الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾، قال ابن عباس في رواية الكلبي: يريد عملوا الشرك [["تنوير المقباس" ص 212، "زاد المسير" 4/ 25، "الوسيط" 2/ 545.]]، مثل قوله: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ [النساء: 18]. وقوله تعالى: ﴿جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ [قال الفراء: رفعت الجزاء بإضمار (لهم)؛ كأنك قلت: فلهم جزاء السيئة بمثلها] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ى).]]، كما قال: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ [البقرة: 196]، أي: فعليه، قال: وإن [[في (م): (فإن)، والمثبت موافق لما في "معاني القرآن".]] شئت رفعت الجزاء بالباء في قوله: ﴿بِمِثْلِهَا﴾ والأول أعجب إليّ [["معاني القرآن" 1/ 461.]]. هذا كلامه، وزاد ابن الأنباري بيانًا فقال: إذا رفعت الجزاء بالباء أضمرت العائد إلى الموصول، على تقدير: جزاء سيئة منهم بمثلها، فالجزاء مرتفع بالباء و (الذين) يرتفعون برجوع الهاء المضمرة عليهم، وصلح إضمار (منهم) في ذا الموضع كما تقول: رأيت القوم صائم وقائم، يراد: منهم صائم وقائم، كما أنشد الفراء [[انظر: "معاني القرآن" 1/ 193.]]: حتى إذا ما أضاء النجم في غلس ... وغودر البقل ملوي ومحصود [[البيت لذي الرمة في "ديوانه" 2/ 1366، والرواية فيه: حتى إذا ما استقل النجم في غلس ... وأحصد البقل ملوي ومحصود]] معناه: منه ملوي ومنه محصود. وعلى الجواب الأول يرتفع الجزاء باللام المضمرة؛ لأن التقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها، والباء صلة الجزاء و (الذين) يرتفعون برجوع الهاء عليهم، وصلح إضمار (لهم) كما تضمره العرب في قولهم: رأيت لعبد الله ذكاءً وفطنة وعلم واسع، يريدون وله علم واسع، أنشد الفراء [[انظر: "معاني القرآن" 2/ 234، ورواية صدره فيه: هزئت حميدة إن رأت بي رتة]]: هزئت هنيدة أن رأت لي رثة ... وفمًا [[في (م): (وفم)، وهو خطأ بدلالة السياق، إذ إن قوله (وجلد) مرفوع على الرغم من عطفه على قوله: (لي رثة وفمًا). وهم منصوبان، وقد وجه ابن الأنباري ذلك.]] به قصم وجلد أسود [[البيت لسليك بن سلكة السعدي كما في "الأشباه والنظائر" 2/ 271، "تذكرة النحاة" 680، "شرح أبيات معاني القرآن" ص 111، طى اختلاف في الروايات، وذكره بلا نسبة بمثل رواية المصنف، الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" 3/ 207. والرثة: الخلق الخسيس البالي من كل شيء، والرتة: عيب في النطق، والقصم: كسر في الثنية من الأسنان. انظر: "اللسان" (رث ورت وقصم).]] أراد ولي جلد أسود [[انظر قول ابن الأنباري مختصرًا في: "زاد المسير" 4/ 26، "مفاتيح الغيب" 17/ 84.]]. انتهى كلامه. وهذا مذهب الكوفيين في هذه الآية [[انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 461، وانظر الخلاف بين البصريين والكوفيين في مثل هذه المسألة في: "الإنصاف" ص53.]]. وأما عند أهل البصرة [[انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 372.]] فقال أبو عثمان [[هو المازني.]]: الباء في قوله (بمثلها) زائدة، وتقديره عنده: جزاء سيئة مثلها، واستدل على هذا بقوله في موضع آخر: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]. قال أبو الفتح الموصلي [[هو ابن جني.]]: وهذا مذهب حسن، واستدلال صحيح؛ إلا أن الآية تحتمل مع صحة هذا القول تأويلين آخرين، أحدهما: أن تكون الباء مع ما بعدها هو الخبر، فكأنه قال: وجزاء سيئة كائن بمثلها، كما تقول: إنما [[ساقط من (ى).]] أنا بك، أي كائن موجود بك. والثاني: أن تكون الباء في (بمثلها) متعلقة بنفس الجزاء، ويكون الجزاء مرتفعًا [[في (ح) و (ى) و (ز) و (ص): (مرتفَعُهُ)، وما أثبته من (م)، وهو موافق لما في "سر صناعة الإعراب".]] بالابتداء، وخبره محذوف كأنه قال: وجزاء سيئة بمثلها كائن أو واقع، وحذف الخبر حسن متجه، قد حذف في عدة مواضع. هذان القولان حكاهما أبو الفتح [["سر صناعة الإعراب" 1/ 138 - 140 باختصار.]]، وذكرهما أبو علي في "المسائل الحلبية" [[لم أجد ذلك في الكتاب المطبوع، ومخطوطته ناقصة كما أشار المحقق في المقدمة.]] في قوله -عز وجل-: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وعلى هذه الأقوال في الباء، الجزاء مرتفع بالابتداء، والجملة -التي هي ابتداء وخبر- فيها خبر الابتداء الأول وهو قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾ والمعني: يجزون السوء، وعلى هذا المعنى عطف قوله: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾، هذا كلام النحويين من الفريقين في هذه الآية، وكلهم جعلوا الموصول مبتدأ [[انظر: "التبيان في إعراب القرآن" ص 437.]]، ويجوز أن تجعله عطفًا على الموصول الأول وهو قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى﴾ فكأن التقدير: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة، فيرتفع الجزاء باللام في الآية الأولى، والباء في (بمثلها) من صلة الجزاء، وحسن النظم من غير إضمار ولا تكلف. وقوله تعالى: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾، قال ابن عباس: يصيبهم الذل والخزي [[في (ى): (الحزن).]] والهوان [[رواه بمعناه ابن جرير 11/ 109، وابن أبي حاتم 6/ 1946.]]. وقوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ ما لهم من عذاب الله من مانع يمنعهم ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ﴾ ألبست [[ساقط من (ى).]] ﴿وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ القِطْع: [اسم لِما [[في (ى): (ما).]] قطع فسقط، ويراد به هاهنا بعض من الليل. قال ابن السكيت: القِطْع] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).]] الطائفة من الليل [["المشوف المعلم" 2/ 648، "تهذيب إصلاح المنطق" ص 38.]]، ومعنى الآية وصف وجوههم بالسواد حتى كأنها ألبست سوادًا من الليل كقوله: ﴿تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: 60]، وكما قيل في قوله تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: 41] أي [[ساقط من (م).]]: أنه سواد الوجوه وزرقة الأعين [[هذا قول الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج، انظر: "تفسير ابن جرير" 27/ 143، ط. الحلبي، "الدر المنثور" 7/ 704.]]، والعرب تستعمل لون الليل في السواد. قال الشاعر [[هو: ذو الرمة، انظر:"ديوانه" 2/ 685، "شرح شواهد الإيضاح" ص 382. والدوية: الصحراء الملساء، واعتسفتها: ركبتها على غير هداية.]]: ودوية مثل السماء اعتسفتها ... وقد صبغ الليل الحصى بسواد جعل ما يعلو الحجارة من ظلمة الليل صبغا منه إياها بالسواد. وقوله تعالى: ﴿مُظْلِمًا﴾ قال الفراء [["معاني القرآن" 1/ 462، وهذا القول أحد الوجهين الذين ذكرهما الفراء.]]، والزجاج [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 16، وهو كالفراء ذكر وجهين في إعراب الكلمة هذا أحدهما.]]: هو نعت لقوله: ﴿قِطَعًا﴾. و [قال أبو علي] [[ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).]] يجوز أن تجعله حالاً من الذكر الذي في الظرف -يريد بالظرف الليل- كأنه قيل: قطعًا من الليل وهو مظلم، أي الليل، قال: والقول الأول [[يعني ما ذكره عن الفراء والزجاج.]] أحسن؛ لأنه على قياس قوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: 92، 155]، وصفت الكتاب بالمفرد بعدما وصفته بالجملة، وأجريته على النكرة [[اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" 4/ 270 بتصرف.]] كذلك هاهنا، تصف ﴿قِطَعًا﴾ بكونه مظلما بعدما وصفته بقوله ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾. وقرئ ﴿قِطَعًا﴾ مفتوحة الطاء [[قرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب (قِطْعًا) بإسكان الطاء، وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "إرشاد المبتدي" ص 362، "تحبير التيسير" ص 122، "النشر" 2/ 283.]]، وهي جمع قِطْعة، ومعنى الآية في القراءتين واحد؛ لأنهم إذا أغشيت وجوههم قِطْعًا من الليل مظلمًا اسودت منها، كما أنه إذا أغشيت قِطَعا التي [[ساقط من (ح) و (ز).]] هي جمع قطعة اسودت و ﴿مُظْلِمًا﴾ على هذه القراءة حال من الليل، المعنى أغشيت وجوههم قِطَعا من الليل في حال ظلمته.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب