الباحث القرآني

(p-355)﴿أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسْألُوا رَسُولَكم كَما سُئِلَ مُوسى مِن قَبْلُ﴾ جُوِّزَ في (أمْ) هَذِهِ أنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً، وأنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً، فَإنْ قُدِّرَ تَعْلَمُونَ، قَبْلَ تُرِيدُونَ بِناءً عَلى دِلالَةِ السِّباقِ، وهو ألَمْ تَعْلَمْ، والسِّياقِ وهو الِاقْتِراحُ، فَإنَّهُ لا يَكُونُ إلّا عِنْدَ التَّعَنُّتِ، والعِلْمُ بِخِلافِهِ كانَتْ مُتَّصِلَةً، كَأنَّهُ قِيلَ: أيُّ الأمْرَيْنِ مِن عَدَمِ العِلْمِ بِما تَقَدَّمَ، أوِ العِلْمُ مَعَ الِاقْتِراحِ واقِعٌ، والِاسْتِفْهامُ حِينَئِذٍ لِلْإنْكارِ بِمَعْنى لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنهُما، وإنْ لَمْ يُقَدَّرْ، كانَتْ مُنْقَطِعَةً لِلْإضْرابِ عَنْ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالسّابِقِ إلى الِاسْتِفْهامِ عَنِ اقْتِراحِهِمْ كاقْتِراحِ اليَهُودِ إنْكارًا عَلَيْهِمْ بِأنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يَقَعَ أيْضًا، وقَطَعَ بَعْضُهم بِالقَطْعِ بِناءً عَلى دُخُولِ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الخِطابِ أوْ لا، وعَدَمُ دُخُولِهِ فِيهِ هُنا لِأنَّهُ مُقْتَرَحٌ عَلَيْهِ، لا مُقْتَرِحٌ، وذَلِكَ مُخِلٌّ بِالِاتِّصالِ، وأُجِيبَ بِأنَّهُ غَيْرُ مُخِلٍّ بِهِ، لِحُصُولِهِ بِالنِّسْبَةِ إلى المَقْصِدِ، وإرادَةُ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الأوَّلِ كانَتْ لِمُجَرَّدِ التَّصْوِيرِ، والِانْتِقالِ لِما قَدَّمْنا أنَّها بِطَرِيقِ الكِنايَةِ، والمُرادُ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ تَوْصِيَتُهُ المُسْلِمِينَ بِالثِّقَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وتُرِكَ الِاقْتِراحُ بَعْدَ رَدِّ طَعْنِ المُشْرِكِينَ أوِ اليَهُودِ في النَّسْخِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا تَكُونُوا فِيما أُنْزِلَ إلَيْكم مِنَ القُرْآنِ مِثْلَ اليَهُودِ في تَرْكِ الثِّقَةِ بِالآياتِ البَيِّنَةِ واقْتِراحِ غَيْرِها، فَتَضِلُّوا وتَكْفُرُوا بَعْدَ الإيمانِ، وفي هَذِهِ التَّوْصِيَةِ كَمالُ المُبالَغَةِ والبَلاغَةُ، حَتّى كَأنَّهم بِصَدَدِ الإرادَةِ، فَنُهُوا عَنْها فَضْلًا عَنِ السُّؤالِ، يَعْنِي مِن شَأْنِ العاقِلِ أنْ لا يَتَصَدّى لِإرادَةِ ذَلِكَ، ولَمْ يَقُلْ سُبْحانَهُ: كَما سَألَ أُمَّةُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أوِ اليَهُودُ، لِلْإشارَةِ إلى أنَّ مَن سَألَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ أنْ يُصانَ اللِّسانُ عَنْ ذِكْرِهِ، ولا يَقْتَضِي سابِقِيَّةَ وُقُوعِ الِاقْتِراحِ مِنهُمْ، ولا يَتَوَقَّفُ مَضْمُونُ الآيَةِ عَلَيْهِ، إذِ التَّوْصِيَةُ لا تَقْتَضِي سابِقِيَّةَ الوُقُوعِ، كَيْفَ وهو كُفْرٌ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ما بَعْدُ، ولا يَكادُ يَقَعُ مِنَ المُؤْمِنِ، ومِمّا ذَكَرْنا يَظْهَرُ وجْهُ ذِكْرِ هَذِهِ الآيَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما نَنْسَخْ﴾ فَإنَّ المَقْصِدَ مِن كُلٍّ مِنهُما تَثْبِيتُهم عَلى الآياتِ، وتَوْصِيَتُهم بِالثِّقَةِ بِها، وأمّا بَيانُهُ بِأنَّهُ لَعَلَّهم كانُوا يَطْلُبُونَ مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَيانَ تَفاصِيلِ الحِكَمِ الدّاعِيَةِ إلى النَّسْخِ، فَلِذا أُرْدِفَتْ آيَةُ النَّسْخِ بِذَلِكَ، فَأُراهُ إلى التَّمَنِّي أقْرَبَ، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ «أنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلى الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في غَزْوَةِ خَيْبَرَ أنْ يَجْعَلَ لَهم ذاتَ أنْواطٍ، كَما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (سُبْحانَ اللَّهِ ! هَذا كَما قالَ قَوْمُ مُوسى: ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ﴾ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكم حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، والقُذَّةِ بِالقُذَّةِ، إنْ كانَ فِيهِمْ مَن أتى أُمَّهُ يَكُونُ فِيكُمْ، فَلا أدْرِي أتَعْبُدُونَ العِجْلَ أمْ لا؟)،» وهو مَعَ الحاجَةِ إلَيْهِ يَسْتَدْعِي أنَّ المُخاطَبَ في الآياتِ هُمُ المُؤْمِنُونَ، والسِّباقُ والسِّياقُ والتَّذْيِيلُ تَشْهَدُ لَهُ، وعَلَيْهِ يَتَرَجَّحُ الِاتِّصالُ لِما نُقِلَ عَنِ الرَّضِيِّ: أنَّ الفِعْلِيَّتَيْنِ إذا اشْتَرَكَتا في الفاعِلِ نَحْوَ: أقُمْتَ أمْ قَعَدْتَ، (فَأمْ) مُتَّصِلَةٌ، وزَعَمَ قَوْمٌ أنَّ المُخاطَبَ بِها اليَهُودُ، وأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ حِينَ سَألُوا أنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتابٌ مِنَ السَّماءِ جُمْلَةً كَما نَزَلَتِ التَّوْراةُ عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وخاطَبَهم بِذَلِكَ بَعْدَ رَدِّ طَعْنِهِمْ تَهْدِيدًا لَهُمْ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ المُضارِعُ الآتِي بِمَعْنى الماضِي، إلّا أنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُ إحْضارًا لِلصُّورَةِ الشَّنِيعَةِ، واخْتارَ هَذا الإمامُ الرّازِيُّ، وقالَ: إنَّهُ الأصَحُّ، لِأنَّ هَذِهِ سُورَةٌ مِن أوَّلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ حِكايَةً عَنِ اليَهُودِ ومُحاجَّةً مَعَهُمْ، ولِأنَّهُ جَرى ذِكْرُهُمْ، وما جَرى ذِكْرُ غَيْرِهِمْ، ولِأنَّ المُؤْمِنَ بِالرَّسُولِ لا يَكادُ يَسْألُ ما يَكُونُ مُتَبَدِّلًا بِهِ الكُفْرَ بِالإيمانِ، ولا يَخْفى ما فِيهِ، وكَأنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى نَسِيَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وقُولُوا انْظُرْنا﴾ وقِيلَ: إنَّ المُخاطَبَ أهْلُ مَكَّةَ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ ورَهْطٍ مِن قُرَيْشٍ قالُوا: يا مُحَمَّدُ، اجْعَلْ لَنا الصَّفا ذَهَبًا، ووَسِّعْ لَنا أرْضَ مَكَّةَ، وفَجِّرْ لَنا الأنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا، ونُؤْمِن لَكَ، وحُكِيَ في سَبَبِ النُّزُولِ غَيْرُ (p-356)ذَلِكَ، ولا مانِعَ كَما في البَحْرِ مِن جَعْلِ الكُلِّ أسْبابًا، وعَلى الخِلافِ في المُخاطَبِينَ يَجِيءُ الكَلامُ في ﴿رَسُولَكُمْ﴾ فَإنْ كانُوا المُؤْمِنِينَ فالإضافَةُ عَلى ما في نَفْسِ الأمْرِ، وما أقَرُّوا بِهِ مِن رِسالَتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وإنْ كانُوا غَيْرَهم فَهي عَلى ما في نَفْسِ الأمْرِ دُونَ الإقْرارِ، (وما) مَصْدَرِيَّةٌ، والمَشْهُورُ أنَّ المَجْرُورَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ سُؤالًا (كَما)، ورَأى سِيبَوَيْهِ أنَّهُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ، والتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ أنْ تَسْألُوهُ، أيِ السُّؤالَ (كَما)، وأجازَ الحَوْفِيُّ أنْ تَكُونَ (ما) مَوْصُولَةً في مَوْضِعِ المَفْعُولِ بِهِ، لِتَسْألُوا، أيْ كالأشْياءِ الَّتِي سَألَها مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلُ، وهو الأنْسَبُ، لِأنَّ الإنْكارَ عَلَيْهِمْ إنَّما هو لِفَسادِ المُقْتَرَحاتِ، وكَوْنُها في العاقِبَةِ وبالًا عَلَيْهِمْ، وفِيهِ نَظَرٌ، لِأنَّ المُشَبَّهَ (أنْ تَسْألُوا) وهو مَصْدَرٌ، فالظّاهِرُ أنَّ المُشَبَّهَ بِهِ كَذَلِكَ، وقُبْحُ السُّؤالِ إنَّما هو لِقُبْحِ المَسْؤُولِ عَنْهُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ السُّؤالُ نَفْسُهُ قَبِيحًا في بَعْضِ الحالاتِ مَعَ أنَّ المَصْدَرِيَّةَ لا تَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ رابِطٍ، فَهو أوْلى، (ومِن قَبْلُ) مُتَعَلِّقٌ بِسُئِلَ، وجِيءَ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ، وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو السِّمالِ (سِيلَ) بِسِينٍ مَكْسُورَةٍ وياءٍ، وأبُو جَعْفَرٍ والزُّهْرِيُّ بِإشْمامِ الشِّينِ الضَّمَّ وياءٍ، وبَعْضُهم بِتَسْهِيلِ الهَمْزَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وضَمِّ السِّينِ. ﴿ومَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلى حُكْمٍ كُلِّيٍّ، أُخْرِجَتْ مَخْرَجَ المَثَلِ، جِيءَ بِها لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنِ الِاقْتِراحِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: أمْ تُرِيدُونَ إلَخْ، مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهِ، فَهي تَذْيِيلٌ لَهُ بِاعْتِبارِ أنَّ المُقْتَرِحِينَ الشّاكِّينَ مِن جُمْلَةِ الضّالِّينَ الطَّرِيقَ المُسْتَقِيمَ المُتَبَدِّلِينَ، (وسَواءَ) بِمَعْنى وسَطٍ، أوْ مُسْتَوِي، والإضافَةُ مِن بابِ إضافَةِ الوَصْفِ إلى المَوْصُوفِ لِقَصْدِ المُبالَغَةِ في بَيانِ قُوَّةِ الِاتِّصافِ، كَأنَّهُ نَفْسُ السَّواءِ عَلى مِنهاجِ حُصُولِ الصُّورَةِ في الصُّورَةِ الحاصِلَةِ، والفاءُ رابِطَةٌ، وما بَعْدَها لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ جَزاءَ الشَّرْطِ لِأنَّ ضَلالَ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ مُتَقَدِّمٌ عَلى الِاسْتِبْدالِ، والِارْتِدادُ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، ولِأنَّ الجَزاءَ إذا كانَ ماضِيًا مَعَ (قَدْ) كانَ باقِيًا عَلى مُضِيِّهِ، لِأنَّ (قَدْ) لِلتَّحْقِيقِ، وما تَأكَّدَ، ورَسَخَ لا يَنْقَلِبُ، ولا يَتَرَتَّبُ الماضِي عَلى المُسْتَقْبَلِ، ولِأنَّ كَوْنَ الشَّرْطِ مُضارِعًا، والجَزاءِ ماضِيًا، صُورَةُ ضَعِيفٍ لَمْ يَأْتِ في الكِتابِ العَزِيزِ عَلى ما صَرَّحَ بِهِ الرَّضِيُّ وغَيْرُهُ، فَلا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ بِأنْ يُقالَ: ومَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإيمانِ فالسَّبَبُ فِيهِ أنَّهُ تَرَكَهُ، ويَؤُولُ المَعْنى إلى أنَّ ضَلالَ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ، وهو الكُفْرُ الصَّرِيحُ في الآياتِ سَبَبٌ لِلتَّبْدِيلِ والِارْتِدادِ، وفَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّبَدُّلَ المَذْكُورَ بِتَرْكِ الثِّقَةِ بِالآياتِ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ لازِمًا لَهُ، فَيَكُونُ كِنايَةً عَنْهُ، وحاصِلُ الآيَةِ حِينَئِذٍ: ومَن يَتْرُكِ الثِّقَةَ بِالآياتِ البَيِّنَةِ المُنَزَّلَةِ بِحَسَبِ المَصالِحِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها الآياتُ النّاسِخَةُ الَّتِي هي خَيْرٌ مَحْضٌ، وحَقٌّ بَحْتٌ، واقْتَرَحَ غَيْرَها، فَقَدْ عَدَلَ وجارَ مِن حَيْثُ لا يَدْرِي عَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ المُوصِلِ إلى مَعالِمِ الحَقِّ والهُدى، وتاهَ في تِيهِ الهَوى، وتَرَدّى في مَهاوِي الرَّدى، واخْتارَ ما في النَّظْمِ الكَرِيمِ إيذانًا مِن أوَّلِ الأمْرِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ بِأنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ وارْتِدادٌ، ولَعَلَّ ما أشَرْنا إلَيْهِ أوْلى كَما لا يَخْفى عَلى المُتَدَبِّرِ، وقُرِئَ (ومَن يُبْدِلْ) مِن أبْدَلَ، وإدْغامُ الدّالِ في الضّادِ والإظْهارُ قِراءَتانِ مَشْهُورَتانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب