الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ قال ابن عباس [[قوله في: "تفسير الطبري" 4/ 93، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 762.]]: يعني: في اليُسْرِ والعُسْر. كأنه يريد: السَّرَّاء؛ بكثرة المال، والضَّراء، بِقِلَّتِهِ. وهذه الآية من صفة المُتَّقِين الذين أعِدت لهم الجَنَّة. وأول ما وصفهم الله تعالى به: الإنفاق في كل حال. وهو من أقسام السَّخَاء. وقوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ يقال: (كَظَمَ غَيْظَه): إذا سكت عليه، ولم يُظْهِرْهُ بقول أو فِعْلٍ [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 469، و"تهذيب اللغة" 4/ 3151 (كظم)، و"الزاهر" 2/ 344.]]. قال المُبَرِّد [[لم أقف على مصدر قوله.]]: تأويله: أنه كتمه على امتلائه منه. ويقال: (كظَمتُ [السِّقَاءَ): إذا ملأتُه] [[ما بين المعقوفين غير مقروء في (أ). والمثبت من (ب)، (ج).]]، وَشَدَدْتُ عليه. ويقال: ما يَكْظِمُ فلانُ على (جِرَّةٍ) [[في (أ)، (ب)، (ج): (حره). وما أثبتُّ هو الصواب. (الجِرَّةُ): هي ما يخرجه البعير من كرشه، ويَجْترّه؛ أي: يردده في حلقه. انظر: (جر) في: "تهذيب اللغة": 1/ 578، و"اللسان": 1/ 594 (جرر). وقولهم: (ما يَكظِمُ فلانٌ على جِرَّةٍ)، مَثَلٌ يُضرَب لِمن لا يَكتِمُ سِرًا. ومثله: (ما يَخنُق فلان على جِرَّةٍ) كما في: النوادر لأبي زيد. وفي: "اللسان": (ما يَحْنَق ..). انظر: "النوادر" لأبي زيد 132، و"جمهرة الأمثال" للعسكري 2/ 234، و"مجمع الأمثال" للميداني 3/ 288، و"اللسان" 1/ 594.]]: إذا كان لا يحتمل شيئًا. قال أبو زيد [[لم أقف على مصدر قوله.]]: وكل ما سددت [[في (أ)، (ب): (شددت). والمثبت من (ج)، ومن "تفسير الفخر الرازي" 9/ 7؛ حيث أورد هذا النص بتمامه.]] من مجرى ماءٍ أو طريق؛ فهو (كَظْمٌ). ويُدعَى الذي تَسُدُّه [[في (ج): (تشده).]] به: (الكاظِمَة) و (السَّدَادَة). و (فلانٌ كَظِيْمٌ)، و (مَكْظُومٌ): إذا كان ممتلئا [[في (ج): (ممكا).]] حُزْنًا، مُمْسِكًا عليه. وهما في التنزيل [[ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾. يوسف: 84. وقوله: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [النحل: 58]، [الزخرف: 17]. وقوله: ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ [القلم: 48].]]. ويقال للقناة [[في (أ): (الفتاة). والمثبت من (ب)، (ج) وكتب اللغة.]] التي تجري في بطن الأرض: [كِظَامَة] [[ما بين المعقوفين غير مقروء تماما في (أ). والمثبت من: (ب)، (ج)، وكتب اللغة.]]؛ لامتلائها بالماء كامتلاء القِرْبَةِ المكظومة. ومنه الحديث: (كيف بك إذا بُعِجَتْ مَكَّةُ كظَائِمَ) [[الأثر ورد في: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 269 (ط. السلفية)، و"تهذيب اللغة" 4/ 315 (كظم)، و"الفائق" للزمخشري 3/ 263، و"المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" 3/ 50، و"غريب الحديث" لابن الجوزي 2/ 291، و"النهاية في غريب الحديث" 4/ 178. ولم أقف عليه في غيرها من مصادر الحديث. وكل المراجع السابقة أوردته غير مسند وصرحت بأنه حديث، إلا في "المجموع المغيث" حيث قال: (ومنه قول عبد الله بن عمرو ..). وفي (الفائق)، للزمخشري، و"غريب الحديث"، لأبي عبيد أورداه من حديث عبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما. وفي "المجموع المغيث"، و"النهاية" عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما. ولكن أشار محقق "غريب الحديث" لأبي عبيد، إلى أنه في نسخة أخرى للكتاب، ورد: (ومنه حديث عبد الله بن عَمرو). ثم ذكرت هذه النسخةُ السندَ، وهو: (حدثنيه هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه عن عبد الله بن عَمْرو، قال: ..). أقول: وهذا هو الصواب؛ لأن عطاء والد يَعْلى، وهو عطاء العامري الطائفي روى عن ابن عمرو بن العاص وروى عنه ابنه يعلى، كما في "تهذيب التهذيب" 3/ 111. ونصه عند أبي عبيد: (إذا رأيت مكة قد بُعِجت كظائم، وساوى بناؤها رؤوس الجبال، فاعلم أن الأمر قد أظللك، فخذ حذرك). "غريب الحديث": 1/ 169، وانظر: المصادر السابقة التي أوردت الأثر. و (الكظائم)، جمع: كِظَامَة، وهي: آبارٌ تُحفَر، ويُباعَد ما بينها، ثم يُحفَر ما بين كل بئرين بقناة مِن تحت الأرض، توصِل الماءَ مِن الأولى إلى التي تليها، حتى يجتمع الماءُ في أخراهن. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 163، والمصادر السابقة التي أوردت الأثر.]]. ومنه يقال: (أَخَذَ بكَظْمِهِ): إذا أخذ بمجرى نَفَسِهِ؛ لأنه موضع الامتلاء بالنَّفَسِ. و (كَظَمَ البعِيرُ والنَّاقَةُ، كُظُومًا): إذا أَمْسَكا على ما في جَوْفِهما ولم يَجْتَرَّا [[انظر المعاني السابقة و (كظم) في: "تهذيب اللغة" 4/ 3151، و"المقاييس" 5/ 184 - 185، و"اللسان" 7/ 3886 وما بعدها.]]. قال الراعي: فَأَفَضْنَ [[في (أ)، (ب)، (ج): (فأفرضن). والمثبت من مصادر البيت التالية.]] بعد كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةٍ ... مِن ذِي الأَبَاطِح إذْ رَعَيْنَ حَقِيلاَ [[البيت في "ديوانه" 224. وقد ورد منسوبًا له في: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 469، و"جمهرة أشعار العرب" (333)، و"الزاهر" 2/ 344، و"مجالس العلماء" 39، 80، و"تهذيب اللغة" 4/ 3151 (كظم)، و"الفهرست" 86، و"مقاييس اللغة" 1/ 226 (برق)، 2/ 88 (حقل)، 4/ 465 (فيض)، و"المجمل" 245 (حقل)، و"معجم ما استعجم" 2/ 460، و"أساس البلاغة" 2/ 222 (فيض)، و"المحرر الوجيز" 3/ 326، و"إنباه الرواة" 2/ 321، و"معجم البلدان" 2/ 279 (حقيل)، و"تفسير القرطبي" 4/ 206، و"اللسان" 6/ 3500 وما بعدها (فيض)، و2/ 947 (حقل)، و7/ 3886 وما بعدها (كظم). وورد غير منسوب في: "جمهرة اللغة" 558، و"الصحاح" 3/ 1100 (فيض). وقد ورد في كل المصادر السابقة: (من ذي الأبارق). وقال البكري: (ورواه أبو حاتم: (من ذي الأباطح)، قال: وهو واد في بني عامر). "معجم ما استعجم" 2/ 460. وورد في "جمهرة أشعار العرب": (أو رَعَيْن ..). ومعنى البيت: أي: دفعن بالجِرَّةِ من كروشهن، فاجتررنها بعد أن كُنَّ كُظُومًا لا يجتررن. و (ذي الأبارق) -على الرواية الأخرى-: موضع. أي: أن هذه الجِرَّة التي اجتررنها أصلها مما رعينه من هذه الموضع. و (حقيل): موضع. وقيل: نبت. وقيل: جبل في (ذي الأبارق). انظر: "الزاهر" 2/ 344، و"اللسان" 2/ 947 (حقل)، 7/ 3886 (كظم)، و"معجم البلدان" 2/ 279 (حقيل).]] وإنَّما تفعل ذلك الإِبِلُ مِنَ الفَزَع أو الجهد. قال الأعشى [[هو أعشى باهلة (عامر بن الحرث)، وليس الأعشى الكبير (ميمون بن قيس).]] -ووصف رجلًا نَحَّارًا للإبل، وهي [[في (ج): (فهي).]] تفزع منه-: قَد تَكْظِمُ البُزْلُ مِنه حين تُبْصِرهُ ... حتَّى تَقَطَّعَ في أجوافها الجِرَرُ [[البيت ورد منسوبًا له في: "الأصمعيات" 89، و"الكامل" للمبرد 4/ 65، و"جمهرة أشعار العرب" (255)، و"تفسير الثعلبي" 3/ 118 أ، و"تفسير القرطبي" 4/ 206، و"خزانة الأدب" 1/ 194. وقد اختلفت روايات البيت، فقد ورد في بعض المصادر: (وتفزع الشَّوْلُ منه حين تبصره ... حتى تقطع في أعناقها الجرر). وورد: (وتفزع الشول منه حين يفجؤها)، وورد: (قد تكظم البَرْك منها حين يفجؤها). والبيت من قصيدة يرثي بها أخاه المنتشِر بن وهب الباهلي. انظر خَبَرَة في: "الكامل": 4/ 64 - 65. و (البُزْل): جمع: بازِل. وهو -من الإبل-: الداخل في السنة التاسعة، وفطر نابه. وتُجمَع -كذلك- على: (بُزَّل)، و (بوازل). ومعناه: أن الإبل قد تعودت على أن يَعقِرَ منها، فإذا رأته كظمت على جِرَّتها فزعا منه. و (البَرْك): -على الرواية الأخرى-: جمع بارك. و (الشَوْل): جمع: شائلة، وهي -من الإبل-: ما أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر، فجف لبنها. انظر: "المصباح المنير" 19 (بزل)، و"القاموس" (1021) (شول).]] ومعنى ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾: الكافِّينَ غَضَبَهم [[في (ب)، (ج): (غضبهم).]] عن إمضائه، يَردُّون غيظهم في أجوافهم، ويصبرون فلا يُظِهرون [[قال ابن عطية: (و (الغيظ) أصل الغضب، وكثيرًا ما يتلازمان، ولذلك فسر بعض الناس (الغيظ) بـ (الغضب)، وليس تحرير الأمر كذلك، بل الغيظ فعل النفس، لا يظهر على الجوارح، والغضب حال بها معه ظهور في الجوارح، وفعل ما ولا بد). "المحرر الوجيز" 3/ 327، وانظر: "تفسير القرطبي" 4/ 207، و"البحر المحيط" 3/ 58.]]. وهذا الوصف من أقسام الصبر والحِلْم [[قال الإمام ابن حِبَّان البُسْتي: (الحِلْم: اسم يقع على زَمِّ النفس عن الخروج - عند الورود عليها ضد ما تحب- إلى ما نُهِي عنه). "روضة العقلاء" 252.]]. وقوله تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال ابن عباس [[لم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في "تنوير المقباس" 56، و"زاد المسير" 1/ 461. وبهذا قال: الربيع، والكلبي، ومكحول، وأبي العالية. انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 763، و"بحر العلوم" 1/ 299، و"تفسير الثعلبي" 3/ 118 ب، و"زاد المسير" 1/ 461. وقد ورد عن ابن عباس حول هذه الآية قوله: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ كقوله: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ إلى ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور: 22]، يقول: لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئاً واعفوا واصفحوا). "تفسير الطبري" 4/ 94، و"تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 763.]]: يريد: المَمَالِيك؛ إذا أذنب واحد منهم ذنبًا، عفوت عنه؛ لما يرجو من ثواب الله. وقال زيد بن أسلم [[قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 118 ب، و"البغوي" 2/ 105، و"زاد المسير" 1/ 461.]]، ومقاتل [[(ومقاتل): ساقطة من (ج). ولم أقف على مصدر قوله. وقد ورد في: "زاد المسير" 1/ 461، و"تفسير البغوي" 2/ 105.]]: أي: عمَّن ظَلَمَهم وأساء إليهم. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال ابن عباس [[لم أقف على مصدر قوله.]]: يريد: المُوَحِّدِين، الذين هذه الخِصَال فيهم. قال الثَّوْرِي في هذه الآية [[قوله في "تفسير الثعلبي" 3/ 119 أ. والثوري، هو: أبو عبد الله، سفيان بن سعيد بن مسروق. أمير المؤمنين في الحديث، ولد في الكوفة سنة (97 هـ)، ونشأ بها، مشهور بالورع والعلم، مُجْمَع على إمامته، مات بالبصرة سنة (161 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" 9/ 151، و"وفيات الأعيان" 2/ 386، و"تهذيب التهذيب" 2/ 56.]]: الإحسان: أن تُحْسِن إلى مَن أساء إليك؛ فإنَّ الإحسانَ إلى المُحسِنِ مُتَاجَرَةٌ [[في (أ)، (ب): (متأخره). وفي (ج): (مناحرة). والمثبت من:"تفسير الثعلبي".]]، كَنَقْدِ السُّوقِ: خذْ مِنِّي وهات [[يعني رحمه الله: أن الإحسان إلى من أحسن إليك لا يُسَمَّى إحسانًا، بل يُعَد من قبيل المكافأة؛ لأنَّ ذلك بمثابة أن تعطي من سبق له أن أعطاك؛ وترد الفضلَ له؛ لما سبق أن أولاك من فضل. ويسميه الثوري -هنا- متاجرة، لأنه كالمقايضة، والأخذ والعطاء. قال ابن حِبان: وما الفضل إلا للمحسن إلى المسيء، فأما من أحسن إلى المحسن وحلُمَ عمن لم يؤذه؛ فليس ذلك بحِلْم ولا إحسان. "روضة العقلاء" ص 254.]]. وصدَقَ؛ فإنَّ الله -تعالى- عقَّبَ وَصْفَ هؤلاء بالكَظْمِ والعَفْوِ، بِحُبِّهِ المحسنين. وفي ذلك دليل على أن هؤلاء محسنون، والأوصاف التى وُصِفوا بها، كلُّها إحسانٌ إلى مَن أساء إليهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب