الباحث القرآني

﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً﴾ أيْ ما اسْتَقامَ لَهم أنْ يَخْرُجُوا إلى الغَزْوِ جَمِيعًا. رَوى الكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ تَعالى لَمّا شَدَّدَ عَلى المُتَخَلِّفِينَ قالُوا: لا يَتَخَلَّفُ مِنّا أحَدٌ عَنْ جَيْشٍ أوْ سَرِيَّةٍ أبَدًا فَفَعَلُوا ذَلِكَ وبَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وحْدَهُ فَنَزَلَ ﴿وما كانَ﴾ إلَخْ والمُرادُ نَهْيُهم عَنِ النَّفِيرِ جَمِيعًا لِما فِيهِ مِنَ الإخْلالِ بِالتَّعَلُّمِ ﴿فَلَوْلا نَفَرَ﴾ لَوْلا هُنا تَحْضِيضِيَّةٌ وهي مَعَ الماضِي تُفِيدُ التَّوْبِيخَ عَلى تَرْكِ الفِعْلِ ومَعَ المُضارِعِ تُفِيدُ طَلَبَهُ والأمْرَ بِهِ لَكِنَّ اللَّوْمَ عَلى التَّرْكِ فِيما يُمْكِنُ تَلافِيهِ قَدْ يُفِيدُ الأمْرَ بِهِ في المُسْتَقْبَلِ أيْ فَهَلّا نَفَرَ ﴿مِن كُلِّ فِرْقَةٍ﴾ أيْ جَماعَةٍ كَثِيرَةٍ ﴿مِنهُمْ﴾ كَأهْلِ بَلْدَةٍ أوْ قَبِيلَةٍ عَظِيمَةٍ ﴿طائِفَةٌ﴾ أيْ جَماعَةٌ قَلِيلَةٌ وحَمْلُ الفِرْقَةِ والطّائِفَةِ عَلى ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ السِّياقِ ومِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ لِأنَّ البَعْضَ في الغالِبِ أقَلُّ مِنَ الباقِي وإلّا فالجَوْهَرِيُّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُما وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ الطّائِفَةَ قَدْ تَقَعُ عَلى الواحِدِ وآخَرُونَ أنَّها لا تَقَعُ وأنَّ أقَلَّها اثْنانِ وقِيلَ: ثَلاثَةٌ ﴿لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ﴾ أيْ لِيَتَكَلَّفُوا الفَقاهَةَ فِيهِ فَصِيغَةُ التَّفَعُّلِ لِلتَّكَلُّفِ ولَيْسَ المُرادُ بِهِ مَعْناهُ المُتَبادِرَ بَلْ مُقاساةُ الشِّدَّةِ في طَلَبِ ذَلِكَ لِصُعُوبَتِهِ فَهو لا يَحْصُلُ بِدُونِ جِدٍّ وجَهْدٍ ﴿ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهم يَحْذَرُونَ 122﴾ أيْ عَمّا يُنْذَرُونَ مِنهُ وضَمِيرُ يَتَّفِقُوا ويُنْذَرُوا عائِدٌ إلى الفِرْقَةِ الباقِيَةِ المَفْهُومَةِ مِنَ الكَلامِ وقِيلَ: لا بُدَّ مِن إضْمارٍ وتَقْدِيرٍ أيْ فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ طائِفَةٌ وأقامَ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا إلَخْ وكانَ الظّاهِرُ أنْ يُقالَ: لِيَعْلَمُوا بَدَلَ (لِيُنْذَرُوا) ويَفْقَهُونَ بَدَلُ ﴿يَحْذَرُونَ﴾ لَكِنَّهُ اخْتِيرَ ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ غَرَضُ المُعَلِّمِ الإرْشادَ والإنْذارَ وغَرَضُ المُتَعَلِّمِ اكْتِسابَ الخَشْيَةِ لا التَّبَسُّطَ والِاسْتِكْبارَ قالَ حُجَّةُ الإسْلامِ الغَزالِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: كانَ اسْمُ الفِقْهِ في العَصْرِ الأوَّلِ اسْمًا لِعِلْمِ الآخِرَةِ ومَعْرِفَةِ دَقائِقِ آفاتِ النُّفُوسِ ومُفْسِداتِ الأعْمالِ وقُوَّةِ الإحاطَةِ بِحَقارَةِ الدُّنْيا وشِدَّةِ التَّطَلُّعِ إلى نَعِيمِ الآخِرَةِ واسْتِيلاءِ الخَوْفِ عَلى القَلْبِ وتَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ فَما بِهِ الإنْذارُ والتَّخْوِيفُ هو الفِقْهُ دُونَ تَعْرِيفاتِ الطَّلاقِ واللِّعانِ والسَّلَمِ والإجاراتِ، وسَألَ فَرَقَدٌ السَّنْجِيُّ الحَسَنَ عَنْ شَيْءٍ فَأجابَهُ فَقالَ: إنَّ الفُقَهاءَ يُخالِفُونَكَ. فَقالَ الحَسَنُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ هَلْ رَأيْتَ (p-49)فَقِيهًا يُعِينُكَ؟ إنَّما الفَقِيهُ الزّاهِدُ في الدُّنْيا الرّاغِبُ في الآخِرَةِ البَصِيرُ بِدِينِهِ المُداوِمُ عَلى عِبادَةِ رَبِّهِ الوَرِعُ الكافُّ عَنْ أعْراضِ المُسْلِمِينَ العَفِيفُ عَنْ أمْوالِهِمُ النّاصِحُ لِجَماعَتِهِمْ، ولَمْ يَقُلْ في جَمِيعِ ذَلِكَ الحافِظُ لِفُرُوعِ الفَتاوى أ هـ وهو مِنَ الحَسَنِ بِمَكانٍ، لَكِنَّ الشّائِعَ إطْلاقُ الفَقِيهِ عَلى مَن يَحْفَظُ الفُرُوعَ مُطْلَقًا سَواءٌ كانَتْ بِدَلائِلِها أمْ لا كَما في التَّحْرِيرِ. وفي البَحْرِ عَنِ المُنْتَقى ما يُوافِقُهُ واعْتُبِرَ في القُنْيَةِ الحِفْظُ مَعَ الأدِلَّةِ فَلا يَدْخُلُ في الوَصِيَّةِ لِلْفُقَهاءِ مَن حَفِظَ بِلا دَلِيلٍ، وعَنْ أبِي جَعْفَرٍ أنَّهُ قالَ: الفَقِيهُ عِنْدَنا مَن بَلَغَ في الفِقْهِ الغايَةَ القُصْوى، ولَيْسَ المُتَفَقِّهُ بِفَقِيهٍ ولَيْسَ لَهُ مِنَ الوَصِيَّةِ نَصِيبٌ، والظّاهِرُ أنَّ المُعْتَبَرَ في الوَصِيَّةِ ونَحْوِها العُرْفَ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ كَثِيرٍ مِن أصْحابِنا وذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّ تَخْصِيصَ الإنْذارِ بِالذِّكْرِ لِأنَّهُ الأهَمُّ وإلّا فالمَقْصُودُ الإرْشادُ الشّامِلُ لِتَعْلِيمِ السُّنَنِ والآدابِ والواجِباتِ والمُباحاتِ والإنْذارُ أخَصُّ مِنهُ، ودَعْوى أنَّهُما مُتَلازِمانِ وذِكْرُ أحَدِهِما مُغْنٍ عَنِ الآخَرِ غَفْلَةٌ أوْ تَغافُلٌ، وذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ إلى أنَّ المُرادَ مِنَ النَّفْرِ النَّفْرُ والخُرُوجُ لِطَلَبِ العِلْمِ فالآيَةُ لَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِما قَبِلَها مِن أمْرِ الجِهادِ بَلْ لَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهِ وُجُوبَ الهِجْرَةِ والجِهادِ وكُلٌّ مِنهُما سَفَرٌ لِعِبادَةٍ فَبَعْدَما فَضَّلَ الجِهادَ ذَكَرَ السَّفَرَ الآخَرَ وهو الهِجْرَةُ لِطَلَبِ العِلْمِ فَضَمِيرُ يَتَفَقَّهُوا ويُنْذَرُوا لِلطّائِفَةِ المَذْكُورَةِ وهي النّافِرَةُ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ مُجاهِدٍ، فَقَدْ أخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُما أنَّهُ قالَ: إنَّ ناسًا مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ خَرَجُوا في البَوادِي فَأصابُوا مِنَ النّاسِ مَعْرُوفًا ومِنَ الخِصْبِ ما يَنْتَفِعُونَ بِهِ ودَعَوْا مَن وجَدُوا مِنَ النّاسِ إلى الهُدى فَقالَ لَهُمُ النّاسُ: ما نَراكم إلّا قَدْ تَرَكْتُمْ أصْحابَكم وجِئْتُمُونا فَوَجَدُوا في أنْفُسِهِمْ مِن ذَلِكَ تَحَرُّجًا وأقْبَلُوا مِنَ البادِيَةِ كُلُّهم حَتّى دَخَلُوا عَلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ﴾ إلَخْ أيْ لَوْلا خَرَجَ بَعْضٌ وقَعَدَ بَعْضٌ يَبْتَغُونَ الخَيْرَ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيَسْمَعُوا ما أُنْزِلَ ولِيُنْذِرُوا النّاسَ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ واسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلى أنَّ التَّفَقُّهَ في الدِّينِ مِن فُرُوضِ الكِفايَةِ. وما في كَشْفِ الحِجابِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ. عَلى تَضْعِيفِ الصَّغانِيِّ لَهُ لَيْسَ المُرادُ مِنَ العِلْمِ فِيهِ إلّا ما يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ أداءُ الفَرائِضِ ولا شَكَّ في أنَّ تَعَلُّمَهُ فَرْضٌ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ في الآيَةِ دَلالَةً عَلى أنَّ خَبَرَ الآحادِ حُجَّةٌ لِأنَّ عُمُومَ كُلِّ فِرْقَةٍ يَقْتَضِي أنْ يَنْفِرَ مِن كُلِّ ثَلاثَةٍ تَفَرَّدُوا بِقَرْيَةٍ طائِفَةٌ إلى التَّفَقُّهِ لِتُنْذِرَ قَوْمَها كَيْ يَتَذَكَّرُوا ويَحْذَرُوا فَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرِ الأخْبارَ ما لَمْ تَتَواتَرْ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ، وقَرَّرَ بَعْضُهم وجْهَ الدَّلالَةِ بِأمْرَيْنِ الأوَّلُ أنَّهُ تَعالى أمَرَ الطّائِفَةَ بِالإنْذارِ وهو يَقْتَضِي فِعْلَ المَأْمُورِ بِهِ وإلّا لَمْ يَكُنْ إنْذارًا والثّانِي أمْرُهُ سُبْحانَهُ القَوْمَ بِالحَذَرِ عِنْدَ الإنْذارِ لِأنَّ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَعَلَّهم يَحْذَرُونَ﴾ لِيَحْذَرُوا وذَلِكَ أيْضًا يَتَضَمَّنُ لُزُومَ العَمَلِ بِخَبَرِ الواحِدِ، وهَذِهِ الدَّلالَةُ قائِمَةٌ عَلى أيِّ تَفْسِيرٍ شِئْتَ مِنَ التَّفْسِيرَيْنِ، ولا يَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلالُ بِالآيَةِ عَلى ما ذُكِرَ عَلى صِدْقِ الطّائِفَةِ عَلى الواحِدِ الَّذِي هو مَبْدَأِ الإعْدادِ بَلْ يَكْفِي فِيهِ صِدْقُها عَلى ما لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّواتُرِ وإنْ كانَ ثَلاثَةً فَأكْثَرَ وكَذا لا يَتَوَقَّفُ عَلى أنْ لا يَكُونَ التَّرَجِّي مِنَ المُنْذَرِينَ بَلْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ ويُرادُ مِنهُ الطَّلَبُ مَجازًا كَما لا يَخْفى
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب