(سُورَةُ الحُجُراتِ ثَمانِيَ عَشْرَةَ آيَةً مَدَنِيَّةٌ)
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكم لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهم عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهم لِلتَّقْوى لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿ولَوْ أنَّهم صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ [الحجرات: ٦] ﴿واعْلَمُوا أنَّ فِيكم رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكم في كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ أُولَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: ٧] ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ونِعْمَةً واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات: ٨] ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ فَإنْ فاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ وأقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: ٩] ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكم واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: ١٠] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنهم ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ عَسى أنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكم ولا تَنابَزُوا بِالألْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ ومَن لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [الحجرات: ١١] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا ولا يَغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضًا أيُحِبُّ أحَدُكم أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: ١٢] ﴿يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى وجَعَلْناكم شُعُوبًا وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكم إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: ١٣] ﴿قالَتِ الأعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا ولَمّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكم وإنْ تُطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ لا يَلِتْكم مِن أعْمالِكم شَيْئًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: ١٤] ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وجاهَدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥] ﴿قُلْ أتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكم واللَّهُ يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات: ١٦] ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكم أنْ هَداكم لِلْإيمانِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الحجرات: ١٧] ﴿إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ والأرْضِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ [الحجرات: ١٨] التَّنابُزُ بِالألْقابِ: التَّداعِي بِها، تَفاعَلُ مِن نَبَزَهُ، وبَنُو فُلانٍ يَتَنابَزُونَ ويَتَنازَبُونَ، ويُقالُ: النَّبْزُ والنَّزْبُ: لَقَبُ السُّوءِ. اللَّقَبُ: هو ما يُدْعى بِهِ الشَّخْصُ مِن لَفْظٍ غَيْرِ اسْمِهِ وغَيْرِ كُنْيَتِهِ، وهو قِسْمانِ: قَبِيحٌ، وهو ما يَكْرَهُهُ الشَّخْصُ لِكَوْنِهِ تَقْصِيرًا بِهِ وذَمًّا، وحَسَنٌ، وهو بِخِلافِ ذَلِكَ، كالصِّدِّيقِ لِأبِي بَكْرٍ، والفارُوقِ لِعُمَرَ، وأسَدِ اللَّهِ لِحَمْزَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم. تَجَسَّسَ الأمْرَ: تَطَلَّبَهُ وبَحَثَ عَنْ خَفِيِّهِ، تَفَعَّلَ مِنَ الجَسِّ، ومِنهُ الجاسُوسُ: وهو الباحِثُ عَنِ العَوْراتِ لِيَعْلَمَ بِها، ويُقالُ لِمَشاعِرِ الإنْسانِ: الحَواسُّ، بِالحاءِ والجِيمِ. الشَّعْبُ: الطَّبَقَةُ الأُولى مِنَ الطَّبَقاتِ السِّتِّ الَّتِي عَلَيْها العَرَبُ وهي: الشَّعْبُ، والقَبِيلَةُ، والعِمارَةُ، والبَطْنُ، والفَخْذُ، والفَصِيلَةُ. فالشَّعْبُ يَجْمَعُ القَبائِلَ، والقَبِيلَةُ تَجْمَعُ العَمائِرَ، والعِمارَةُ تَجْمَعُ البُطُونَ، والبَطْنُ يَجْمَعُ الأفْخاذَ، والفَخْذُ يَجْمَعُ الفَصائِلَ. خُزَيْمَةُ شَعْبٌ، وكِنانَةُ قَبِيلَةٌ، وقُرَيْشٌ عِمارَةٌ، وقُصَيٌّ بَطْنٌ، وهاشِمٌ فَخْذٌ، والعَبّاسُ فَصِيلَةٌ. وسُمِّيَتِ الشُّعُوبَ؛ لِأنَّ القَبائِلَ تَشَعَّبَتْ مِنها. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الشُّعُوبُ: البُطُونُ، هَذا غَيْرُ ما تَمالَأ عَلَيْهِ أهْلُ اللُّغَةِ، ويَأْتِي خِلافٌ في ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
﴿وجَعَلْناكم شُعُوبًا﴾ [الحجرات: ١٣] . القَبِيلَةُ دُونَ الشَّعْبِ، شُبِّهَتْ بِقَبائِلِ الرَّأْسِ لِأنَّها قِطَعٌ تَقابَلَتْ. ألَتَ يَأْلُتُ: بِضَمِّ اللّامِ وكَسْرِها ألَتًا، ولاتَ يَلِيتُ وألاتَ يَلِيتُ، رُباعِيًّا، ثَلاثَ لُغاتٍ حَكاها أبُو عُبَيْدَةَ، والمَعْنى نَقَصَ. وقالَ رُؤْبَةَ:
ولَيْلَةٍ ذاتِ نَدًى سَرَيْتُ ولَمْ يَلُتْنِي عَنْ سَراها لَيْتُ
أيْ: لَمْ يَمْنَعْنِي ولَمْ يَحْبِسْنِي. وقالَ الحُطَيْئَةُ:
أبْلِغْ سَراةَ بَنِي سَعْدٍ مُغَلَّظَةً ∗∗∗ جَهْدَ الرِّسالَةِ لا ألَتًا ولا كَذِبا
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكم لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهم عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهم لِلتَّقْوى لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿ولَوْ أنَّهم صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ [الحجرات: ٦] ﴿واعْلَمُوا أنَّ فِيكم رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكم في كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ أُولَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: ٧] ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ونِعْمَةً واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات: ٨] .
هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. ومُناسَبَتُها لِآخِرِ ما قَبْلَها ظاهِرَةٌ، لِأنَّهُ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وأصْحابَهُ، ثُمَّ قالَ:
﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [الفتح: ٢٩]، فَرُبَّما صَدَرَ مِنَ المُؤْمِنِ عامَلِ الصّالِحاتِ بَعْضَ شَيْءٍ مِمّا يَنْبَغِي أنْ يُنْهى عَنْهُ، فَقالَ تَعالى:
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ .
وكانَتْ عادَةُ العَرَبِ، وهي إلى الآنَ الِاشْتِراكُ في الآراءِ، وأنْ يَتَكَلَّمَ كُلٌّ بِما شاءَ ويَفْعَلَ ما أحَبَّ، فَجَرى مِن بَعْضِ مَن لَمْ يَتَمَرَّنْ عَلى آدابِ الشَّرِيعَةِ بَعْضَ ذَلِكَ. قالَ قَتادَةُ: فَرُبَّما قالَ قَوْمٌ: يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ كَذا لَوْ أُنْزِلَ في كَذا. وقالَ الحَسَنُ: ذَبَحَ قَوْمٌ ضَحايا قَبْلَ النَّبِيِّ ﷺ، وفَعَلَ قَوْمٌ في بَعْضِ غَزَواتِهِ شَيْئًا بِآرائِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ناهِيَةً عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نُهُوا أنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلامِهِ. وتَقُولُ العَرَبُ: تَقَدَّمْتُ في كَذا وكَذا، وقَدَّمْتُ فِيهِ إذْ قُلْتُ فِيهِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ:
﴿لا تُقَدِّمُوا﴾، فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا، وحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِيَتَناوَلَ كُلَّ ما يَقَعُ في النَّفْسِ مِمّا تَقَدَّمَ، فَلَمْ يَقْصِدْ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ النَّهْيُ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِ الفِعْلِ دُونَ تَعَرُّضٍ لِمَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ، كَقَوْلِهِمْ: فُلانٌ يُعْطِي ويَمْنَعُ. واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ لازِمًا بِمَعْنى تَقَدَّمَ، كَما تَقُولُ: وجْهٌ بِمَعْنى تَوَجَّهَ ويَكُونَ المَحْذُوفُ مِمّا يُوَصَّلُ إلَيْهِ بِحَرْفٍ، أيْ لا تَتَقَدَّمُوا في شَيْءٍ ما مِنَ الأشْياءِ، أوْ بِما يُحِبُّونَ. ويُعَضِّدُ هَذا الوَجْهَ قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي حَيْوَةَ والضَّحّاكِ ويَعْقُوبَ وابْنِ مِقْسَمٍ: لا تَقَدَّمُوا، بِفَتْحِ التّاءِ والقافِ والدّالِ عَلى اللُّزُومِ، وحُذِفَتِ التّاءُ تَخْفِيفًا، إذْ أصْلُهُ لا تَتَقَدَّمُوا. وقَرَأ بَعْضُ المَكِّيِّينَ: تَقَدَّمُوا بِشَدِّ التّاءِ، أُدْغِمَ تاءُ المُضارَعَةِ في التّاءِ بَعْدَها، كَقِراءَةِ البَزِّيِّ. وقُرِئَ: لا تَقْدِمُوا، مُضارِعَ قَدِمَ، بِكَسْرِ الدّالِ، مِنَ القُدُومِ، أيْ لا تَقْدِمُوا إلى أمْرٍ مِن أُمُورِ الدِّينِ قَبْلَ قُدُومِها، ولا تَعْجَلُوا عَلَيْها، والمَكانُ المُسامِتُ وجْهَ الرَّجُلِ قَرِيبًا مِنهُ. قِيلَ: فِيهِ بَيْنَ يَدَيِ المَجْلُوسِ إلَيْهِ تَوَسُّعًا، لِما جاوَرَ الجِهَتَيْنِ مِنَ اليَمِينِ واليَسارِ، وهي في قَوْلِهِ:
﴿بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ﴾، مَجازٌ مِن مَجازِ التَّمْثِيلِ. وفائِدَةُ تَصْوِيرِ الهُجْنَةِ والشَّناعَةِ فِيها، نُهُوا عَنْهُ مِنَ الإقْدامِ عَلى أمْرٍ دُونَ الِاهْتِداءِ عَلى أمْثِلَةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، والمَعْنى: لا تَقْطَعُوا أمْرًا إلّا بَعْدَما يَحْكُمانِ بِهِ ويَأْذَنانِ فِيهِ، فَتَكُونُوا عامِلِينَ بِالوَحْيِ المُنَزَّلِ، أوْ مُقْتَدِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وهَذا، وعَلى هَذا مَدارُ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: لا تَفْتاتُوا عَلى اللَّهِ شَيْئًا حَتّى يَقُصَّهُ اللَّهُ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ، وفي هَذا النَّهْيِ تَوْطِئَةٌ لِما يَأْتِي بَعْدُ مِن نَهْيِهِمْ عَنْ رَفْعِ أصْواتِهِمْ. ولَمّا نَهى أمَرَ بِالتَّقْوى، لِأنَّ مِنَ التَّقْوى اجْتِنابُ المَنهِيِّ عَنْهُ.
﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لِأقْوالِكم،
﴿عَلِيمٌ﴾ بِنِيّاتِكم وأفْعالِكم.
ثُمَّ ناداهم ثانِيًا، تَحْرِيكًا لِما يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ، واسْتِبْعادًا لِما يَتَجَدَّدُ مِنَ الأحْكامِ، وتَطْرِيَةً لِلْإنْصاتِ. ونَزَلَتْ بِسَبَبِ عادَةِ الأعْرابِ مِنَ الجَفاءِ وعُلُوِّ الصَّوْتِ.
﴿لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ﴾: أيْ إذا نَطَقَ ونَطَقْتُمْ،
﴿ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ﴾ إذا كَلَّمْتُمُوهُ، لِأنَّ رُتْبَةَ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ يَجِبُ أنْ تُوَقَّرَ وتُجَلَّ، ولا يَكُونُ الكَلامُ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ كالكَلامِ مَعَ غَيْرِهِ. ولَمّا نَزَلَتْ، قالَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا أُكَلِّمُكَ يا رَسُولَ اللَّهِ إلّا السِّرارَ أوْ أخا السِّرارِ حَتّى ألْقى اللَّهَ.
«وعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّهُ كانَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ كَأخِي السِّرارِ، لا يُسْمِعُهُ حَتّى يَسْتَفْهِمَهُ» . وكانَ أبُو بَكْرٍ إذا قَدِمَ عَلى الرَّسُولِ ﷺ، قَوْمٌ أرْسَلَ إلَيْهِمْ مَن يُعَلِّمُهم كَيْفَ يُسْلِمُونَ، ويَأْمُرُهم بِالسَّكِينَةِ والوَقارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولَمْ يَكُنِ الرَّفْعُ والجَهْرُ إلّا ما كانَ في طِباعِهِمْ، لا أنَّهُ مَقْصُودٌ بِذَلِكَ الِاسْتِخْفافُ والِاسْتِعْلاءُ، لِأنَّهُ كانَ يَكُونُ فِعْلُهم ذَلِكَ كُفْرًا، والمُخاطَبُونَ مُؤْمِنُونَ.
﴿كَجَهْرِ بَعْضِكم لِبَعْضٍ﴾: أيْ في عَدَمِ المُبالاةِ وقِلَّةِ الِاحْتِرامِ، فَلَمْ يُنْهَوْا إلّا عَنْ جَهْرٍ مَخْصُوصٍ. وكَرِهَ العُلَماءُ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وبِحَضْرَةِ العالِمِ، وفي المَساجِدِ.
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في ثابِتِ بْنِ قَيْسٍ بْنِ شَمّاسٍ، وكانَ في أُذُنِهِ وقْرٌ، وكانَ جَهِيرَ الصَّوْتِ، وحَدِيثُهُ في انْقِطاعِهِ في بَيْتِهِ أيّامًا بِسَبَبِ ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وأنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، لَمّا أُنْزِلَتْ، خِفْتُ أنْ يَحْبِطَ عَمَلِي، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إنَّكَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ» . وقالَ لَهُ مَرَّةً:
«أما تَرْضى أنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وتَمُوتَ شَهِيدًا» ؟ فَعاشَ كَذَلِكَ، ثُمَّ قُتِلَ بِاليَمامَةِ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ.
﴿أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ﴾: إنْ كانَتِ الآيَةُ مُعَرِّضَةً بِمَن يَجْهَرُ اسْتِخْفافًا، فَذَلِكَ كُفْرٌ يَحْبَطُ مَعَهُ العَمَلُ حَقِيقَةً، وإنْ كانَتْ لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ غَفْلَةً وجَرْيًا عَلى عادَتِهِ، فَإنَّما يَحْبَطُ عَمَلُهُ البِرَّ في تَوْقِيرِ النَّبِيِّ ﷺ، وغَضِّ الصَّوْتَ عِنْدَهُ، أنْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، كَأنَّهُ قالَ: مَخافَةَ أنْ تَحْبَطَ الأعْمالُ الَّتِي هي مُعَدَّةٌ أنْ تَعْمَلُوها فَتُؤْجَرُوا عَلَيْها. وأنْ تَحْبَطَ مَفْعُولٌ لَهُ، والعامِلُ فِيهِ ولا تَجْهَرُوا، عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ في الِاخْتِيارِ، ولا تَرْفَعُوا عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ في الِاخْتِيارِ، ومَعَ ذَلِكَ، فَمِن حَيْثُ المَعْنى حُبُوطُ العَمَلِ عِلَّةٌ في كُلٍّ مِنَ الرَّفْعِ والجَهْرِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَتَحْبَطَ بِالفاءِ، وهو مُسَبَّبٌ عَنْ ما قَبْلَهُ.
﴿إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ﴾، قِيلَ: نَزَلَتْ في أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، لِما كانَ مِنهُما مِن غَضِّ الصَّوْتِ والبُلُوغِ بِهِ أخا السِّرارِ.
﴿امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهم لِلتَّقْوى﴾: أيْ جُرِّبَتْ ودُرِّبَتْ لِلتَّقْوى، فَهي مُضْطَلِعَةٌ بِها، أوْ وُضِعَ الِامْتِحانُ مَوْضِعَ المَعْرِفَةِ، لِأنَّ تَحْقِيقَ الشَّيْءِ بِاخْتِبارِهِ، أيْ عَرَفَ قُلُوبَهم كائِنَةً لِلتَّقْوى في مَوْضِعِ الحالِ، أوْ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَهم بِأنْواعِ المِحَنِ لِأجْلِ التَّقْوى، أيْ لِتَثْبُتَ وتَظْهَرَ تَقْواها. وقِيلَ: أخْلَصَها لِلتَّقْوى مِن قَوْلِهِمْ: امْتَحَنَ الذَّهَبَ وفَتَنَهُ إذا أذابَهُ، فَخَلَّصَ إبْرِيزَهُ مِن خَبَثِهِ. وجاءَتْ في هَذِهِ الآيَةِ إنَّ مُؤَكِّدَةً لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ، وجُعِلَ خَبَرُها جُمْلَةً مِنِ اسْمِ الإشارَةِ الدّالِ عَلى التَّفْخِيمِ والمَعْرِفَةِ بَعْدَهُ، جائِيًا بَعْدَها ذِكْرُ جَزائِهِمْ عَلى غَضِّ أصْواتِهِمْ. وكُلُّ هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الِارْتِضاءَ بِما فَعَلُوا مِن تَوْقِيرِ النَّبِيِّ ﷺ، بِغَضِّ أصْواتِهِمْ، وفِيها تَعْرِيضٌ بِعَظِيمِ ما ارْتَكَبَ رافِعُو أصْواتِهِمْ واسْتِيجابِهِمْ ضِدَّ ما اسْتَوْجَبَهُ هَؤُلاءِ.
«﴿إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وراءِ الحُجُراتِ﴾: نَزَلَتْ في وفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، الأقْرَعِ بْنِ حابِسٍ، والزِّبْرِقانِ بْنِ بَدْرٍ، وعَمْرِو بْنِ الأهْتَمِ وغَيْرِهِمْ. وفَدُوا ودَخَلُوا المَسْجِدَ وقْتَ الظَّهِيرَةِ، والرَّسُولُ ﷺ راقِدٌ، فَجَعَلُوا يُنادُونَهُ بِجُمْلَتِهِمْ: يا مُحَمَّدُ، اخْرُجْ إلَيْنا. فاسْتَيْقَظَ فَخَرَجَ، فَقالَ لَهُ الأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ مَدْحِيَ زَيْنٌ وذَمِّيَ شَيْنٌ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”ويْلَكَ ذَلِكَ اللَّهُ تَعالى“ . فاجْتَمَعَ النّاسُ في المَسْجِدِ فَقالُوا: نَحْنُ بَنِي تَمِيمٍ بِخَطِيبِنا وشاعِرِنا، نُشاعِرُكَ ونُفاخِرُكَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”ما بِالشِّعْرِ بُعِثْتُ، ولا بِالفِخارِ أُمِرْتُ، ولَكِنْ هاتُوا“ . فَقالَ الزِّبْرِقانُ لِشابٍّ مِنهم: فَخِّرْ واذْكُرْ فَضْلَ قَوْمِكَ، فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنا خَيْرَ خَلْقِهِ، وآتانا أمْوالًا نَفْعَلُ فِيها ما نَشاءُ، فَنَحْنُ مِن خَيْرِ أهْلِ الأرْضِ، مِن أكْثَرِهِمْ عَدَدًا ومالًا وسِلاحًا، فَمَن أنْكَرَ عَلَيْنا فَلْيَأْتِ بِقَوْلٍ هو أحْسَنُ مِن قَوْلِنا، وفِعْلٍ هو أحْسَنُ مِن فِعْلِنا. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِثابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ، وكانَ خَطِيبَهُ: ”قُمْ فَأجِبْهُ“، فَقالَ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ أحْمَدُهُ وأسْتَعِينُهُ وأُومِنُ بِهِ وأتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وأشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، دَعا المُهاجِرِينَ مِن بَنِي عَمِّهِ أحْسَنَ النّاسِ وُجُوهًا وأعْظَمَهم أحْلامًا فَأجابُوهُ، والحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنا أنْصارَ دِينِهِ ووُزَراءَ رَسُولِهِ وعِزًا لِدِينِهِ، فَنَحْنُ نُقاتِلُ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَمَن قالَها مَنَعَ نَفْسَهُ ومالَهُ، ومَن أباها قَتَلْناهُ وكانَ رَغْمَةً عَلَيْنا هَيِّنًا، أقُولُ قَوْلِي هَذا وأسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ“ . وقالَ الزِّبْرِقانُ لِشابٍّ: قُمْ فَقُلْ أبْياتًا تَذْكُرُ فِيها فَضْلَ قَوْمِكَ، فَقالَ:
نَحْنُ الكِرامُ فَلا حَيَّ يُعادِلُنا ∗∗∗ فِينا الرُّءُوسُ وفِينا يُقْسَمُ الرُّبُعُ
ونُطْعِمُ النَّفْسَ عِنْدَ القَحْطِ كُلَّهُمُ ∗∗∗ مِنَ السَّدِيفِ إذا لَمْ يُؤْنَسِ الفَزَعُ
إذا أبَيْنا فَلا يَأْبى لَنا أحَدٌ ∗∗∗ إنّا كَذَلِكَ عِنْدَ الفَخْرِ نَرْتَفِعُ
فَأمَرَ النَّبِيُّ ﷺ، فَدَعا حَسّانَ بْنَ ثابِتٍ، فَقالَ لَهُ: ”أعِدْ لِي قَوْلَكَ فَأسْمَعَهُ“، فَأجابَهُ:
إنَّ الذَّوائِبَ مِن فِهْرٍ وإخْوَتِهِمْ ∗∗∗ قَدْ شَرَعُوا سُنَّةً لِلنّاسِ تُتَّبَعُ
يُوصى بِها كُلُّ مَن كانَتْ سَرِيرَتُهُ ∗∗∗ تَقْوى الإلَهِ فَكُلُّ الخَيْرِ يَطَّلِعُ
ثُمَّ قالَ حَسّانُ في أبْياتٍ:
نَصَرْنا رَسُولَ اللَّهِ والدِّينَ عَنْوَةً ∗∗∗ عَلى رَغْمِ عاتٍ مِن مَعَدٍ وحاضِرِ
بِضَرْبٍ كَأنْواعِ المَخاضِ مُشاشُهُ ∗∗∗ وطَعْنٍ كَأفْواهِ اللِّقاحِ المَصادِرِ
وسَلْ أُحُدًا يَوْمَ اسْتَقَلَّتْ جُمُوعُهُمُ ∗∗∗ بِضَرْبٍ لَنا مِثْلَ اللُّيُوثِ الخَوادِرِ
ألَسْنا نَخُوضُ المَوْتَ في حَوْمَةِ الوَغى ∗∗∗ إذا طابَ وِرْدُ المَوْتِ بَيْنَ العَساكِرِ
فَنَضْرِبُ هامًا بِالذِّراعَيْنِ نَنْتَمِي ∗∗∗ إلى حَسَبٍ مِن جِذْعِ غَسّانَ زاهِرِ
فَلَوْلا حَياءُ اللَّهِ قُلْنا تَكَرُّمًا ∗∗∗ عَلى النّاسِ بِالحَقَّيْنِ هَلْ مِن مُنافِرِ
فَأحْياؤُنا مِن خَيْرِ مَن وطِئَ الحَصا ∗∗∗ وأمْواتُنا مِن خَيْرِ أهْلِ المَقابِرِ
قالَ: فَقامَ الأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ فَقالَ: إنِّي واللَّهِ لَقَدْ جِئْتُ لِأمْرٍ، وقَدْ قُلْتُ شِعْرًا فاسْمَعْهُ، وقالَ:
أتَيْناكَ كَيْما يَعْرِفُ النّاسُ فَضْلَنا ∗∗∗ إذا خالَفُونا عِنْدَ ذِكْرِ المَكارِمِ
وإنّا رُءُوسُ النّاسِ في كُلِّ غارَةٍ ∗∗∗ تَكُونُ بِنَجْدٍ أوْ بِأرْضِ التَّهائِمِ
وإنَّ لَنا المِرْباعَ في كُلِّ مَعْشَرٍ ∗∗∗ وأنْ لَيْسَ في أرْضِ الحِجازِ كَدارِمِ
فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِحَسّانَ: ”قُمْ فَأجِبْهُ“، فَقامَ وقالَ:
بَنِي دارِمٍ لا تَفْخَرُوا إنَّ فَخْرَكُمُ ∗∗∗ يَصِيرُ وبالًا عِنْدَ ذِكْرِ المَكارِمِ
هَبِلْتُمْ عَلَيْنا تَفْخَرُونَ وأنْتُمُ ∗∗∗ لَنا خَوَلٌ مِن بَيْنِ ظِئْرٍ وخادِمِ
فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”لَقَدْ كُنْتَ غَنِيًّا يا أخا دارِمٍ أنْ يُذْكَرَ مِنكَ ما ظَنَنْتُ أنَّ النّاسَ قَدْ لَتِنُوهُ“ . فَكانَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أشَدَّ عَلَيْهِمْ مِن جَمِيعِ ما قالَهُ حَسّانُ، ثُمَّ رَجَعَ حَسّانُ إلى شِعْرِهِ فَقالَ:
فَإنْ كُنْتُمْ جِئْتُمْ لِحَقْنِ دِمائِكم ∗∗∗ وأمْوالِكم أنْ تُقْسَمُوا في المَقاسِمِ
فَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ نِدًّا وأسْلِمُوا ∗∗∗ ولا تَفْخَرُوا عِنْدَ النَّبِيِّ بِدارِمِ
وإلّا ورَبِّ البَيْتِ قَدْ مالَتِ القَنا ∗∗∗ عَلى هامِكم بِالمُرْهِفاتِ الصَّوارِمِ
فَقالَ الأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ: واللَّهِ ما أدْرِي ما هَذا الأمْرُ، تَكَلَّمَ خَطِيبُنا، فَكانَ خَطِيبُهم أحْسَنَ قَوْلًا، وتَكَلَّمَ شاعِرُنا، فَكانَ شاعِرُهم أشْعَرَ وأحْسَنَ قَوْلًا، ثُمَّ دَنا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”ما يَضُرُّكَ ما كانَ قَبْلَ هَذا“ . ثُمَّ أعْطاهم وكَساهم» .
ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها ظاهِرَةٌ، وذَلِكَ أنَّ المُناداةَ مِن وراءِ الحُجُراتِ فِيها رَفْعُ الصَّوْتِ وإساءَةُ الأدَبِ، واللَّهُ قَدْ أمَرَ بِتَوْقِيرِ رَسُولِهِ وتَعْظِيمِهِ. والوَراءُ: الجِهَةُ الَّتِي يُوارِيها عَنْكَ الشَّخْصُ مِن خَلْفٍ أوْ قُدّامٍ، ومِن لِابْتِداءِ الغايَةِ، وإنَّ المُناداةَ نَشَأتْ مِن ذَلِكَ المَكانِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: أُفَرِّقُ بَيْنَ الكَلامَيْنِ، بَيْنَ ما تَثْبُتُ فِيهِ وما تَسْقُطُ عَنْهُ. قُلْتُ: الفَرْقُ بَيْنَهُما: أنَّ المُنادى والمُنادِيَ في أحَدِهِما يَجُوزُ أنْ يَجْمَعَهُما الوَراءُ، وفي الثّانِي لا يَجُوزُ، لِأنَّ الوَراءَ تَصِيرُ بِدُخُولِ مِن مُبْتَدَأ الغايَةِ، ولا يَجْتَمِعُ عَلى الجِهَةِ الواحِدَةِ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً ومُنْتَهًى لِفِعْلٍ واحِدٍ. والَّذِي يَقُولُ: نادانِي فُلانٌ مِن وراءِ الدّارِ، لا يُرِيدُ وجْهَ الدّارِ ولا دُبُرَها، ولَكِنْ أيَّ قُطْرٍ مِن أقْطارِها، كانَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَعَيُّنٍ ولا اخْتِصاصٍ. انْتَهى. وقَدْ أثْبَتَ أصْحابُنا في مَعانِي مِن أنَّها تَكُونُ لِابْتِداءِ الغايَةِ وانْتِهائِها في فِعْلٍ واحِدٍ، وأنَّ الشَّيْءَ الواحِدَ يَكُونُ مَحَلًّا لَهُما. وتَأوَّلُوا ذَلِكَ عَلى سِيبَوَيْهِ وقالُوا: مِن ذَلِكَ قَوْلُهم: أخَذْتُ الدِّرْهَمَ مِن زَيْدٍ. فَزَيْدٌ مَحَلٌّ لِابْتِداءِ الأخْذِ مِنهُ وانْتِهائِهِ مَعًا. قالُوا: فَمَن تَكُونُ لِابْتِداءِ الغايَةِ فَقَطْ في أكْثَرِ المَواضِعِ، وفي بَعْضِ المَواضِعِ لِابْتِداءِ الغايَةِ وانْتِهائِها مَعًا. وهَذِهِ المُناداةُ الَّتِي أُنْكِرَتْ، لَيْسَ إنْكارُها لِكَوْنِها وقَعَتْ في إدْبارِ الحُجُراتِ أوْ في وُجُوهِها، وإنَّما أنْكَرَ ذَلِكَ لِأنَّهم نادَوْهُ مِن خارِجٍ، مُناداةَ الأجْلافِ الَّتِي لَيْسَ فِيها تَوْقِيرٌ، كَما يُنادِي بَعْضُهم بَعْضًا.
و
﴿الحُجُراتِ﴾: مَنازِلُ الرَّسُولِ ﷺ، وكانَتْ تِسْعَةً. والحُجْرَةُ: الرِّفْعَةُ مِنَ الأرْضِ المَحْجُورَةُ بِحائِطٍ يُحَوِّطُ عَلَيْها. وحَظِيرَةُ الإبِلِ تُسَمّى حُجْرَةٌ، وهي فُعْلَةٌ بِمَعْنى مَفْعُولَةٍ، كالغُرْفَةِ والقُبْضَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ:
﴿الحُجُراتِ﴾ . بِضَمِّ الجِيمِ اتِّباعًا لِلضَّمَّةِ قَبْلَها، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: بِفَتْحِها، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِإسْكانِها، وهي لُغًى ثَلاثٌ، في كُلِّ فُعْلَةٍ بِشَرْطِها المَذْكُورِ في عِلْمِ النَّحْوِ. والظّاهِرُ أنَّ مَن صَدَرَ مِنهُ النِّداءُ كانُوا جَماعَةً. وذَكَرَ الأصَمُّ أنَّ مَن ناداهُ كانَ الأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَإنْ صَحَّ ذَلِكَ، كانَ الإسْنادُ إلى الجَماعَةِ، لِأنَّهم راضُونَ بِذَلِكَ، وإذا كانُوا جَماعَةً، احْتُمِلَ أنْ يَكُونُوا تَفَرَّقُوا، فَنادى بَعْضٌ مِن وراءِ هَذِهِ الحُجْرَةِ، وبَعْضٌ مِن وراءِ هَذِهِ، أوْ نادَوْهُ مُجْتَمِعِينَ مِن وراءِ حُجْرَةٍ حُجْرَةٍ، أوْ كانَتِ الحُجْرَةُ واحِدَةً، وهي الَّتِي كانَ فِيها الرَّسُولُ ﷺ، وجُمِعَتْ إجْلالًا لَهُ. وانْتِفاءُ العَقْلِ عَنْ أكْثَرِهِمْ دَلِيلٌ عَلى أنْ فِيهِمْ عَقْلًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الحُكْمُ بِقِلَّةِ العُقَلاءِ فِيهِمْ قَصْدًا إلى نَفْيِ أنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَن يَعْقِلُ، فَإنَّ القِلَّةَ تَقَعُ مَوْقِعَ النَّفْيِ في كَلامِهِمْ. انْتَهى. ولَيْسَ في الآيَةِ الحُكْمُ بِقِلَّةِ العَقْلِ مَنطُوقًا بِهِ، فَيُحْتَمَلُ النَّفْيُ، وإنَّما هو مَفْهُومٌ مِن قَوْلِهِ:
﴿أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ . والنَّفْيُ المَحْضُ المُسْتَفادُ إنَّما هو مِن صَرِيحِ لَفْظِ التَّقْلِيلِ، لا مِنَ المَفْهُومِ، فَلا يُحْمَلُ قَوْلُهُ:
﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٣] النَّفْيُ المَحْضُ لِلشُّكْرِ، لِأنَّ النَّفْيَ لَمْ يُسْتَفَدْ مِن صَرِيحِ التَّقْلِيلِ. وهَذِهِ الآيَةُ سُجِّلَتْ عَلى الَّذِينَ نادَوْهُ بِالسَّفَهِ والجَهْلِ.
وابْتَدَأ أوَّلَ السُّورَةِ بِتَقْدِيمِ الأُمُورِ الَّتِي تَنْتَمِي إلى اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ عَلى الأُمُورِ كُلِّها، ثُمَّ عَلى ما نَهى عَنْهُ مِنَ التَّقْدِيمِ بِالنَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ والجَهْرِ، فَكانَ الأوَّلُ بِساطًا لِلثّانِي، ثُمَّ يَلِي بِما هو ثَناءٌ عَلى الَّذِينَ امْتَنَعُوا مِن ذَلِكَ، فَغَضُّوا أصْواتَهم دَلالَةً عَلى عِظَمِ مَوْقِعِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. ثُمَّ جِيءَ عَلى عَقِبِهِ بِما هو أفْظَعُ، وهو الصِّياحُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ في حالِ خَلْوَتِهِ بِبَعْضِ حَرَمِهِ مِن وراءِ الجِدارِ، كَما يُصاحُ بِأهْوَنِ النّاسِ، لِيُلَبِّيَهُ عَلى فَظاعَةِ ما جَسَرُوا عَلَيْهِ، لِأنَّ مَن رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ عَنْ أنْ يُجْهَرَ لَهُ بِالقَوْلِ، كانَ صَنِيعُ هَؤُلاءِ مَعَهُ مِنَ المُنْكَرِ المُتَفاحِشِ. ومِن هَذا وأمْثالِهِ تُقْتَبَسُ مَحاسِنُ الآدابِ. كَما يُحْكى عَنْ أبِي عُبَيْدٍ، ومَحَلُّهُ مِنَ العِلْمِ والزُّهْدِ وثِقَةِ الرِّوايَةِ ما لا يَخْفى أنَّهُ قالَ: ما دَقَقْتُ بابًا عَلى عالِمٍ قَطُّ حَتّى يَخْرُجَ في وقْتِ خُرُوجِهِ.
﴿ولَوْ أنَّهم صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ﴾، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
﴿أنَّهم صَبَرُوا﴾ في مَوْضِعِ الرَّفْعِ عَلى الفاعِلِيَّةِ، لِأنَّ المَعْنى: ولَوْ ثَبَتَ صَبْرُهم. انْتَهى، وهَذا لَيْسَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، أنَّ أنَّ وما بَعْدَها بَعْدَ لَوْ في مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، لا في مَوْضِعِ فاعِلٍ. ومَذْهَبُ المُبَرِّدِ أنَّها في مَوْضِعِ فاعِلٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، كَما زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ. واسْمُ كانَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن صَبَرُوا، أيْ لَكانَ هو، أيْ صَبْرُهم خَيْرًا لَهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: في كانَ، إمّا ضَمِيرُ فاعِلِ الفِعْلِ المُضْمَرِ بَعْدَ لَوِ. انْتَهى، لِأنَّهُ قَدَّرَ أنَّ وما بَعْدَها فاعِلٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، فَأعادَ الضَّمِيرَ عَلى ذَلِكَ الفاعِلِ، وهو الصَّبْرُ المُنْسَبِكُ مِن أنَّ ومَعْمُولِها خَيْرًا لَهم في الثَّوابِ عِنْدَ اللَّهِ، وفي انْبِساطِ نَفْسِ الرَّسُولِ ﷺ وقَضائِهِ لِحَوائِجِهِمْ. وقَدْ قِيلَ: إنَّهم جاءُوا في أسارى، فَأعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النِّصْفَ وفادى عَلى النِّصْفِ، ولَوْ صَبَرُوا لَأعْتَقَ الجَمِيعَ بِغَيْرِ فِداءٍ. وقِيلَ: لَكانَ صَبْرُهم أحْسَنَ لِأدَبِهِمْ.
﴿واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، لَنْ يَضِيقَ غُفْرانُهُ ورَحْمَتُهُ عَنْ هَؤُلاءِ إنْ تابُوا وأنابُوا.