الباحث القرآني

﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهم يَحْذَرُونَ﴾: لَمّا سَمِعُوا: ﴿ما كانَ لِأهْلِ المَدِينَةِ﴾ [التوبة: ١٢٠] الآيَةَ؛ أهَمَّهم ذَلِكَ، فَنَفَرُوا إلى المَدِينَةِ إلى الرَّسُولِ، فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: قالَ المُنافِقُونَ حِينَ نَزَلَتْ ﴿ما كانَ لِأهْلِ المَدِينَةِ﴾ [التوبة: ١٢٠] الآيَةَ: هَكَذا أهْلُ البَوادِي، فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: لَمّا دَعا الرَّسُولُ عَلى مُضَرَ بِالسِّنِينَ أصابَتْهم مَجاعَةٌ، فَنَفَرُوا إلى المَدِينَةِ لِلْمَعاشِ وكادُوا يُفْسِدُونَها، وكانَ أكْثَرُهم غَيْرَ صَحِيحِ الإيمانِ، وإنَّما أقْدَمَهُ الجُوعُ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ، فَقالَ: وما كانَ مِن ضَعَفَةِ الإيمانِ لِيَنْفِرُوا مِثْلَ هَذا النَّفِيرِ، أيْ: لَيْسَ هَؤُلاءِ بِمُؤْمِنِينَ. وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ لا يَكُونُ النَّفِيرُ إلى الغَزْوِ، والضَّمِيرُ الَّذِي في ﴿لِيَتَفَقَّهُوا﴾ عائِدٌ عَلى الطّائِفَةِ النّافِرَةِ، وهَذا هو الظّاهِرُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الآيَةُ في البُعُوثِ والسَّرايا. والآيَةُ المُتَقَدِّمَةُ ثابِتَةُ الحُكْمِ مَعَ خُرُوجِ الرَّسُولِ في الغَزْوِ، وهَذِهِ ثابِتَةُ الحُكْمِ إذا لَمْ يَخْرُجْ، أيْ: يَجِبُ إذا لَمْ يَخْرُجْ ألّا يَنْفِرَ النّاسُ كافَّةً، فَيَبْقى هو مُفْرَدًا. وإنَّما يَنْبَغِي (p-١١٤)أنْ يَنْفِرَ طائِفَةٌ وتَبْقى طائِفَةٌ لِتَتَفَقَّهَ هَذِهِ الطّائِفَةُ في الدِّينِ، وتُنْذِرَ النّافِرِينَ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الآيَةُ ناسِخَةٌ لِكُلِّ ما ورَدَ مِن إلْزامِ النّاسِ كافَّةً النَّفِيرَ والقِتالَ، فَعَلى هَذا وعَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ يَكُونُ الضَّمِيرُ في ﴿لِيَتَفَقَّهُوا﴾ عائِدًا عَلى الطّائِفَةِ المُقِيمَةِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، ويَكُونُ مَعْنى ﴿ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾، أيْ: الطّائِفَةَ النّافِرَةَ إلى الغَزْوِ يُعْلِمُونَهم بِما تَجَدَّدَ مِن أحْكامِ الشَّرِيعَةِ وتَكالِيفِها، وكانَ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْها تَقْسِيمُها، أيْ: فَهَلّا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ وقَعَدَتْ أُخْرى لِيَتَفَقَّهُوا. وقِيلَ: عَلى أنْ يَكُونَ النَّفِيرُ إلى الغَزْوِ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في ﴿لِيَتَفَقَّهُوا﴾ عائِدًا عَلى النّافِرِينَ، ويَكُونَ تَفَقُّهُهم في الغَزْوِ بِما يَرَوْنَ مِن نُصْرَةِ اللَّهِ لِدِينِهِ، وإظْهارِهِ الفِئَةَ القَلِيلَةَ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَلى الكَثِيرَةِ مِنَ الكافِرِينَ، وذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى صِحَّةِ الإسْلامِ، وإخْبارِ الرَّسُولِ بِظُهُورِ هَذا الدِّينِ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما جاءَتْ لِلْحَضِّ عَلى طَلَبِ العِلْمِ والتَّفَقُّهِ في دِينِ اللَّهِ، وأنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَرْحَلَ المُؤْمِنُونَ كُلُّهم في ذَلِكَ فَتَعْرى بِلادُهم مِنهم ويَسْتَوْلِي عَلَيْها وعَلى ذَرارِيِّهِمْ أعْداؤُهم، فَهَلّا رَحَلَ طائِفَةٌ مِنهم لِلتَّفَقُّهِ في الدِّينِ ولِإنْذارِ قَوْمِهِمْ، فَذَكَرَ العِلَّةَ لِلنَّفِيرِ وهي التَّفَقُّهُ أوَّلًا، ثُمَّ الإعْلامُ لِقَوْمِهِمْ بِما عَلِمُوهُ مِن أمْرِ الشَّرِيعَةِ، أيْ: فَهَلّا نَفَرَ مِن كُلِّ جَماعَةٍ كَثِيرَةٍ جَماعَةٌ قَلِيلَةٌ مِنهم فَكَفَوْهُمُ النَّفِيرَ، وقامَ كُلٌّ بِمَصْلَحَةٍ هَذِهِ بِحِفْظِ بِلادِهِمْ، وقِتالِ أعْدائِهِمْ، وهَذِهِ لِتَعَلُّمِ العِلْمِ وإفادَتِها المُقِيمِينَ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّ كِلِا النَّفِيرَيْنِ هو في سَبِيلِ اللَّهِ، وإحْياءِ دِينِهِ: هَذا بِالعِلْمِ، وهَذا بِالقِتالِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ﴾ لِيَتَكَلَّفُوا الفَقاهَةَ فِيهِ، ويَتَجَشَّمُوا المَشاقَّ في أخْذِها وتَحْصِيلِها، ﴿ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ ولِيَجْعَلُوا غَرَضَهم ومَرْمى هِمَّتِهِمْ في التَّفَقُّهِ إنْذارَ قَوْمِهِمْ وإرْشادَهم والنَّصِيحَةَ لَهم لَعَلَّهم يَحْذَرُونَ إرادَةَ أنْ يَحْذَرُوا اللَّهَ تَعالى، فَيَعْمَلُوا عَمَلًا صالِحًا. ووَجْهٌ آخَرُ: وهو أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ إذا بَعَثَ بَعْثًا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ وبَعْدَ ما نَزَلَ في المُتَخَلِّفِينَ مِنَ الآياتِ الشَّدائِدِ اسْتَبَقَ المُؤْمِنُونَ عَنْ آخِرِهِمْ إلى النَّفِيرِ، وانْقَطَعُوا جَمِيعًا عَنِ الوَحْيِ والتَّفَقُّهِ في الدِّينِ، فَأُمِرُوا بِأنْ يَنْفِرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ إلى الجِهادِ، وتَبْقى أعْقابُهم يَتَفَقَّهُونَ حَتّى لا يَنْقَطِعُوا عَنِ التَّفَقُّهِ الَّذِي هو الجِهادُ الأكْبَرُ؛ لِأنَّ الجِهادَ بِالحُجَّةِ أعْظَمُ أمْرًا مِنَ الجِهادِ بِالسَّيْفِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا﴾ الضَّمِيرُ فِيهِ لِلْفِرَقِ الباقِيَةِ بَعْدَ الطَّوائِفِ النّافِرَةِ، ﴿ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ ولِيُنْذِرَ الفِرَقُ الباقِيَةُ قَوْمَهُمُ النّافِرِينَ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ ما حَصَّلُوا في أيّامِ غَيْبَتِهِمْ مِنَ العُلُومِ، وعَلى الأوَّلِ الضَّمِيرُ لِلطّائِفَةِ النّافِرَةِ إلى المَدِينَةِ لِلتَّفَقُّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب