الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ الآية، قد ذكرنا بعض أحكام أم في قوله: ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: 6]، [["البسيط" 1/ 474 - 475 تحقيق: الفوزان.]] والذي بقي هاهنا أن أم تقع [[في (ش): (تقطع).]] عاطفة بعد الاستفهام، كقولك: أخرج زيدٌ [[في (ش): (زيدًا).]] أم عمرو؟ وأَزَيدٌ عندك أم عمرو؟، فيكون معنى الكلام: أيهما عندك؟، ولا تكاد تكون عاطفة إلا بعد الاستفهام [[ينظر: "مغني اللبيب" 1/ 42، "البحر المحيط" 1/ 346.]]. قال الفراء: ويجوز أن يستفهم بها، فتكون [[في (أ)، (م): (فيكون).]] على جهة النسق في ظاهر اللفظ، وفي المعنى تكون استفهامًا مبتدأً به، منقطعًا مما قبله، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ [السجدة:1 - 3]. فجاءت (أم) وليس قبلها استفهام، وهي دليل على أنها استفهام مُبتدأ على كلام قد سبقه [[كذا في "معاني القرآن" للفراء1/ 71.]]، وتقديره: بل أتقولون افتراه، فلو لم يتقدمه كلام لم يجز أن تستفهمَ مبتدئا كلامك بـ (أم)، ولا يكون إلا بالألف أو بهل، فأم استفهام متوسط والمتقدم يكون بالألف أو بهل [[من قوله: (فأم استفهام) ... ساقط من (ش).]]. فأما قوله ﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ فيجوز فيه الوجهان جميعًا، إن شئت قلت قبله استفهام رُدَّ عليه، وهو قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ﴾ [[كذا في "معاني القرآن" للفراء 1/ 71.]]. فإن قيل: كيف يُرَدّ (أم تريدون) عليه والأول خطاب للنبي ﷺ، والثاني خطاب للجماعة؟ قيل: الله تعالى رجع في الخطاب من التوحيد إلى الجمع، وما خوطب به عليه السلام فقد خوطب به أُمّته، فيكتفى به من أُمّته، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: 1]، فوحَّد ثم جَمَعَ، كذلك فيما نحن فيه، ويكون المعنى على هذا: أيُّهما عندكم العلم بأن الله قدير، وأن له ملك السماوات والأرض، أم إرادة سؤال الرسول الآيات؟ والله تعالى علم أيهما عندهم. وإن شئت جعلت أم منقطعًا مما قبله في المعنى، مستأنفًا بها الاستفهام، فيكون استفهامًا متوسطًا في اللفظ مُبتدئًا في المعنى، كقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ الآية. ثم قال: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ﴾ [الزخرف:51 - 52] وهذا يطرد فيه الوجهان العطف بالاستفهام، والابتداء به [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 72.]]. ومثله قوله: ﴿مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾ [ص:62 - 63]. فمن قرأ: ﴿أَتَّخَذنَاهُم﴾ بفتح الألف فـ (أم) جاءت بعد الاستفهام [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 71 - 72.]]، ومن وصل الألف فـ (أم) فيه بمنزلته في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ [السجدة: 3]. قال الفراء: وربما جعلت العرب (أم) إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه أيٌّ على جهة (بل) فتقول [[في (أ)، (م): (فيقول). وفي "معاني القرآن" 1/ 72: (فيقولون).]]: هل لك قبلنا حقٌ أم أنت رجل ظالم؟ على معنى: بل أنت [[كذا بنحوه في "معاني القرآن" للفراء 1/ 72، ونقل أغلب ما سبق عن الفراء الطبري في "تفسيره" 1/ 484 - 485، وينظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 1/ 441.]]. وأنشد ابن الأنباري على هذا: تروحُ من الحيِّ أم تَبْتَكرْ ... وماذا يضُرُّك لو تَنْتَظِرْ [[البيت لامرئ القيس، ينظر: "ديوانه" ص 68، "لسان العرب" 5/ 2777، (مادة: عبد)، "المعجم المفصل" 3/ 31.]] فقال: يجوز أن تكون أم في هذا البيت مردودة على الألفِ المُضْمَرة مع تروح وكافية منها، كقوله: فوالله ما أدري وإنْ كنتُ داريًا ... بسبعٍ رمينَ الجمرَ أم بثمانِ [[البيت لعمر بن أبي ربيعة، ينظر: "ديوانه" ص 266، "المعجم المفصل" 8/ 186.]] ويجوز أن يكون هي حرف الاستفهام متوسطًا. فأما التفسير فقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رهط من قريش، قالوا: يا محمد، (اجعل لنا) [[ساقطة من (م).]] الصَّفَا ذهبًا، ووسِّع لنا أرضَ مكة، وفجَّر الأنهار خلالها تفجيرًا، نؤمنْ بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية [[كذا ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1110، والمصنف أيضًا في "أسباب النزول" ص 34، القرطبي 2/ 62، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 345 وذكره الحافظ في "العجاب" 1/ 350 عن الواحدي، وقال: ذكره الثعلبي، ولعله من تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس .. وقد ذكر الطبري في تفسيره 1/ 483، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 328 أسبابًا أخرى، ومن ذلك: ما رواه ابن أبي حاتم بسنده الحسن كما في "التفسير الصحيح" 1/ 213 عن محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة، ووهب بن زيد لرسول الله ﷺ: يا محمد ايتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارًا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك عن قولهم: (أم تريدون ..) الآية. قال الثعلبي في "تفسيره" 15/ 111: والصحيح إن شاء الله أنها نزلت في اليهود حين قالوا: ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة، لأن هذه السورة مدنية، وتصديق هذا القول: قوله عز وجل: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ [النساء: 153].]]. والذي سأل قوم موسى أنهم قالوا: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: 153]، [[قال الشنقيطي في "أضواء البيان" 1/ 145 لم يبين هنا الذي سأل موسى من قبل من هو؟ ولكنه بينه في موضع آخر، وذلك في قوله: (يسألك أهل الكتاب ...) الآية.]]. قال المفسرون: إن [[في (ش): (بأن).]] اليهود وغيرهم من المشركين تمنَّوا [[تحرفت في "أسباب النزول" ص 37 إلى تمنعوا.]] على رسول الله ﷺ، فمِنْ قائلٍ يقول: ائتنا بكتاب من السماء جملة واحدة [[ساقطة من (أ)، (م).]]، كما أتى موسى بالتوراةِ، ومِن قائلٍ يقول، وهو عبد الله ابن أبي أمية المخزومي [[هو عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم ابن عمة النبي ﷺ عاتكة بنت عبد المطلب، كان من كفار مكة ومن أقوى المعارضين للرسول ﷺ ودعوته ولم يزل كذلك حتى عام الفتح، فهاجر إليه قبل الفتح هو وأبو سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب، وأسلما وحسن إسلامهما، وشهد فتح مكة وحنينًا والطائف، ورُمي من الطائف بسهم فقتله. ينظر: "معجم الصحابة" لابن قانع 2/ 521، "أسد الغابة" 3/ 177، "البداية والنهاية" 4/ 130.]]: ائتني بكتاب من السماء فيه من الله رب العالمين إلى أُبي بن [[في الأصل: أبي بن، والتصويب من "أسباب النزول" ص 38.]] أُميّة: اعلم أني قد أرسلت محمدًا إلى الناس، ومِن قائلٍ يقول: لن نؤمن أو تأتي بالله والملائكة قَبيلًا، فأنزل الله تعالى هذه الآية [[ينظر تخريج كلام ابن عباس السابق، وكذا أيضا في "أسباب النزول" للمصنف ص 37 - 48، "البحر المحيط" 1/ 346.]]. وقال أبو إسحاق: معنى الآية: أنَّهم نُهوا أن يسألوا النبي ﷺ مالا خير لهم في السؤال عنه [[في "معاني القرآن" عنه وما يكفرهم وإنما.]]، إنما خُوطبوا بهذا بعدَ وضوحِ البراهين لهم، وإقامتهم [[في "معاني القرآن" وإقامتها.]] على مخالفتهم [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 192.]]. والسؤال بعد قيام البراهين كفر. لذلك قال ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ قصدَه ووسطَه [["تفسير الثعلبي" 1/ 1112.]]، ومعنى الضلال ها هنا: الذَهابُ عن الاستقامة [[ينظر: "الوسيط" 1/ 191.]]، قال الأخطل [[هو: غياث بن غوث بن الصلت أبو مالك التغلبي، شاعر نصراني.]]: كنتُ القَذَى في موجِ أكدرَ مُزبدٍ ... قذَفَ الأتيُّ به فضلَّ ضلالا [[ينظر: "ديوان الأخطل" ص 250، و"نقائض جرير والأخطل" ص 83، و"تفسير القرطبي" 14/ 91، و"الماوردي" 3/ 293، و"وضح البرهان" للغزنوي 2/ 175. وينظر: "البحر المحيط" 5/ 513 - 514.]] أي: ذهب يمينًا وشمالًا. وذكرنا ما في (سواء) في قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: 6].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب