الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ والضَّرّاءِ والكاظِمِينَ الغَيْظَ والعافِينَ عَنِ النّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: ١٣٤].
ذكَرَ اللهُ فَضْلَ المُنفِقينَ، وذكَرَ فضلَ النفقةِ في الشِّدَّةِ واللِّينِ، والسَّعَةِ والضِّيقِ، والقُدْرةِ والعَجْزِ، والقُوَّةِ والضَّعْفِ، إشارةً إلى تَوارُدِ الحالِ عليه، فلا يَقبِضُ خوفَ الفقرِ، ولا يبسُطُ إذا أمَّلَ الغِنى، وهذا حالُ أهلِ اليقينِ، يَثْبُتُونَ على الطاعةِ ما قَدَرُوا عليها، وكلَّما كانتِ الحالُ أشَدَّ، فالعملُ فيها أعظَمُ، وكلَّما كان الإنسانُ في السرّاءِ إلى اللهِ أقرَبَ، كان اللهُ إليه في الضَّرّاءِ أقرَبَ، وأقرَبُ الناسِ إلى اللهِ الثابتُ في سرِّه وعلانيتِهِ، وسرّائِهِ وضرّائِهِ.
تلازُمُ كظمِ الغيظِ معَ النفقاتِ:
وذَكَرَ اللهُ كَظْمَ الغيظِ مع ذِكرِهِ النفقةَ، تحذيرًا ممَّن يُنفِقُ لِحَظِّ نفسِه، فيُنفِقُ على مَن يَرْضاهُ، ويُمسِكُ عمَّن لا يرضاهُ، وهذا مِن دقيقِ الرِّياءِ، وممّا يَنقُصُ العملَ أو يُبطِلُهُ ويُذهِبُ بَرَكَتَهُ، وكثيرًا ما يفعلُ الإنسانُ ويظُنُّ أنّه يفعلُهُ للهِ، وهو يفعلُهُ لحظِّ نفسِهِ وهَواهُ، وربَّما يَعرِفُ بعضُ الصالحينَ مواضعَ الرِّياءِ في العملِ، ويَخْفى عليه مواضعُ الرياءِ في التَّرْكِ، فيترُكُ لغيرِ اللهِ ويظُنُّ أنّه للهِ، وإنّما هو انتصارٌ لنفسِه، فمَن آذاهُ، مَنَعَهُ النفقةَ، ومَن أحسَنَ إليه، أحبَّهُ وأنفَقَ عليه، والنفقةُ حقٌّ للهِ وللمحتاجِ لا للغنيِّ، فيجبُ أنْ يتخلّى الغنيُّ عن جميعِ حظوظِ النفسِ.
فضلُ كظمِ الغيظِ:
وقولُه: ﴿والكاظِمِينَ الغَيْظَ﴾، أي: لا يُؤثِّرُ ذلك على فِعْلِهم ولا على تركِهم قبلَ غيظِهم، وأعظَمُ الكاظِمينَ للغيظِ أجرًا أقْدَرُهم على الانتقامِ، وأمّا الكاظمُ لغيظِهِ غيرُ القادرِ على الانتصارِ لنفسِه، فيُؤجَرُ على قدرِ كَظْمِهِ لغيظِهِ وحَبْسِهِ لِما يَقدِرُ عليه، فأقلُّ الناسِ يقدرُ على الانتصارِ لنفسِهِ باللسانِ بالسَّبِّ واللعنِ، والبهتانِ والغِيبةِ، ويُؤجَرُ على كظمِهِ لها، ففي «المسنَدِ» و«السننِ»، مِن حديثِ معاذِ بنِ أنسٍ، قال ﷺ: (مَن كَظَمَ غَيْظًا وهُوَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنْفِذَهُ، دَعاهُ اللهُ عزّ وجل عَلى رُؤُوسِ الخَلائِقِ يَوْمَ القِيامَةِ حَتّى يُخَيِّرَهُ اللهُ مِنَ الحُورِ العِينِ ما شاءَ) [[أخرجه أحمد (١٥٦٣٧) (٣/٤٤٠)، وأبو داود (٤٧٧٧) (٤/٢٤٨)، والترمذي (٢٠٢١) (٤/٣٧٢)، وابن ماجه (٤١٨٦) (٢/١٤٠٠).]].
وربَّما يُثابُ على ما يَجِدُهُ في نفسِه مِن ألَمِ ظُلْمِه، لِشِدَّتِهِ عليه وهو غيرُ قادرٍ على الانتصارِ لنفسِهِ، أكثرَ ممَّن يكتُمُ غيظَهُ وهو قادرٌ على الانتصارِ لنفسِهِ، لكنَّ ألمَ غيظِه عليه ضعيفٌ، لِبُرُودةٍ في طَبْعِهِ وعدمِ حِدَّةٍ، أو يَحبِسُ غيظَه لغيرِ اللهِ خوفًا أنْ تسقُطَ هيبتُهُ عندَ الناسِ، ويقعُ هذا كثيرًا في المتكبِّرينَ، يترُكُونَ الانتصارَ للنفسِ كِبْرًا أنْ يَنتَصِرُوا على مَن دُونَهم مِن الضعفاءِ، فهؤلاء لا يُؤجَرُونَ على كتمِ غيظِهم، لأنّهم كَتَمُوهُ لغيرِ اللهِ، ولو قدَرُوا على الانتصارِ في الخفاءِ، لانْتَصَرُوا.
فضلُ العفوِ:
وقولُه: ﴿والعافِينَ عَنِ النّاسِ﴾ فيه استحبابُ العفوِ والمسامحةِ، خاصةً عندَ الحقوقِ الماليَّةِ، لأنّ العفوَ وكَظْمَ الغيظِ عُطِفَ على النفقةِ الماليَّةِ، وقد يُؤخَذُ مِن هذا إسقاطُ الدَّيْنِ عن المَدِينِ العاجزِ، ويُؤجَرُ على هذا، ولكنَّ أجرَهُ عليه دونَ أجرِ مَن أخرَجَ المالَ صدقةً ابتداءً، لأنّ ذلك أسقَطَ دَيْنَهُ بعدَ يأسٍ مِن الوفاءِ، وعجزٍ عن الانتفاعِ به، وذاك أخرَجَ مالَهُ وهو بيدِهِ قادرٌ على الانتفاعِ به، وفي مسألةِ إسقاطِ الدَّيْنِ واحتسابِهِ مِن الزكاةِ كلامٌ تقدَّمَ بسطُهُ في سورةِ البقرةِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ٢٨٠].
وفي قولِه: ﴿والعافِينَ عَنِ النّاسِ﴾ استحبابُ العفوِ عن الزَّلاَّتِ، وأحَقُّ الناسِ بالعفوِ أقرَبُهم، كالوالدَيْنِ والأبناءِ، والإخوةِ والزوجاتِ، ومِثْلُهم العَفْوُ عن الخادمِ، لأنّ كثرةَ القُرْبِ والمُخالَطةِ تُؤدِّي إلى كثرةِ الأخطاءِ في حقِّ الإنسانِ، فالناسُ يُخْطِئُونَ، ولكنْ لا يُشاهِدُ خطَأَهم ويَتأذّى منه إلا مَن خالَطَهم، والبعيدُ لا يَرى الخطأَ إلا بمقدارِ مُخالَطَتِهِ، ثمَّ إنّ الناسَ يَقْوَوْنَ على التصنُّعِ والتحفُّظِ مِن الخطأِ مع البعيدِ، ولا يَقْوَوْنَ مع القريبِ، لهذا كان العفوُ عن خطأِ المُخالِطِ والجليسِ أعظَمَ مِن العفوِ عن خطأِ غيرِه، ولذا جاءَ في «سُنَنِ أبي داودَ» و«الترمذيِّ»، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، كم نعفُو عن الخادمِ؟ فصَمَتَ، ثمَّ أعادَ عليه الكلامَ، فصَمَتَ، فلمّا كان في الثالثةِ، قال: (اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً) [[أخرجه أحمد (٥٨٩٩) (٢/١١١)، وأبو داود (٥١٦٤) (٤/٣٤١)، والترمذي (١٩٤٩) (٤/٣٣٦).]].
وقيل: إنّ هذه الآيةَ نزَلَتْ في العفوِ عن الخادمِ والمملوكِ، روى ابنُ المُنذِرِ عن أبي جعفرٍ، عن ربيعِ بنِ أنسٍ، في قولِ اللَّهِ ـ جلَّ ثناؤُه ـ: ﴿والعافِينَ عَنِ النّاسِ﴾، قال: «المملوكِينَ»[[«تفسير ابن المنذر» (١/٣٨٤).]].
حدودُ العفوِ وكظمِ الغيظِ:
والشريعةُ تَستحِبُّ العفوَ وكَظْمَ الغيظِ ما كان بمقدورِ الناسِ وفي طاقتِهم ووُسْعِهم، وما يُعجَزُ عن تحمُّلِه، فيُستحَبُّ الانتصارُ للنفسِ بالعَدْلِ، وطلبُ الإنصافِ بالحقِّ، ففي «المسنَدِ» وعندَ «الترمذيِّ» وغيرِه، مِن حديثِ حُذيفةَ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)، قالوا: وكيف يُذِلُّ نفسَه؟ قال: (يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلاءِ لِما لا يُطِيقُ) [[أخرجه أحمد (٢٣٤٤٤) (٥/٤٠٥)، والترمذي (٢٢٥٤) (٤/٥٢٣)، وابن ماجه (٤٠١٦) (٢/١٣٣٢).]].
والناسُ يَتفاوَتُونَ في طبائِعِهم وعزائِمِهم، فربَّما يكونُ الأذى واحدًا، يَقْدِرُ عليه واحدٌ، ويَعْجِزُ عنه الآخَرُ، فيَخْتَلِفُونَ في القوَّةِ الباطنةِ، كما يَختلِفونَ في القوَّةِ الظاهرةِ.
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ فِی ٱلسَّرَّاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَٱلۡكَـٰظِمِینَ ٱلۡغَیۡظَ وَٱلۡعَافِینَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق