الباحث القرآني
سورةُ الحُجُراتِ مدنيَّةٌ، وبهذا قال ابنُ عبّاسٍ وابنُ الزُّبَيْرِ[[«الدر المنثور» (١٣ /٥٢٦).]]، وقد حَكى الإجماعَ على ذلك جماعةٌ[[ينظر: «تفسير ابن عطية» (٥ /١٤٤)، و«زاد المسير» (٤ /١٤١)، و«تفسير القرطبي» (١٩ /٣٥٢).]]، وهذا ظاهرٌ في آياتِها، ففيها تعظيمُ النبيِّ ﷺ، ووجوبُ توقيرِهِ واتِّباعِه، والأدبُ معه عندَ سماعِهِ ومناداتِه، ووجوبُ التثبُّتِ عندَ الأخبارِ وحالَ القتالِ الذي يقعُ بينَ المؤمِنِينَ، والتحذيرُ مِن أسبابِ الشِّقاقِ بينَهم مِن السُّخْرِيَّةِ والتنابُزِ بالألقابِ والغِيبَةِ والتجسُّسِ وسوءِ الظنِّ.
قال اللهُ تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ وأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: ١ ـ ٢].
في هذه الآيةِ: تعظيمُ النبيِّ ﷺ، ومِن تعظيمِهِ: عدمُ التقدُّمِ بينَ يدَيْهِ ويدَيْ قولِهِ حيًّا وميِّتًا، فإذا سُمِعَ حديثُهُ ولو مِن غيرِه، فينبغي غضُّ الصوتِ وخَفْضُهُ تعظيمًا للوحيِ، كما قال تعالى: ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحى ﴾ [النجم: ٣ ـ ٤].
وقد قال ابنُ عبّاسٍ في قولِه تعالى: ﴿لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾: لا تقولوا خِلافَ الكتابِ والسُّنَّة[[«تفسير الطبري» (٢١ /٣٣٥)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١٠ /٣٣٠٢).]].
تعظيمُ أقوالِ النبيِّ ﷺ وأصحابِه:
ولا يجوزُ لأحدٍ إذا سَمِعَ حديثَ النبيِّ ﷺ أنْ يقدِّمَ عليه قولَ أحدٍ مِن الناسِ، وقولُه تعالى: ﴿لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ وأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ﴾ نزَلَ في أبي بكرٍ وعمرَ مع أنّهما أفضلُ الأمَّةِ بعدَ نبيِّها، فجرى عليهم التشديدُ مع مَقامِهم وفَضْلِهم، فكيف بغيرِهم؟! وقد ثبَتَ في البخاريِّ، مِن حديثِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، قال: كادَ الخَيِّرانِ أنْ يَهْلِكا: أبو بَكْرٍ وعُمَرُ رضي الله عنهما، رَفَعا أصْواتَهُما عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بنِي تَمِيمٍ، فَأَشارَ أحَدُهُما بِالأَقْرَعِ بنِ حابِسٍ أخِي بنِي مُجاشِعٍ، وأَشارَ الآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ ـ قالَ نافِعٌ: لا أحْفَظُ اسْمَهُ ـ فَقالَ أبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: ما أرَدتَّ إلاَّ خِلافِي، قالَ: ما أرَدتُّ خِلافَكَ، فارْتَفَعَتْ أصْواتُهُما فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ﴾ الآيةَ، قالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَما كانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ حَتّى يَسْتَفْهِمَهُ، ولَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أبِيهِ، يَعْنِي: أبا بَكْرٍ رضي الله عنه[[أخرجه البخاري (٤٨٤٥).]].
ومِن تعظيمِ النبيِّ ﷺ: تعظيمُ قولِ أصحابِه، خاصَّةً خلفاءَهُ، لأنّهم أعلَمُ الناسِ بمُرادِهِ ﷺ، فأقوالُهم وأفعالُهم تخصِّصُ أقوالَهُ وتوجِّهُها، لأنّهم يَعْلَمونَ منه ما لا يَعلَمُهُ غيرُهم، ولفضلِهم وديانتِهم لا يُمكِنُ أنْ يتعمَّدُوا عِصْيانَه، ولا يجوزُ لأحدٍ أنْ يترُكَ قولَ الخُلَفاءِ الراشدينَ بحُجَّةِ أنّهم ليسوا معصومينَ، فإنّه لا يقولُ مسلمٌ بعِصْمَتِهم، ولكنَّهم أعلَمُ الناسِ برسولِ اللهِ ﷺ، ولا يقدِّمُ أحدٌ فَهْمَهُ على فهمِهم، إلاَّ مَن لم يَعرِفْ قَدْرَهم.
وقد كان مالكُ بنُ أنسٍ يَنهى عن تقديمِ أقوالِ فقهاءِ التابِعِينَ ـ مع فضلِهم ـ على أقوالِ الخلفاءِ الراشِدِينَ كعُمَرَ، بل يَدْعو إلى استتابةِ مَن يفعلُ ذلك، كما روى ابنُ حزمٍ عن الهَيْثَمِ بنِ جَمِيلٍ، قال: قلتُ لمالكِ بنِ أنسٍ: يا أبا عبدِ اللهِ، إنّ عندَنا قومًا وضَعُوا كتبًا يقولُ أحدُهم: ثنا فلانٌ، عن فلانٍ، عن عمرَ بنِ الخطّابِ بكذا وكذا، وفلانٌ عن إبراهيمَ بكذا، ويأخُذُ بقولِ إبراهيمَ؟
قال مالكٌ: وصحَّ عندَهم قولُ عمرَ؟
قلتُ: إنّما هي روايةٌ، كما صحَّ عندَهم قولُ إبراهيمَ.
فقال مالكٌ: هؤلاءِ يُستتابُونَ، واللهُ أعلَمُ[[«الإحكام، في أصول الأحكام» (٦ /١٢٠ ـ ١٢١).]].
وهذا في فقيهٍ تابعيٍّ متأخِّرٍ، ويَعُدُّهُ بعضُهم مِن أتباعِ التابعينَ، مع تقدُّمِ زمانِهِ وجلالةِ قَدْرِهِ في الفقهِ، فتقديمُ قولِ غيرِه ممَّن كان بعدَهُ مِن بابِ أولى أنْ يُزجَرَ فاعلُه.
وأقوالُ الصحابةِ عمومًا مقدَّمةٌ على أقوالِ التابعينَ، وأقوالُ التابعينَ مقدَّمةٌ على أقوالِ أتباعِهم، وذلك أنّه كلَّما قَرُبَ العهدُ مِن النبيِّ ﷺ، كان القولُ أقرَبَ إلى الصوابِ، وأسلَمَ مِن الهَوى.
والأصلُ في أقوالِ الصحابةِ: أنّ مُستنَدَها الرفعُ، إمّا مِن قولِ النبيِّ ﷺ أو فعلِهِ أو تقريرِهِ، أو ما سكَتَ عنه ولم يُبيِّنْ فيه شيئًا، وإنِ اختلَفَتْ أقوالُ الصحابةِ فيما بينَهُمْ، فاختلافُهم دليلٌ على معنًى مرفوعٍ، وهو أنّ المسألةَ مِن مسائلِ السَّعَةِ، لا مِن مسائلِ التشديدِ.
والأصلُ في أقوالِ التابعينَ: أنّ مُستنَدَها الوقفُ على الصحابةِ، إمّا عن واحدٍ أو عن جماعةٍ، ولهذا يقولُ أحمدُ بنُ حنبلٍ: «لا يكادُ يجيءُ عن التابعينَ شيءٌ إلاَّ يُوجَدُ فيه عن أصحابِ النبيِّ ﷺ»[[«العدة في أصول الفقه» (٢ /٥٨٢).]].
وإنّما عُظِّمَتِ القرونُ المفضَّلةُ الأُولى، لقُرْبِها مِن النبيِّ ﷺ، فعُظِّمَ الزمانُ بتعظيمِه.
وقولُه تعالى: ﴿أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ وأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ﴾، فيه: أنّ مِن أعظَمِ ما يُحبِطُ الأعمالَ: عدمَ تعظيمِ سُنَّةِ النبيِّ ﷺ، بالإعراضِ عنها عندَ سماعِها، أو رفعِ الصوتِ عندَها، أو تقديمِ أقوالِ الرِّجالِ عليها.
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنّ السيِّئاتِ تُحبِطُ قَدْرًا مِن الحسناتِ، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُقَدِّمُوا۟ بَیۡنَ یَدَیِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق