الباحث القرآني

(p-٤٦٧)﴿ويا قَوْمِ ما لِي أدْعُوكم إلى النَّجاةِ وتَدْعُونَنِي إلى النّارِ﴾ ﴿تَدْعُونَنِي لِأكْفُرَ بِاللَّهِ وأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وأنا أدْعُوكم إلى العَزِيزِ الغَفّارِ﴾ ﴿لا جَرَمَ أنَّما تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ وأنَّ مَرَدَّنا إلى اللَّهِ وأنَّ المُسْرِفِينَ هم أصْحابُ النّارِ﴾ ﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أقُولُ لَكم وأُفَوِّضُ أمْرِي إلى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالعِبادِ﴾ ﴿فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذابِ﴾ ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ ﴿وإذْ يَتَحاجُّونَ في النّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنّا كُنّا لَكم تَبَعًا فَهَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا نَصِيبًا مِنَ النّارِ﴾ ﴿قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنّا كُلٌّ فِيها إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبادِ﴾ ﴿وقالَ الَّذِينَ في النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكم يُخَفِّفْ عَنّا يَوْمًا مِنَ العَذابِ﴾ ﴿قالُوا أوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكم رُسُلُكم بِالبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فادْعُوا وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلّا في ضَلالٍ﴾ ﴿إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ﴾ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهم ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهم سُوءُ الدّارِ﴾ بَدَأ المُؤْمِنُ بِذِكْرِ المُتَسَبَّبِ عَنْ دَعْوَتِهِمْ، وأبْدى التَّفاضُلَ بَيْنَهُما. ولَمّا ذَكَرَ المُسَبِّبَيْنِ، ذَكَرَ سَبَبَهُما، وهو دُعاؤُهم إلى الكُفْرِ والشِّرْكِ، ودُعاؤُهُ إيّاهم إلى الإيمانِ والتَّوْحِيدِ. وأتى بِصِيغَةِ العَزِيزِ، وهو الَّذِي لا نَظِيرَ لَهُ، والغالِبُ الَّذِي العالَمُ كُلُّهم في قَبْضَتِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَما يَشاءُ، الغَفّارُ لِذُنُوبِ مَن رَجَعَ إلَيْهِ وآمَنُ بِهِ، وأوْصَلَ سَبَبَ دُعائِهِمْ بِمُسَبِّبِهِ، وهو الكُفْرُ والنّارُ، وأخَّرَ سَبَبَ مُسَبِّبِهِ لِيَكُونَ افْتِتاحَ كَلامِهِ واخْتِتامِهِ بِما يَدْعُو إلى الخَيْرِ. وبَدَأ أوَّلًا بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، وهو الاسْتِفْهامُ المُتَضَمِّنُ التَّعَجُّبَ مِن حالَتِهِمْ، وخَتَمَ أيْضًا بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِيَكُونَ أبْلَغَ في تَوْكِيدِ الأخْبارِ. وجاءَ في حَقِّهِمْ ﴿وتَدْعُونَنِي﴾ بِالجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ الَّتِي لا تَقْتَضِي تَوْكِيدًا، إذْ دَعَوْتُهم باطِلَةٌ لا ثُبُوتَ لَها، فَتُؤَكَّدُ. و﴿ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ هي الأوْثانُ، أيْ: لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عِلْمِي، إذْ لَيْسَ لَها مَدْخَلٌ في الأُلُوهِيَّةِ ولا لِفِرْعَوْنَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): لِمَ جاءَ بِالواوِ في النِّداءِ الثّالِثِ دُونَ الثّانِي ؟ . (قُلْتُ): لِأنَّ الثّانِيَ داخِلٌ في كَلامٍ هو بَيانٌ لِلْمُجْمَلِ وتَفْسِيرٌ لَهُ، فَأعْطى الدّاخِلَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ في امْتِناعِ دُخُولِ الواوِ، وأمّا الثّالِثُ فَداخِلٌ عَلى كَلامٍ لَيْسَ بِتِلْكَ المَثابَةِ. انْتَهى. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى لا جَرَمَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنا، ورُوِيَ عَنِ العَرَبِ: لا جُرْمَ أنَّهُ يَفْعَلُ بِضَمِّ الجِيمِ وسُكُونِ الرّاءِ، يُرِيدُ لا بُدَّ، وفَعَلٌ وفُعْلٌ أخَوانِ، كَرَشَدٍ ورُشْدٍ، وعَدَمٍ وعُدْمٍ. (أنَّما) أيْ: أنَّ الَّذِي ﴿تَدْعُونَنِي إلَيْهِ﴾ أيْ: إلى عِبادَتِهِ، ﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ﴾، أيْ: قَدْرٌ وحَقٌّ يَجِبُ أنْ يُدْعى إلَيْهِ، أوْ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ إلى نَفْسِهِ؛ لِأنَّ الجَمادَ لا يَدْعُو، والمَعْبُودُ بِالحَقِّ يَدْعُو العِبادَ إلى طاعَتِهِ، ثُمَّ يَدْعُو العِبادَ إلَيْها إظْهارًا لِدَعْوَةِ رَبِّهِمْ. وقالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى لَيْسَ لَهُ اسْتِجابَةُ دَعْوَةٍ تُوجِبُ الأُلُوهِيَّةَ في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ، أوْ دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ، جُعِلَتِ الدَّعْوَةُ الَّتِي لا اسْتِجابَةَ لَها ولا مَنفَعَةَ كَلا دَعْوَةٍ، أوْ سُمِّيَتِ الِاسْتِجابَةُ بِاسْمِ الدَّعْوَةِ، كَما سُمِّيَ الفِعْلُ المُجازى عَلَيْهِ بِاسْمِ الجَزاءِ في قَوْلِهِ: (كَما تَدِينُ تُدانُ) . وقالَ الكَلْبِيُّ: لَيْسَتْ لَهُ شَفاعَةٌ في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ، وكانَ فِرْعَوْنُ أوَّلًا يَدْعُو النّاسَ إلى عِبادَةِ الأصْنامِ، ثُمَّ دَعاهم إلى عِبادَةِ البَقَرِ، وكانَتْ تُعْبَدُ ما دامَتْ شابَّةً، فَإذا هَزُلَتْ أمَرَ بِذَبْحِها ودَعا بِأُخْرى لِتُعْبَدَ. فَلَمّا طالَ عَلَيْهِ الزَّمانُ قالَ: ﴿أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ [النازعات: ٢٤] . ولَمّا ذَكَرَ انْتِفاءَ دَعْوَةِ ما عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ وذَكَرَ أنَّ مَرَدَّ الجَمِيعِ إلى اللَّهِ، أيْ: إلى جَزائِهِ، ﴿وأنَّ المُسْرِفِينَ﴾: وهُمُ المُشْرِكُونَ (p-٤٦٨)فِي قَوْلِ قَتادَةَ، والسَّفّاكُونَ لِلدِّماءِ بِغَيْرِ حِلِّها في قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ومُجاهِدٍ. وقِيلَ: مَن غَلَبَ شَرُّهُ خَيْرَهُ هو المُسْرِفُ. وقالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الجَبّارُونَ المُتَكَبِّرُونَ. وخَتَمَ المُؤْمِنُ كَلامَهُ بِخاتِمَةٍ لَطِيفَةٍ تُوجِبُ التَّخْوِيفَ والتَّهْدِيدَ وهي قَوْلُهُ: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أقُولُ لَكُمْ﴾ أيْ: إذا حَلَّ بِكم عِقابُ اللَّهِ. ﴿وأُفَوِّضُ أمْرِي﴾ إلى قَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، لا إلَيْكم ولا إلى أصْنامِكم، وكانُوا قَدْ تَوَعَّدُوهُ. ثُمَّ ذَكَرَ ما يُوجِبُ التَّفْوِيضَ، وهو كَوْنُهُ تَعالى بَصِيرًا بِأحْوالِ العِبادِ وبِمَقادِيرِ حاجاتِهِمْ. قالَ مُقاتِلٌ: لَمّا قالَ هَذِهِ الكَلِماتِ، قَصَدُوا قَتْلَهُ؛ فَهَرَبَ هَذا المُؤْمِنُ إلى الجَبَلِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. وقِيلَ: لَمّا أظْهَرَ إيمانَهُ، بَعَثَ فِرْعَوْنُ في طَلَبِهِ ألْفَ رَجُلٍ؛ فَمِنهم مَن أدْرَكَهُ، فَذَبَّ السِّباعُ عَنْهُ وأكَلَتْهُمُ السِّباعُ، ومِنهم مَن ماتَ في الجِبالِ عَطَشًا، ومِنهم مَن رَجَعَ إلى فِرْعَوْنَ خائِبًا، فاتَّهَمَهُ وقَتَلَهُ وصَلَبَهُ. وقِيلَ: نَجا مَعَ مُوسى في البَحْرِ، وفَرَّ في جُمْلَةِ مَن فَرَّ مَعَهُ. ﴿فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا﴾ أيْ: شَدائِدَ مَكْرِهِمُ الَّتِي تَسُوؤُهُ، وما هَمُّوا بِهِ مِن أنْواعِ العَذابِ لِمَن خالَفَهم. ﴿وحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذابِ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو ما حاقَ بِالألْفِ الَّذِينَ بَعَثَهم فِرْعَوْنُ في طَلَبِ المُؤْمِنِ، مِن أكْلِ السِّباعِ، والمَوْتِ بِالعَطَشِ، والقَتْلِ والصَّلْبِ، كَما تَقَدَّمَ. وقِيلَ: ﴿سُوءُ العَذابِ﴾: هو الغَرَقُ في الدُّنْيا والحَرْقُ في الآخِرَةِ. (النّارُ) بَدَلٌ مِن ﴿سُوءُ العَذابِ﴾، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما سُوءُ العَذابِ: قِيلَ: النّارُ، أوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ﴿يُعْرَضُونَ﴾، ويُقَوِّي هَذا الوَجْهَ قِراءَةُ مَن نَصَبَ، أيْ: تَدْخُلُونَ النّارَ يُعْرَضُونَ عَلَيْها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُنْصَبَ عَلى الِاخْتِصاصِ. والظّاهِرُ أنَّ عَرْضَهم عَلى النّارِ مَخْصُوصٌ بِهَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الدَّوامُ في الدُّنْيا، والظّاهِرُ أنَّ العَرْضَ خِلافُ الإحْراقِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَرْضُهم عَلَيْها: إحْراقُهم بِها، يُقالُ: عَرَضَ الإمامُ الأُسارى عَلى السَّيْفِ إذا قَتَلَهم بِهِ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ العَرْضَ هو في الدُّنْيا. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الهُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، والسُّدِّيِّ: أنَّ أرْواحَهم في جَوْفِ طُيُورٍ سُودٍ، تَرُوحُ بِهِمْ وتَغْدُو إلى النّارِ. وقالَ رَجُلٌ لِلْأوْزاعِيِّ: رَأيْتُ طُيُورًا بِيضًا تَغْدُو مِنَ البَحْرِ، ثُمَّ تَرُوحُ بِالعَشِيِّ سُودًا مِثْلُها، فَقالَ الأوْزاعِيُّ: تِلْكَ الَّتِي في حَواصِلِها أرْواحُ آلِ فِرْعَوْنَ، يُحْرَقُ رِياشُها وتَسْوَدُّ بِالعَرْضِ عَلى النّارِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وغَيْرُهُ: أرادَ أنَّهم يُعْرَضُونَ في الآخِرَةِ عَلى تَقْدِيرِ ما بَيْنَ الغُدُوِّ والعَشِيِّ، إذْ لا غُدُوَّ ولا عَشِيَّ في الآخِرَةِ، وإنَّما ذَلِكَ عَلى التَّقْدِيرِ بِأيّامِ الدُّنْيا. وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تُعْرَضُ أرْواحُ آلِ فِرْعَوْنَ ومَن كانَ مِثْلَهم مِنَ الكُفّارِ عَلى النّارِ بِالغَداةِ والعَشِيِّ، يُقالُ: هَذِهِ دارُكم. وفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ، ومُسْلِمٍ، مِن حَدِيثِ ابْنِ عِمْرانَ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنَّ أحَدَكم إذا ماتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدَهُ بِالغَداةِ والعَشِيِّ، إنْ كانَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَمِن أهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كانَ مِن أهْلِ النّارِ فَمِن أهْلِ النّارِ، يُقالُ هَذا مَقْعَدُكَ حَتّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ» . واسْتَدَلَّ مُجاهِدٌ ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وعِكْرِمَةُ ومُقاتِلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا﴾ أيْ: عِنْدَ مَوْتِهِمْ عَلى عَذابِ القَبْرِ في الدُّنْيا. والظّاهِرُ تَمامُ الجُمْلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وعَشِيًّا﴾، وأنَّ يَوْمَ القِيامَةِ مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ عَلى إضْمارِ القَوْلِ، أيْ: ويَوْمَ القِيامَةِ يُقالُ لَهم: ادْخُلُوا. وقِيلَ: و(يَوْمَ) مَعْطُوفٌ عَلى ﴿وعَشِيًّا﴾ فالعامِلُ فِيهِ ﴿يُعْرَضُونَ﴾ و﴿أدْخِلُوا﴾ عَلى إضْمارِ الفِعْلِ. وقِيلَ: العامِلُ في (يَوْمَ) ﴿أدْخِلُوا﴾ . وقَرَأ الأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، والأعْمَشُ، وابْنُ وثّابٍ، وطَلْحَةُ، ونافِعٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ: ﴿أدْخِلُوا﴾، أمْرًا لِلْخَزَنَةِ مِن أدْخَلَ. وعَلِيٌّ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، وابْنُ كَثِيرٍ، والعَرَبِيّانِ، وأبُو بَكْرٍ: أمْرًا مِن دَخَلَ ﴿آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ . قِيلَ: وهو الهاوِيَةُ. قالَ الأوْزاعِيُّ: بَلَغَنا أنَّهم ألْفا ألْفٍ وسِتُّمِائَةِ ألْفٍ. ﴿وإذْ يَتَحاجُّونَ في النّارِ﴾: الظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى فِرْعَوْنَ. وقالَ (p-٤٦٩)ابْنُ عَطِيَّةَ: والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿يَتَحاجُّونَ﴾ لِجَمِيعِ كَفّارِ الأُمَمِ، وهَذا ابْتِداءُ قَصَصٍ لا يَخْتَصُّ بِآلِ فِرْعَوْنَ، والعامِلُ في (إذْ) فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ واذْكُرُوا. وقالَ الطَّبَرِيُّ: وإذْ هَذِهِ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إذِ القُلُوبُ لَدى الحَناجِرِ﴾ [غافر: ١٨]، وهَذا بَعِيدٌ. انْتَهى. والمُحاجَّةُ: التَّحاوُرُ بِالحُجَّةِ والخُصُومَةِ. والضُّعَفاءُ أيْ: في القَدَرِ والمَنزِلَةِ في الدُّنْيا. والَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أيْ: عَنِ الإيمانِ واتِّباعِ الرُّسُلِ. ﴿إنّا كُنّا لَكم تَبَعًا﴾ أيْ: ذَوِي تَبَعٍ، فَتَبَعٌ مَصْدَرٌ أوِ اسْمُ جَمْعٍ لِتابِعٍ، كَآيِمٍ وأيَمٍ، وخادِمِ وخَدَمٍ، وغائِبٍ وغَيَبٍ. ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا﴾ أيْ: حامِلُونَ عَنّا ؟ فَأجابُوهم: ﴿إنّا كُلٌّ فِيها﴾، وأنَّ حُكْمَ اللَّهِ قَدْ نَفَذَ فِينا وفِيكم، إنّا مُسْتَمِرُّونَ في النّارِ. وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْقَعِ، وعِيسى بْنُ عِمْرانَ: (كُلًّا) بِنَصْبِ (كُلٌّ) . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ: عَلى التَّوْكِيدِ لِاسْمِ إنَّ، وهو مَعْرِفَةٌ، والتَّنْوِينُ عِوَضٌ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ، يُرِيدُ: إنّا كُلُّنا فِيها. انْتَهى. وخَبَرُ إنَّ هو فِيها، ومَن رَفَعَ (كُلًّا) فَعَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ فِيها، والجُمْلَةُ خَبَرُ إنَّ. وقالَ ابْنُ مالِكٍ في تَصْنِيفِهِ (تَسْهِيلِ الفَوائِدِ): وقَدْ تَكَلَّمَ عَلى (كُلٌّ) ولا يُسْتَغْنى بِنِيَّةِ إضافَتِهِ، خِلافًا لِلْفَرّاءِ والزَّمَخْشَرِيِّ. انْتَهى، وهَذا المَذْهَبُ مَنقُولٌ عَنِ الكُوفِيِّينَ، وقَدْ رَدَّ ابْنُ مالِكٍ عَلى هَذا المَذْهَبِ بِما قَرَّرَهُ في شَرْحِهِ (التَّسْهِيلِ) . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): هَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ (كُلًّا) حالًا قَدْ عَمِلَ (فِيها) فِيها ؟ (قُلْتُ): لا؛ لِأنَّ الظَّرْفَ لا يَعْمَلُ، والحالُ مُتَقَدِّمَةٌ، كَما يَعْمَلُ في الظَّرْفِ مُتَقَدِّمًا، تَقُولُ: كُلُّ يَوْمٍ لَكَ ثَوْبٌ، ولا تَقُولُ: قائِمًا في الدّارِ زَيْدٌ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي مَنَعَهُ أجازَهُ الأخْفَشُ إذا تَوَسَّطَتِ الحالُ، نَحْوُ: زَيْدٌ قائِمًا في الدّارِ، وزَيْدٌ قائِمًا عِنْدَكَ، والتَّمْثِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ مُطابِقًا في الآيَةِ؛ لِأنَّ الآيَةَ تَقَدَّمَ فِيها المُسْنَدُ إلَيْهِ الحُكْمُ، وهو اسْمُ إنَّ، وتَوَسَّطَتِ الحالُ إذا قُلْنا إنَّها حالٌ، وتَأخَّرَ العامِلُ فِيها، وأمّا تَمْثِيلُهُ بِقَوْلِهِ: ولا تَقُولُ: قائِمًا في الدّارِ زَيْدٌ، تَأخَّرَ فِيهِ المُسْنَدُ والمُسْنَدُ إلَيْهِ، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ المَنعَ في ذَلِكَ إجْماعٌ مِنَ النُّحاةِ. وقالَ ابْنُ مالِكٍ: والقَوْلُ المَرْضِيُّ عِنْدِي أنَّ كُلًّا في القِراءَةِ المَذْكُورَةِ مَنصُوبٌ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ المَرْفُوعَ المَنَوِيَّ في (فِيها) وفِيها هو العامِلُ، وقَدْ تَقَدَّمَتِ الحالُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ تَصَرُّفِهِ، كَما قُدِّمَتْ في قِراءَةِ مَن قَرَأ: ﴿والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] . وفي قَوْلِ النّابِغَةِ الذُّبْيانِيِّ: ؎رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبِي أدْراعَهم فِيهِمْ ورَهْطُ رَبِيعَةَ بْنِ حَذارِ وقالَ بَعْضُ الطّائِيِّينَ: ؎دَعا فَأجَبْنا وهو بادَّيَّ ذِلَّةً ∗∗∗ لَدَيْكم فَكانَ النَّصْرُ غَيْرَ قَرِيبِ انْتَهى. وهَذا التَّخْرِيجُ هو عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ، كَما ذَكَرْناهُ، والَّذِي أخْتارُهُ في تَخْرِيجِ هَذِهِ القِراءَةِ أنَّ (كُلًّا) بَدَلٌ مِنِ اسْمِ إنَّ؛ لِأنَّ (كُلًّا) يَتَصَرَّفُ فِيهِما بِالِابْتِداءِ ونَواسِخِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَأنَّهُ قالَ: إنَّ كُلًّا بَدَلٌ مِنِ اسْمِ إنَّ؛ لِأنَّ كُلًّا فِيها، وإذا كانُوا قَدْ تَأوَّلُوا حَوْلًا أكْتَعًا ويَوْمًا أجْمَعًا عَلى البَدَلِ، مَعَ أنَّهُما لا يَلِيانِ العَوامِلَ، فَإنْ يُدَّعى في (كُلٌّ) البَدَلُ أوْلى، وأيْضًا فَتَنْكِيرُ (كُلٌّ) ونَصْبُهُ حالًا في غايَةِ الشُّذُوذِ، والمَشْهُورُ (p-٤٧٠)أنَّ كُلًّا مَعْرِفَةٌ إذا قُطِعَتْ عَنِ الإضافَةِ. حُكِيَ: مَرَرْتُ بِكُلٍّ قائِمًا، وبِبَعْضٍ جالِسًا في الفَصِيحِ الكَثِيرِ في كَلامِهِمْ، وقَدْ شَذَّ نَصْبُ كُلٍّ عَلى الحالِ في قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِهِمْ كُلًّا، أيْ: جَمِيعًا. (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ يَجْعَلُهُ بَدَلًا، وهو بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ، وهو لا يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ ؟ . (قُلْتُ): مَذْهَبُ الأخْفَشِ والكُوفِيِّينَ جَوازُهُ، وهو الصَّحِيحُ، عَلى أنَّ هَذا لَيْسَ مِمّا وقَعَ فِيهِ الخِلافُ، بَلْ إذا كانَ البَدَلُ يُفِيدُ الإحاطَةَ، جازَ أنْ يُبْدَلَ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ وضَمِيرِ المُخاطَبِ، لا نَعْلَمُ خِلافًا في ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا﴾ [المائدة: ١١٤]، وكَقَوْلِكِ: مَرَرْتُ بِكم صَغِيرِكم وكَبِيرِكم، مَعْناهُ: مَرَرْتُ بِكم كُلِّكم، وتَكُونُ لَنا عِيدًا كُلِّنا. فَإذا جازَ ذَلِكَ فِيما هو بِمَعْنى الإحاطَةِ، فَجَوازُهُ فِيما دَلَّ عَلى الإحاطَةِ، وهو (كُلٌّ) أوْلى، ولا التِفاتَ لِمَنعِ المُبَرِّدِ البَدَلَ فِيهِ؛ لِأنَّهُ بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَناطُ الخِلافِ. ولَمّا أجابَ الضُّعَفاءُ المُسْتَكْبِرُونَ قالُوا جَمِيعًا: ﴿لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾، وأبْرَزَ ما أُضِيفَ إلَيْهِ الخَزَنَةُ، ولَمْ يَأْتِ ضَمِيرًا، فَكانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ لِخَزَنَتِها، لِما في ذِكْرِ جَهَنَّمَ مِنَ التَّهْوِيلِ، وفِيها أطْغى الكُفّارِ وأعْتاهم. ولَعَلَّ الكُفّارَ تَوَهَّمُوا أنَّ مَلائِكَةَ جَهَنَّمَ المُوَكَّلِينَ بِعَذابِ تِلْكَ الطُّغاةِ هم أقْرَبُ مَنزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مِن غَيْرِهِمْ مِنَ المَلائِكَةِ المُوَكَّلِينَ بِبَقِيَّةِ دَرَكاتِ النّارِ، فَرَجَوْا أنْ يُجِيبُوهم ويَدْعُوا لَهم بِالتَّخْفِيفِ، فَراجَعَتْهُمُ الخَزَنَةُ عَلى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ لَهم والتَّقْرِيرِ: ﴿أوْلَمَ تَكُ تَأْتِيكم رُسُلُكم بِالبَيِّناتِ﴾، فَأجابُوا بِأنَّهم أتَتْهم، ﴿قالُوا﴾ أيِ: الخَزَنَةُ، ﴿فادْعُوا﴾ أنْتُمْ عَلى مَعْنى الهُزْءِ بِهِمْ، أوْ فادْعُوا أنْتُمْ، فَإنّا لا نَجْتَرِئُ عَلى ذَلِكَ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلّا في ضَلالٍ﴾ مِن كَلامِ الخَزَنَةِ أيْ: دُعاؤُكم لا يَنْفَعُ ولا يُجْدِي. وقِيلَ: هو مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى إخْبارًا مِنهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ . وجاءَتْ هَذِهِ الأخْبارُ مُعَبَّرًا عَنْها بِلَفْظِ الماضِي الواقِعِ لِتَيَقُّنِ وُقُوعِها. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ ويُظْفِرُهم بِأعْدائِهِمْ، كَما فَعَلَ بِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - حَيْثُ أهْلَكَ عَدُوَّهُ فِرْعَوْنَ وقَوْمَهُ، وفِيهِ تَبْشِيرٌ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِنَصْرِهِ عَلى قَوْمِهِ، (في الحَياةِ الدُّنْيا)، العاقِبَةُ الحَسَنَةُ لَهم، ﴿ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ﴾: وهو يَوْمُ القِيامَةِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يَنْصُرُهم بِالغَلَبَةِ، وفي الآخِرَةِ بِالعَذابِ. وقالَ السُّدِّيُّ: بِالِانْتِقامِ مِن أعْدائِهِمْ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: بِإفْلاحِ حُجَّتِهِمْ. وقالَ السُّدِّيُّ أيْضًا: ما قَتَلَ قَوْمٌ قَطُّ نَبِيًّا أوْ قَوْمًا مِن دُعاةِ الحَقِّ إلّا بَعَثَ اللَّهُ مَن يَنْتَقِمُ لَهم، فَصارُوا مَنصُورِينَ فِيها وإنْ قُتِلُوا. انْتَهى. ألا تَرى إلى قَتَلَةِ الحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْفَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ المُخْتارَ بْنَ عُبَيْدٍ يَتْبَعُهم واحِدًا واحِدًا حَتّى قَتَلَهم ؟ وبُخْتُنَصَّرُ تَتَبَعَ اليَهُودَ حِينَ قَتَلُوا يَحْيى بْنَ زَكَرِيّا، عَلَيْهِما السَّلامُ ؟ وقِيلَ: والنَّصْرُ خاصٌّ بِمَن أظْهَرَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى أُمَّتِهِ، كَنُوحٍ ومُوسى ومُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ؛ لِأنّا نَجِدُ مِنَ الأنْبِياءِ مَن قَتَلَهُ قَوْمُهُ، كَيَحْيى، ومَن لَمْ يُنْصَرْ عَلَيْهِمْ. وقالَ السُّدِّيُّ: الخَبَرُ عامٌّ، وذَلِكَ أنَّ نُصْرَةَ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ واقِعَةٌ ولا بُدَّ إمّا في حَياةِ الرَّسُولِ المَنصُورِ، كَنُوحٍ ومُوسى - عَلَيْهِما السَّلامُ - وإمّا بَعْدَ مَوْتِهِ. ألا تَرى إلى ما صَنَعَ اللَّهُ تَعالى بِبَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن تَسْلِيطِ بُخْتُنَصَّرَ حَتّى انْتَصَرَ لِيَحْيى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يَقُومُ) بِالياءِ؛ وابْنُ هُرْمُزَ، وإسْماعِيلُ، والمِنقَرِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِتاءِ التَّأْنِيثِ. الجَماعَةُ. والأشْهادُ، جَمْعُ شَهِيدٍ، كَشَرِيفٍ وأشْرافٍ، أوْ جَمْعُ شاهِدٍ، كَصاحِبٍ وأصْحابٍ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: ٤١] . وقالَ: ﴿لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣]، والظّاهِرُ أنَّهُ مِنَ الشَّهادَةِ. وقِيلَ: مِنَ المُشاهَدَةِ، بِمَعْنى الحُضُورِ. ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ﴾: بَدَلٌ مِن (يَوْمَ) (يَقُومُ) . وقُرِئَ: (تَنْفَعُ) بِالتّاءِ وبِالياءِ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ الخِلافِ في ذَلِكَ في آخِرِ الرُّومِ، ويُحْتَمَلُ أنَّهم يَعْتَذِرُونَ ولا تُقْبَلُ مَعْذِرَتُهم، أوْ أنَّهم لا مَعْذِرَةَ لَهم فَتُقْبَلُ. ﴿ولَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ والإبْعادُ مِنَ اللَّهِ. ﴿ولَهم سُوءُ الدّارِ﴾: سُوءُ عاقِبَةِ الدّارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب