الباحث القرآني
اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى ﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً﴾ فَذَهَبَ جَماعَةٌ إلى أنَّهُ مِن بَقِيَّةِ أحْكامِ الجِهادِ، لِأنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بالَغَ في الأمْرِ بِالجِهادِ والِانْتِدابِ إلى الغَزْوِ كانَ المُسْلِمُونَ إذا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - سَرِيَّةً مِنَ الكُفّارِ يَنْفِرُونَ جَمِيعًا ويَتْرُكُونَ المَدِينَةَ خالِيَةً، فَأخْبَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِأنَّهُ ما كانَ لَهم ذَلِكَ أيْ: ما صَحَّ لَهم ولا اسْتَقامَ أنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا، بَلْ يَنْفِرُ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ مِن تِلْكَ الفِرْقَةِ ويَبْقى مَن عَدا هَذِهِ الطّائِفَةِ النّافِرَةِ.
قالُوا: ويَكُونُ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: لِيَتَفَقَّهُوا عائِدًا إلى الفِرْقَةِ الباقِيَةِ.
والمَعْنى: أنَّ الطّائِفَةَ مِن هَذِهِ الفِرْقَةِ تَخْرُجُ إلى الغَزْوِ، ومَن بَقِيَ مِنَ الفِرْقَةِ يَقِفُونَ لِطَلَبِ العِلْمِ، ويُعَلِّمُونَ الغُزاةَ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ مِنَ الغَزْوِ، أوْ يَذْهَبُونَ في طَلَبِهِ إلى المَكانِ الَّذِي يَجِدُونَ فِيهِ مَن يَتَعَلَّمُونَ مِنهُ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ الفِقْهَ في الدِّينِ ويُنْذِرُوا قَوْمَهم وقْتَ رُجُوعِهِمْ إلَيْهِمْ، وذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَتْ مِن بَقِيَّةِ أحْكامِ الجِهادِ، وهي حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ في مَشْرُوعِيَّةِ الخُرُوجِ لِطَلَبِ العِلْمِ والتَّفَقُّهِ في الدِّينِ، جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ مُتَّصِلًا بِما دَلَّ عَلى إيجابِ الخُرُوجِ إلى الجِهادِ، فَيَكُونُ السَّفَرُ نَوْعَيْنِ: الأوَّلُ: سَفَرُ الجِهادِ، والثّانِي: السَّفَرُ لِطَلَبِ العِلْمِ، ولا شَكَّ أنَّ وُجُوبَ الخُرُوجِ لِطَلَبِ العِلْمِ إنَّما يَكُونُ إذا لَمْ يَجِدِ الطّالِبُ مَن يَتَعَلَّمُ مِنهُ في الحَضَرِ مِن غَيْرِ سَفَرٍ.
والفِقْهُ: هو العِلْمُ بِالأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ، وبِما يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى العِلْمِ بِها مِن لُغَةٍ ونَحْوٍ وصَرْفٍ وبَيانٍ وأُصُولٍ.
ومَعْنى ( فَلَوْلا نَفَرَ ) فَهَلّا نَفَرَ، والطّائِفَةُ في اللُّغَةِ الجَماعَةُ.
وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الغَرَضَ مِن هَذا هو التَّفَقُّهَ في الدِّينِ، وإنْذارَ مَن لَمْ يَتَفَقَّهْ، فَجَمَعَ بَيْنَ المَقْصِدَيْنِ الصّالِحَيْنِ والمَطْلَبَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ، وهُما تَعَلُّمُ العِلْمِ وتَعْلِيمُهُ، فَمَن كانَ غَرَضُهُ بِطَلَبِ العِلْمِ غَيْرَ هَذَيْنِ، فَهو طالِبٌ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ لا لِغَرَضٍ دِينِيٍّ، فَهو كَما قُلْتُ:
؎(p-٦٠٧)وطالِبُ الدُّنْيا بِعِلْمِ الدِّينِ أيُّ بائِسٍ كَمَن غَدا لِنَعْلِهِ يَمْسَحُ بِالقَلانِسِ
ومَعْنى ﴿لَعَلَّهم يَحْذَرُونَ﴾ التَّرَجِّي لِوُقُوعِ الحَذَرِ مِنهم عَنِ التَّفْرِيطِ فِيما يَجِبُ فِعْلُهُ فَيُتْرَكُ، أوْ فِيما يَجِبُ تَرْكُهُ فَيُفْعَلُ.
ثُمَّ أمَرَ سُبْحانَهُ المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَجْتَهِدُوا في مُقاتَلَةِ مَن يَلِيهِمْ مِنَ الكُفّارِ، وأنْ يَأْخُذُوا في حَرْبِهِمْ بِالغِلْظَةِ والشِّدَّةِ، والجِهادُ واجِبٌ لِكُلِّ الكُفّارِ، وإنْ كانَ الِابْتِداءُ بِمَن يَلِي المُجاهِدِينَ مِنهم أهَمَّ وأقْدَمَ، ثُمَّ الأقْرَبُ فالأقْرَبُ ثُمَّ أخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِما يُقَوِّي عَزائِمَهم ويُثَبِّتُ أقْدامَهم فَقالَ: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ أيْ بِالنُّصْرَةِ لَهم وتَأْيِيدِهِمْ عَلى عَدُوِّهِمْ ومَن كانَ اللَّهُ مَعَهُ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ.
وقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُدَ في ناسِخِهِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: نَسَخَ هَؤُلاءِ الآياتِ ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا﴾ [التوبة: ٤١] و﴿إلّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكم﴾ [التوبة: ٣٩] قَوْلُهُ: ﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً﴾ يَقُولُ: لِتَنْفِرْ طائِفَةٌ وتَمْكُثْ طائِفَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، فالماكِثُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - هُمُ الَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ في الدِّينِ ويُنْذِرُونَ إخْوانَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ مِنَ الغَزْوِ، ولَعَلَّهم يَحْذَرُونَ ما نَزَلْ مِن بَعْدِهِمْ مِن قَضاءِ اللَّهِ في كِتابِهِ وحُدُودِهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ مِن طَرِيقٍ أُخْرى بِسِياقٍ أتَمَّ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ أيْضًا في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ الآيَةُ في الجِهادِ، ولَكِنْ لَمّا دَعا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَلى مُضَرَ بِالسِّنِينَ أجْدَبَتْ بِلادُهم، فَكانَتِ القَبِيلَةُ مِنهم تُقْبِلُ بِأسْرِها حَتّى يَخْلُوا بِالمَدِينَةِ مِنَ الجَهْدِ ويَقْبَلُوا بِالإسْلامِ وهم كاذِبُونَ، فَضَيَّقُوا عَلى أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وأجْهَدُوهم، فَأنْزَلَ اللَّهُ يُخْبِرُ رَسُولَهُ أنَّهم لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، فَرَدَّهم إلى عَشائِرِهِمْ وحَذَّرَ قَوْمَهم أنْ يَفْعَلُوا فِعْلَهم، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهم يَحْذَرُونَ﴾ وفي البابِ رِواياتٌ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكم مِنَ الكُفّارِ﴾ قالَ: الأدْنى، فالأدْنى.
وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ الضَّحّاكِ، مِثْلَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَزْوِ الدَّيْلَمِ فَقالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَقُولُ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكم مِنَ الكُفّارِ﴾ قالَ: الرُّومُ» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿ولْيَجِدُوا فِيكم غِلْظَةً﴾ قالَ: شِدَّةً.
{"ayahs_start":122,"ayahs":["۞ وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّةࣰۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةࣲ مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ لِّیَتَفَقَّهُوا۟ فِی ٱلدِّینِ وَلِیُنذِرُوا۟ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ یَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡیَجِدُوا۟ فِیكُمۡ غِلۡظَةࣰۚ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِینَ"],"ayah":"۞ وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّةࣰۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةࣲ مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ لِّیَتَفَقَّهُوا۟ فِی ٱلدِّینِ وَلِیُنذِرُوا۟ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق