارُ خاصَّةً، وأنْ يُرادَ بِهِما الفَسَقَةُ وحْدَهم، وتَسْمِيَتُهم في الجُمْلَةِ الحالِيَّةِ كَفّارًا لِلتَّغْلِيظِ، وأنْ يُرادَ بِهِما ما يَعُمُّ الفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا فالتَّسْمِيَةُ حِينَئِذٍ لِلتَّغْلِيبِ، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أبِي العالِيَةِ أنَّ الآيَةَ الأُولى: نَزَلَتْ في المُؤْمِنِينَ والثّانِيَةَ: في المُنافِقِينَ، والثّالِثَةَ: في المُشْرِكِينَ، وفي جَعْلِ الوُسْطى في المُنافِقِينَ مَزِيدُ ذَمٍّ لَهم حَيْثُ جَعَلَ عَمَلَ السَّيِّئاتِ مِن غَيْرِهِمْ في جَنْبِ عَمَلِهِمْ بِمَنزِلَةِ العَدَمِ، فَكَأنَّهم عَمِلُوها دُونَ غَيْرِهِمْ، وعَلى هَذا لا يَخْفى لُطْفُ التَّعْبِيرِ بِالجَمْعِ في أعْمالِهِمْ، وبِالمُفْرِدِ في المُؤْمِنِينَ لَكِنْ ضُعِّفَ هَذا القَوْلُ بِأنَّ المُرادُ بِالمُنافِقِينَ إنْ كانَ المُصِرِّينَ عَلى النِّفاقِ فَلا تَوْبَةَ لَهم يَحْتاجُ إلى نَفْيِها، وإلّا فَهم وغَيْرُهم سَواءٌ.
هَذا واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ تَوْبَةَ اليائِسِ كَإيمانِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وفي المَسْألَةِ خِلافٌ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ تَوْبَةَ اليائِسِ مَقْبُولَةٌ دُونَ إيمانِهِ لِأنَّ الرَّجاءَ باقٍ ويَصِحُّ مَعَهُ النَّدَمُ، والعَزْمُ عَلى التَّرْكِ، وأيْضًا التَّوْبَةُ تَجْدِيدُ عَهْدٍ مَعَ الرَّبِّ سُبْحانَهُ، والإيمانُ إنْشاءُ عَهْدٍ لَمْ يَكُنْ وفَرْقٌ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، وفِيِ «البَزّازِيَّةِ» أنَّ الصَّحِيحَ أنَّها تُقْبَلُ بِخِلافِ إيمانِ اليائِسِ، وإذا قُبِلَتِ الشَّفاعَةُ في القِيامَةِ وهي حالَةُ يائِسٍ فَهَذا أوْلى، وصَرَّحَ القاضِي عَبْدُ الصَّمَدِ الحَنَفِيُّ في «تَفْسِيرِهِ» إنَّ مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ أنَّ الإيمانَ أيْضًا يَنْتَفِعُ بِهِ عِنْدَ مُعايَنَةِ العَذابِ، ويُؤَيِّدُهُ أنَّ مَوْلانا الشَّيْخَ الأكْبَرَ قُدِّسَ سِرُّهُ صَرَّحَ في «فُتُوحاتِهِ» بِصِحَّةِ الإيمانِ عِنْدَ الِاضْطِرارِ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما لَوْ غَرْغَرَ المُشْرِكُ بِالإسْلامِ لَرَجَوْتُ لَهُ خَيْرًا كَثِيرًا.
وأيْدٍ بَعْضُهُمُ القَوْلَ بِقَبُولِ تَوْبَةِ الكافِرِ عِنْدَ المُعايَنَةِ بِما أخْرَجَهُ أحْمَدُ والبُخارِيُّ في «التّارِيخِ» والحاكِمُ وابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ أبِي ذَرٍّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ”«إنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ أوْ يَغْفِرُ لِعَبْدِهِ ما لَمْ يَقَعِ الحِجابُ قِيلَ: وما وُقُوعُ الحِجابِ؟ قالَ: تَخْرُجُ النَّفْسُ وهي مُشْرِكَةٌ“» ولا يَخْفى أنَّ الآيَةَ ظاهِرَةٌ فِيما ذَهَبَ إلَيْهِ أهْلُ القَوْلِ الأوَّلِ، وأجابَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ عَنْها بِأنَّ مُفادَها أنَّ قَبُولَ تَوْبَةِ المُسَوِّفِ والمُصِرِّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، ونَفْيُ التَّحَقُّقِ غَيْرُ تَحَقُّقِ النَّفْيِ فَيَبْقى الأمْرُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِما بَيْنَ بَيْنَ، وأنَّهُ تَعالى إنْ شاءَ عَفا عَنْهُما وإنْ شاءَ لَمْ يَعْفُ وآيَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ تُبَيِّنُ أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَشاءُ المَغْفِرَةَ لِلْكافِرِ المُصِرِّ ويَبْقى التّائِبُ عِنْدَ المَوْتِ مِن أيِّ ذَنْبٍ كانَ تَحْتَ المَشِيئَةِ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ الوُسْطى تَوْبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لِتُقْبَلَ بَلْ غايَةُ ما فِيها قَوْلُ: إنِّي تُبْتُ الآنَ وهو إشارَةٌ إلى عَدَمِ وُجُودِ تَوْبَةٍ صادِقَةٍ، ولِذا لَمْ يَقُلْ ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ تابَ وعَلى تَسْلِيمِ أنَّ التَّعْبِيرَ بِالقَوْلِ لِنُكْتَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ يَلْتَزِمُ القَوْلَ بِأنَّ التَّقْيِيدَ بِالآنِ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ اسْتِيفاءِ التَّوْبَةِ لِلشُّرُوطِ لِأنَّ فِيهِ رَمْزًا إلى عَدَمِ العَزْمِ عَلى عَدَمِ العَوْدِ إلى ما كانَ عَلَيْهِ مِنَ الذَّنْبِ فِيما يَأْتِي مِنَ الأزْمِنَةِ إنْ أمْكَنَ البَقاءُ ومِن شُرُوطِ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ ذَلِكَ فَتَدَبَّرْ.
﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ المَذْكُورُونَ مِنَ الفَرِيقَيْنِ المُتَرامِي حالُهم إلى الغايَةِ القُصْوى في الفَظاعَةِ ﴿أعْتَدْنا لَهُمْ﴾ أيْ هَيَّأْنا لَهم، وقِيلَ: أعْدَدْنا فَأُبْدِلَتِ الدّالُ تاءً ﴿عَذابًا ألِيمًا﴾ أيْ مُؤْلِمًا مُوجِعًا، وتَقْدِيمُ الجارِّ عَلى المَفْعُولِ الصَّرِيحِ لِإظْهارِ الِاعْتِناءِ بِكَوْنِ العَذابِ مُهَيِّئًا لَهم، والتَّنْكِيرُ لِلتَّفْخِيمِ، وتَكْرِيرُ الإسْنادِ لِما مَرَّ، واسْتَدَلَّ المُعْتَزِلَةُ بِالآيَةِ عَلى وُجُوبِ العِقابِ لِمَن ماتَ مِن مُرْتَكِبِي الكَبائِرِ مِنَ المُؤْمِنِينَ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وأُجِيبُ بِأنَّ تَهْيِئَةَ العَذابِ هو (p-241)خَلْقُ النّارِ الَّتِي يُعَذَّبُ بِها، ولَيْسَ في الآيَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُدْخِلُهم فِيها البَتَّةَ، وكَوْنُهُ تَعالى يُدْخِلُ مَن ماتَ كافِرًا فِيها مَعْلُومٌ مِن غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ، ويُحْتَمَلُ أيْضًا أنْ يَكُونَ المُرادُ أعْتَدْنا لَهم عَذابًا ألِيمًا إنْ لَمْ نَعْفُ كَما تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ النُّصُوصُ، ويُرْوى عَنِ الرَّبِيعِ أنَّ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ .
واعْتُرِضَ بِأنَّ أعْتَدْنا خَبَرٌ ولا نَسْخَ في الأخْبارِ، وقِيلَ: إنَّ ( أُولَئِكَ ) إشارَةٌ إلى الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ فَلا إشْكالَ كَما لَوْ جُعِلَ إشارَةً إلى الفَرِيقَيْنِ وأُرِيدَ بِالأوَّلِ المُنافِقُونَ، وبِالثّانِي المُشْرِكُونَ.
{"ayah":"وَلَیۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلسَّیِّـَٔاتِ حَتَّىٰۤ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّی تُبۡتُ ٱلۡـَٔـٰنَ وَلَا ٱلَّذِینَ یَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











