الباحث القرآني
ندب تَعالى المُؤمنِينَ إلى التفقه في الدّين وهو تعلمه وإنذار قَومهمْ إذا رجعُوا إليهم وهو التَّعْلِيم.
وَقد اخْتلف في الآية فَقيل المَعْنى أن المُؤمنِينَ لم يَكُونُوا لينفروا كلهم للتفقه والتعلم بل يَنْبَغِي أن ينفر من كل فرقة مِنهُم طائِفَة تتفقه تِلْكَ الطّائِفَة ثمَّ ترجع تعلم القاعدين، فَيكون النفير على هَذا نفير تعلم، والطائفة تقال على الواحِد فَما زاد قالُوا فَهو دَلِيل على قبُول خبر الواحِد، وعَلى هَذا حملها الشّافِعِي وجَماعَة.
وَقالَت طائِفَة أخرى المَعْنى وما كانَ المُؤْمِنُونَ لينفروا إلى الجِهاد كلهم بل يَنْبَغِي أن تنفر طائِفَة للْجِهاد، وفرْقَة تقعد تتفقه في الدّين، فَإذا جاءَت الطّائِفَة الَّتِي نفرت فقهتها القاعِدَة، وعلمتها ما أنْزلْ من الدّين والحلال والحرام، وعَلى هَذا فَيكون قَوْله ﴿ليتفقهوا﴾ و ﴿لينذروا﴾ للفرقة الَّتِي نفرت مِنها طائِفَة.
وَهَذا قَول الأكثرين، وعَلى هَذا فالنفير نفير جِهاد على أصله فَإنَّهُ حَيْثُ اسْتعْمل إنَّما يفهم مِنهُ الجِهاد قالَ الله تَعالى ﴿انفروا خفافا وثقالا وجاهدُوا بأموالكم وأنْفُسكُمْ﴾
وَقالَ النَّبِي ﷺ "لا هِجْرَة بعد الفَتْح ولَكِن جِهاد ونِيَّة وإذا استنفرتم فانفروا"
وَهَذا هو المَعْرُوف من هَذِه اللَّفْظَة وعَلى القَوْلَيْنِ فَهو ترغيب في التفقه في الدّين وتعلمه وتعليمه فَإن ذَلِك يعدل الجِهاد بل رُبما يكون أفضل مِنهُ.
* (فائدة)
وإذا وقع الماضي بعد حرف التحضيض صلح أيضا للماضي والمستقبل كقوله تعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ﴾
والصواب أن الماضي هاهنا باق على وضعه لم يتغير عنه كقوله تعالى: ﴿فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكم أُولُو بَقِيَّةٍ﴾
ويقول: هلا اتقيت الله تعالى فيما أتيت والآية إنما نزلت في غزوة تبوك في سياق ذم المتخلفين عن رسول الله فأخبر تعالى أن المؤمنين لم يكونوا لينفروا كافة ثم وبخهم توبيخا متضمنا للحض على أن ينفر بعضهم ويقعد بعضهم.
وأصح القولين أنه ينفر منهم طائفة في السرايا والبعوث وتقعد طائفة تتفقه في الدين فتنذر القاعدة الطائفة النافرة إذا رجعت إليهم وتخبرهم بما نزل بعدهم من الحلال والحرام والأحكام لوجوه:
أحدها: أن الآية هي في سياق النفير في الجهاد وتوبيخ القاعدين عنه.
الثاني: أن النفير إنما يكون في الغزو ولا يقال لمن سافر في طلب العلم إنه نفر ولا استنفر، ولا يقال للسفر فيه نفير.
الثالث: أن الآية تكون قد اشتملت على بيان حكم النافرين والقاعدين وعلى بيان اشتراكهم في الجهاد والعلم، فالنافرون أهل الجهاد، والقاعدون أهل التفقه، والدين إنما يتم بالجهاد والعلم، فإذا اشتغلت طائفة بالجهاد، وطائفة بالتفقه في الدين، ثم يعلم أهل الفقه للمجاهدين إذا رجعوا إليهم حصلت المصلحة بالعلم والجهاد وهذا الأليق بالآية والأكمل لمعناها.
وأما إذا جعل النفير فيها نفيرا لطلب العلم لم يكن فيها تعرض للجهاد مع إخراج النفير عن موضعه.
والذي أوجب لهم دعوى أن النفير في طلب العلم أنهم رأوا الضمير إنما يعود على المذكور القريب، فالمنذرون هم النافرون وهم المتفقهون.
وجواب هذا الضمير إنما يرجع إلى الأقرب عند سلامته من معارض يقتضي الأبعد، وقد بينا أن السياق يقتضي أن القاعد هو المتفقة المنذر للنافر الراجع.
والمقصود أن نفر في الآية ماض وإنما يفهم منه الاستقبال، لأن التحضيض يؤذن به، والتحقيق في هذا الموضع أن لفظه (لولا) و (هلا) إن تجرد للتوبيخ لم يتغير الماضي عن وضعه، وإن تجرد للتحضيض تغير إلى الاستقبال، وإن كان توبيخا مشربا معنى التحضيض صلح للأمرين، وإن وقع بعد (كلما) جاز أن يراد به المضي كقوله تعالى: ﴿كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ﴾
وأن يراد به الاستقبال كقوله ﴿كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها﴾
وقد ظن صاحب التسهيل أنه إذا وقع صلة للموصول جاز أن يراد به الاستقبال محتجا بقوله تعالى ﴿إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم﴾
وهذا وهم منه رحمة الله والفعل ماضي لفظا ومعنى، والمراد إلا الذين تقدمت توبتهم القدرة عليهم فخلوا سبيلهم، والاستقبال الذي لحظه رحمه الله إنما هو لما تضمنه الكلام من معنى الشرط ففيه معنى من تاب قبل أن تقدروا عليه فخلوا سبيله فلم يجئ هذا من قبل الصلة، ولو تجردت الصلة عن معنى الشرط لم يكن الفعل إلا ماضيا وضعا ومعنى كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ﴾.
* [فصل: إنْذارِ مَن نَفَرَ لِلتَّفَقُّهِ في الدِّينِ]
[المُرادُ مِن إيجابِ اللَّهِ قَبُولَ إنْذارِ مَن نَفَرَ لِلتَّفَقُّهِ في الدِّينِ]
الوَجْهُ السّابِعُ والخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٢] فَأوْجَبَ قَبُولَ نِذارَتِهِمْ، وذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهم " جَوابُهُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ إنّما أوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولَ ما أنْذَرُوهم بِهِ مِن الوَحْيِ الَّذِي يَنْزِلُ في غَيْبَتِهِمْ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ في الجِهادِ، فَأيْنَ في هَذا حُجَّةٌ لِفِرْقَةِ التَّقْلِيدِ عَلى تَقْدِيمِ آراءِ الرِّجالِ عَلى الوَحْيِ؟
الثّانِي: أنَّ الآيَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ظاهِرَةٌ؛ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ نَوَّعَ عُبُودِيَّتَهم وقِيامَهم بِأمْرِهِ إلى نَوْعَيْنِ:
أحَدُهُما: نَفِيرُ الجِهادِ، والثّانِي: التَّفَقُّهُ في الدِّينِ، وجَعَلَ قِيامَ الدِّينِ بِهَذَيْنِ الفَرِيقَيْنِ، وهم الأُمَراءُ والعُلَماءُ أهْلُ الجِهادِ وأهْلُ العِلْمِ؛ فالنّافِرُونَ يُجاهِدُونَ عَنْ القاعِدِينَ، والقاعِدُونَ يَحْفَظُونَ العِلْمَ لِلنّافِرِينَ، فَإذا رَجَعُوا مِن نَفِيرِهِمْ اسْتَدْرَكُوا ما فاتَهم مِن العِلْمِ بِإخْبارِ مَن سَمِعَهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وهُنا لِلنّاسِ في الآيَةِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّ المَعْنى " فَهَلّا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ طائِفَةٌ تَتَفَقَّهُ وتُنْذِرُ القاعِدَةَ " فَيَكُونُ المَعْنى في طَلَبِ العِلْمِ، وهَذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ وجَماعَةٍ مِن المُفَسِّرِينَ، واحْتَجُّوا بِهِ عَلى قَوْلِ خَبَرِ الواحِدِ؛ لِأنَّ الطّائِفَةَ لا يَجِبُ أنْ تَكُونَ عَدَدَ التَّواتُرِ.
والثّانِي أنَّ المَعْنى " فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ طائِفَةٌ تُجاهِدُ لِتَتَفَقَّهَ القاعِدَةُ وتُنْذِرَ النّافِرَةَ لِلْجِهادِ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ ويُخْبِرُونَهم بِما نَزَلَ بَعْدَهم مِن الوَحْيِ " وهَذا قَوْلُ الأكْثَرِينَ، وهو الصَّحِيحُ؛
لِأنَّ النَّفِيرَ إنّما هو الخُرُوجُ لِلْجِهادِ كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَإذا اسْتَنْفَرْتُمْ فانْفِرُوا»
وَأيْضًا فَإنَّ المُؤْمِنِينَ عامٌّ في المُقِيمِينَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ والغائِبِينَ عَنْهُ، والمُقِيمُونَ مُرادُونَ ولا بُدَّ فَإنَّهم ساداتُ المُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ لا يَتَناوَلُهم اللَّفْظُ؟ وعَلى قَوْلِ أُولَئِكَ يَكُونُ المُؤْمِنُونَ خاصًّا بِالغائِبِينَ عَنْهُ فَقَطْ، والمَعْنى " وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا إلَيْهِ كُلُّهُمْ، فَلَوْلا نَفَرَ إلَيْهِ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ "
وَهَذا خِلافُ ظاهِرِ لَفْظِ المُؤْمِنِينَ، وإخْراجٌ لِلَفْظِ النَّفِيرِ عَنْ مَفْهُومِهِ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ، وعَلى كِلا القَوْلَيْنِ فَلَيْسَ في الآيَةِ ما يَقْتَضِي صِحَّةَ القَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ المَذْمُومِ، بَلْ هي حُجَّةٌ عَلى فَسادِهِ وبُطْلانِهِ؛ فَإنَّ الإنْذارَ إنّما يَقُومُ بِالحُجَّةِ، فَمَن لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُنْذِرَ، كَما أنَّ النَّذِيرَ مَن أقامَ الحُجَّةَ، فَمَن لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ فَلَيْسَ بِنَذِيرٍ، فَإنْ سَمَّيْتُمْ ذَلِكَ تَقْلِيدًا فَلَيْسَ الشَّأْنُ في الأسْماءِ، ونَحْنُ لا نُنْكِرُ التَّقْلِيدَ بِهَذا المَعْنى، فَسَمُّوهُ ما شِئْتُمْ، وإنَّما نُنْكِرُ نَصْبَ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ يُجْعَلُ قَوْلُهُ عِيارًا عَلى القُرْآنِ والسُّنَنِ؛ فَما وافَقَ قَوْلَهُ مِنها قُبِلَ وما خالَفَهُ لَمْ يُقْبَلْ، ويُقْبَلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، ويُرَدُّ قَوْلُ نَظِيرِهِ أوْ أعْلَمَ مِنهُ والحُجَّةُ مَعَهُ، فَهَذا الَّذِي أنْكَرْناهُ، وكُلُّ عالِمٍ عَلى وجْهِ الأرْضِ يُعْلِنُ إنْكارَهُ وذَمَّهُ وذَمَّ أهْلِهِ.
{"ayah":"۞ وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّةࣰۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةࣲ مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ لِّیَتَفَقَّهُوا۟ فِی ٱلدِّینِ وَلِیُنذِرُوا۟ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق