الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ ذكر أهل اللغة، والمفسرون، في الخلفة، قولين [[أما ابن جرير 19/ 30، فقد ذكر فيها ثلاثة أقوال: 1 - يخلف أحدهما صاحبه. 2 - ما فات في أحدهما عمل في الآخر. وقد جعلهما الواحدي، قولاً واحداً. 3 - كل واحد منهما مخالف لصاحبه.]]؛ قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء [["مجاز القرآن" 2/ 78، بمعناه. وهو قول الأزهري، قال 7/ 398: كل شيء يجيء بعد شيء فهو خلفة.]]. وقال الأصمعي: خلفة الثمر: الشيء يجيء بعد الشيء. والخلفة من نبات الصيف بعد ما يبس العشب، ومن الزروع، ما زرع بعد إدراك الذي زرع أولاً؛ لأنها تُستَخلف [["تهذيب اللغة" 7/ 399، 400 (خلف)، بنصه. وفيه: والخلفة ما أثبت الصيف من العشب، بعد ما يبس العشب. ولم ينشد البيت المذكور.]]، وأنشد: ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا خِلْفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من جِلَّق بِيَعَا [[ذكره أبو عبيدة، "مجاز القرآن" 2/ 79 ولم ينسبه. قال المبرد: قال أبو عبيدة: هذا الشعر يُختلف فيه؛ فبعضهم ينسبه إلى الأحوص، وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية. "الكامل" 1/ 498. وذكره ابن جرير 19/ 31، ولم ينسبه. وذكره ابن عطية 11/ 63، وزاد عليه بيتاً، وقال فيه: ومنه قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء لمنزل في الصيف دأْباً. وأنشده أبو علي، "كتاب الشعر" 1/ 160، ولم ينسبه. وكذا ابن جني، "سر صناعة الإعراب" 2/ 626. والماطرون: بستان بظاهر دمشق يسمى اليوم: الميطور، وخلفة: خلفة الشجر: وهو ما يخرج من الثمر بعد الثمر الطيب، أو من الاختلاف؛ وهو: التردد، وهو الشاهد من إيراد البيت، والنمل فاعل أكل، والذي مفعوله، والعائد محذوف؛ أي: جمعه، وارتبعت: دخلت في الربيع، وجِلِّق: مدينة بالشام، وبيعا: مفعول سكنت، وهو جمع بِيعة بالكسر؛ كنيسة النصارى، ومعنى البيتين: أن لهذه المرأة تردداً إلى الماطرون في الشتاء، فإن النمل يخزن الحب في الصيف ليأكله في الشتاء، ولا يخرج إلى وجه الأرض من قريته، وإذا دخلت في أيام الربيع ارتحلت إلى البيَع التي في جلق. "خزانة الأدب" 7/ 312.]] قال المبرد: يقول: يخلف هذا المكان في هذا الوقت المكان الآخر. قال: ومن هذا يقال للمبطون: أصابته خلفة لتردده بين أن يخلف المشي القعود، والقعود المشي. فعلى هذا القول: الليل خلفة للنهار، والنهار خلفة لليل؛ لأن أحدهما يخلف الآخر ويأتي بعده. قال الفراء: يقول يذهب هذا ويجيء هذا [["معاني القرآن" للفراء 2/ 271. واختار هذا المعنى ابن كثير 6/ 114.]]. وهذا قول ابن عباس، في رواية عطاء، ومقاتل، وابن زيد، والضحاك، والحسن؛ قال ابن عباس: يريد من فاته شيء من الخير بالليل عمله بالنهار [[أخرجه بسنده ابن جرير 19/ 30، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من طريق علي ابن أبي طلحة، وكذا ابن أبي حاتم 8/ 2718. وذكره البخاري تعليقاً، "الفتح" == 8/ 490. وذكره الثعلبي عن ابن عباس، والحسن، وقتادة. وأخرج ابن أبي حاتم، بسنده عن شقيق قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: فاتتني الصلاة الليلة، فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً. ويشهد لهذا حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -ﷺ-: "مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَن شَئْ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ". أخرجه مسلم 1/ 515، في صلاة المسافرين وقصرها، رقم 747. والنسائي 3/ 288، في قيام الليل، رقم 1790.]]. وقال مقاتل: جعل النهار [[في (ج)، الليل، وهو خطأ.]] خلفًا من الليل، لمن نام بالليل، وجعل الليل خلفًا من النهار، لمن كانت له حاجة، وكان مشغولًا [["تفسير مقاتل" ص 47 أ.]]. وقال ابن زيد: يخلف أحدهما صاحبه؛ إذا ذهب أحدهما جاء الآخر، فهما يتعاقبان في الضياء والظلام، والزيادة والنقصان [[أخرجه بسنده ابن جرير 19/ 32 مطولاً. وذكره الثعلبي 8/ 101 ب.]]. وقال الضحاك: من عجز عن عمل الليل فعمل بالنهار كان له خلفًا، ومن عجز عن عمل بالنهار فعمل بالليل كان له خلفًا. وقال الحسن: جعل أحدهما خلفًا للآخر فإن فات رجلًا من النهار شيء أدركه بالليل، وإن فاته شيء بالليل أدركه بالنهار [[أخرجه عبد الرزاق 2/ 71. وابن جرير 19/ 31، وابن أبي حاتم 8/ 2718. وساق بعده عبد الرزاق بسنده قول النبي -ﷺ-: "لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار". والحديث أخرجه البخاري، كتاب العلم، رقم: 73، "الفتح" 1/ 165. ومسلم 1/ 558، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم: 815.]]. وهذا القول اختيار الليث؛ قال: أي: إذا فاته أمر بالنهار تداركه بالليل، وإذا فاته بالليل تداركه بالنهار [["العين" 4/ 268 (خلف). ولم أجده في "التهذيب". أخرج ابن أبي حاتم 8/ 2718، == عن الحسن أن عمر -رضي الله عنه-، أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه؛ فقال: إنه بقي علي من وردي شئٌ: فأحببت أن أتمه أو أقضيه، وتلا هذه الآية ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾.]] من العبادة، والذكر، وغير ذلك [[اقتصر الواحدي على هذا القول في "الوسيط" 3/ 345، و"الوجيز" 2/ 783.]]. القول الثاني، قال الكسائي: يقال لكل شيئين اختلفا: هما خِلْفَان، وخِلْفَتَان، يقال: له ابنان خِلْفان، وله عبدان خِلْفان، وله أَمَتَان خلفان، إذا كان أحدُهما طويلاً، والآخر قصيرًا، أو كان أحدُهما أبيضَ، والآخرُ أسودَ [["تهذيب اللغة" 7/ 398 (خلف)، بنصه. وهو قول أبي زيد، "النوادر في اللغة" ص 15.]]، قال الراجز: دَلْوَاي خِلْفان وساقياهما [[هكذا ورد في "تهذيب اللغة" 7/ 398، غير منسوب، و"اللسان" 9/ 91 (خلف) كذلك، و"مقاييس اللغة" 2/ 213، و"نوادر أبي زيد" ص 15.]] يقول: إحداهما مُصْعِدَةٌ، والأخرى مُنْحَدِرة [["تهذيب اللغة" 7/ 398 (خلف).]]، واحد الساقين طويل، والآخر قصير [[في نسخة: (أ)، (ب)، بالتنوين في: طويلاً، وقصيراً.]]، أو أحدهما أسود، والآخر أحمر. وقال غيره: يقال: ولد فلان خلفة، أي: نصف صغار، ونصف كبار، ونصف ذكور، ونصف إناث [["تهذيب اللغة" 7/ 398 (خلف)، بنصه. ولم يسم القائل.]]. وعلى هذا [[في (أ)، (ب): (وهذا على).]] الخلفة من الاختلاف الذي هو ضد الاتفاق. وهذا قول مجاهد، قال: جعل كل واحد منهما مخالفًا لصاحبه، فجعل هذا أسود، وهذا أبيض [[أخرجه بسنده، عنه ابن جرير 19/ 31، وابن أبي حاتم 8/ 2718. وتفسير مجاهد == 2/ 455. وذكره عنه الهوَّاري 3/ 216. وأخرجه بسنده ابن أبي حاتم 8/ 2718، عن ابن عباس رضي الله عنهما.]]. وذكر الفراء، والزجاج، القولين جميعًا [["معاني القرآن" للفراء 2/ 271. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 74.]]، وأنشدا قول زهير: بها العِينُ والآرام يَمشِين خِلْفةً [[صدر بيتٍ وعجزه: وأطلاؤها ينهض من كل مجثم "ديوان زهير" 75، وذكره مقتصرًا على صدره: الفراء 2/ 271، وأبو عبيدة 2/ 80، وابن قتيبة في "الغريب" ص 314، وابن جرير 19/ 32، والأزهري 7/ 399. وذكره بتمامه: الثعلبي 8/ 101 ب، وابن عطية 11/ 61، قال ابن قتيبة: الآرام: الظباء البيض، والآرام: الأعلام، واحده: أرم، أي: إذا ذهب فوج الوحش، جاء فوج.]] أي: مختلفات، في أنهما ضربان في ألوانها، وهيئتها، وتكون خلفة في مِشْيَتها، تذهب كذا، وتجيء كذا [["تهذيب اللغة" 7/ 399 (خلف)، بنصه وذكر نحوه الفراء 2/ 271، وابن جرير 19/ 32.]]. وحكى الكلبي، القولين أيضًا؛ فقال: ﴿خِلْفَةً﴾ يخلف كل واحد منهما صاحبه. قال: ويقال الخلفة: اختلاف ألوانها [[في "تنوير المقباس" ص 305: مختلفة بعضها لبعض.]]. والخلفة: اسم من الاختلاف، أقيم مقام المصدر. والاختلاف يحتمل المعنيين جميعًا. وذكرنا ذلك عند قوله: ﴿إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ في سورة البقرة [آية: 164] [[قال الواحدي في تفسير هذه الآية: فسر الاختلاف هاهنا تفسيرين؛ أحدهما: أنه افتعال من قولهم: خلفه يخلفه إذا ذهب الأول وجاء الثاني خلافه؛ أي: بعده .. وبهذا فسر قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ .. الثاني: قال ابن كيسان وعطاء في هذه الآية: أراد اختلافهما في الطول والقصر والنور والظلمة == والزيادة والنقصان .. وهذا القول يرجع إلى المعنى الأول؛ لأن معنى الاختلاف في اللغة: التفرق في الجهات جهة اليمين والشمال والخلف والقدام، ثم شُبه الاختلاف في المذاهب وفي كل شيء بالاختلاف في الطريق مواجهة أن كل واحد من المختلفين على نقيض ما ذهب إليه الآخر كالمختلفين في الطريق.]] ولهذا لم يثنَّ، كما يقال: رجلان عدل. ويحتمل أن يكون الأمر من باب حذف المضاف، على تقدير: ذوي خلفة [[ذكره القرطبي 13/ 66، ولم ينسبه.]]. قوله: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ﴾ أي: يتذكر، فيتبين شكر الله، وموضع النعمة، وإتقان الصنعة، فيستدل به على التوحيد. والتشديد، على أنه: يتذكر، ويتفكر ليدرك العلم بقدرته، ويستدل على توحيده. وقرأ حمزة، مخففًا [[كتاب "السبعة في القراءات" ص 466، و"الحجة للقراء السبعة" 5/ 348، وقرأ بها من القراء العشرة خلف، "النشر في القراءات العشر" 2/ 334.]]، على معنى [[(معنى) (خ).]] أنه: يذكر ما نسيه في أحد هذين الوقتين، في الوقت الآخر. ويجوز أن يكون: على تذكر تنزيه الله تعالى، وتسبيحه فيهما؛ كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41] هذا كلام أبي علي [["الحجة للقراء السبعة" 5/ 384، قال: المعنى في قراءة حمزة: ﴿أن يذَّكَّرَ﴾ يتذكر.]]. وقال الفراء: (ويذكر، ويتذكر) يأتيان بمعنى واحد؛ قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ [البقرة: 63] في حرف عبد الله: (وتذكَّروا) ما فيه انتهى كلامه [["معاني القرآن" للفراء 2/ 271، بلفظ: وفي قراءتنا ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ [البقرة: 63] وفي حرف عبد الله (وتذكروا ما فيه) وذهب إلى أنهما بمعخى واحد: ابن جرير 19/ 32. لم أجده عند ابن خالويه، ولا ابن جني.]]. وفي جعل الله تعالى الليل والنهار متعاقبين، يخلف أحدهما صاحبه اعتبارٌ واستدلال على قدرته، ومتسع لذكره، وطاعته أيضًا [[ذكره في "الوسيط" 3/ 345، بنصه، ولم ينسبه.]]. وهذا قول المفسرين كما حكينا عنهم في القول الأول في الخلفة. وعلى قول جاهد، الظاهر أنه أراد بالتذكير: الاعتبار، والاستدلال على قدرته، لا الذكر الذي هو التسبيح، والتنزيه [[أخرج بسنده ابن أبي حاتم 8/ 2719، عن مجاهد: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ﴾ يتعظ.]]. وقوله تعالى: ﴿أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ الشُكُور: مصدر شَكَر يَشْكُر، شُكْرًا وشُكُورًا، كما يقال: كَفَر يَكْفُر، كُفْرًا وكُفُورًا، قال الله تعالى: ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9] قال ابن عباس في هذه الآية: يريد لمن أراد أن يتعظ، ويطيعني [["تنوير المقباس" ص 305.]]. وقال مجاهد: يشكر نعمة ربه عليه فيهما [["تفسير مجاهد" 2/ 455. وأخرجه عنه ابن جرير 19/ 32، وابن أبي حاتم 8/ 2719.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب