الباحث القرآني
(p-٣٠٢)﴿واللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأحْيَيْنا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ والَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ ومَكْرُ أُولَئِكَ هو يَبُورُ﴾ ﴿واللَّهُ خَلَقَكم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكم أزْواجًا وما تَحْمِلُ مِن أُنْثى ولا تَضَعُ إلّا بِعِلْمِهِ وما يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِن عُمُرِهِ إلّا في كِتابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ﴿وما يَسْتَوِي البَحْرانِ هَذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وهَذا مِلْحٌ أُجاجٌ ومِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَرى الفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ ويُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لَهُ المُلْكُ والَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾ ﴿إنْ تَدْعُوهم لا يَسْمَعُوا دُعاءَكم ولَوْ سَمِعُوا ما اسْتَجابُوا لَكم ويَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكم ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ .
لَمّا ذَكَرَ أشْياءَ مِنَ الأُمُورِ السَّماوِيَّةِ وإرْسالِ المَلائِكَةِ، ذَكَرَ أشْياءَ مِنَ الأُمُورِ الأرْضِيَّةِ: الرِّياحِ وإرْسالِها، وفي هَذا احْتِجاجٌ عَلى مُنْكِرِي البَعْثِ. دَلَّهم عَلى المِثالِ الَّذِي يُعايِنُونَهُ، وهو وإحْياءُ المَوْتى سِيّانِ. وفي الحَدِيثِ: «أنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى، وما آيَةُ ذَلِكَ في خَلْقِهِ ؟ فَقالَ: هَلْ مَرَرْتَ بِوادٍ أُهْلِكَ مَحْلًا، ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا ؟ فَقالُوا: نَعَمْ، فَقالَ: فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتى، وتِلْكَ آيَتُهُ في خَلْقِهِ».
قِيلَ ﴿أرْسَلَ﴾ في مَعْنى يُرْسِلُ، ولِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ ﴿فَتُثِيرُ﴾ . وقِيلَ: جِيءَ بِالمُضارِعِ حِكايَةَ حالٍ يَقَعُ فِيها إثارَةُ الرِّياحِ السَّحابَ، ويَسْتَحْضِرُ تِلْكَ الصُّورَةَ البَدِيعَةَ الدّالَّةَ عَلى القُدْرَةِ الرَّبّانِيَّةِ، ومِنهُ فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وكَذا يَفْعَلُونَ بِكُلِّ فِعْلٍ فِيهِ نَوْعُ تَمْيِيزِ خُصُوصِيَّةٍ بِحالٍ يُسْتَغْرَبُ، أوْ يُتَّهَمُ المُخاطَبُ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَما قالَ تَأبَّطَ شَرًّا:
؎بِأنِّي قَدْ لَقِيتُ الغُولَ تَهْوِي بِشُهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحانِ
؎فَأضْرِبُها بِلا دَهَشٍ فَخَرَّتْ ∗∗∗ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرانِ
لِأنَّهُ قَصَدَ أنْ يُصَوِّرَ لِقَوْمِهِ الحالَةَ الَّتِي يُشَجِّعُ فِيها ابْنَ عَمِّهِ عَلى ضَرْبِ الغُولِ، كَأنَّهُ يُبَصِّرُهم إيّاها ويُطْلِعُهم عَلى كُنْهِها، مُشاهَدَةً لِلتَّعَجُّبِ مِن جَراءَتِهِ عَلى كُلِّ هَوْلٍ، وثَباتِهِ عِنْدَ كُلِّ شِدَّةٍ. وكَذَلِكَ سَوْقُ السَّحابِ إلى البَلَدِ المَيِّتِ، وإحْياءُ الأرْضِ بِالمَطَرِ بَعْدَ مَوْتِها. لَمّا كانَ مِنَ الدَّلائِلِ عَلى القُدْرَةِ الباهِرَةِ، وقِيلَ: فَسُقْنا وأحْيَيْنا، مَعْدُولًا بِهِما عَنْ لَفْظِ الغَيْبَةِ إلى ما هو أدْخَلُ في الِاخْتِصاصِ وأدَلُّ عَلَيْهِ. انْتَهى. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ ما مُلَخَّصُهُ: أيْ أرْسَلَ بِلَفْظِ الماضِي لِما أُسْنِدَ إلى اللَّهِ وما يَفْعَلُهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: كُنْ، لا يَبْقى زَمانًا ولا جُزْءَ زَمانٍ، فَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ المُسْتَقْبَلِ لِوُجُوبِ وُقُوعِهِ وسُرْعَةِ كَوْنِهِ، ولِأنَّهُ فَرَغَ مِن كُلِّ شَيْءٍ، فَهو قَدَّرَ الإرْسالَ في الأوْقاتِ المَعْلُومَةِ وإلى المَواضِعِ المُعَيَّنَةِ. ولَمّا أسْنَدَ الإثارَةَ إلى الرِّيحِ، وهي تُؤَلَّفُ في زَمانٍ، قالَ ﴿فَتُثِيرُ﴾، وأسْنَدَ ﴿أرْسَلَ﴾ إلى الغائِبِ، وفي ﴿فَسُقْناهُ﴾، و﴿فَأحْيَيْنا﴾ إلى المُتَكَلِّمِ؛ لِأنَّهُ في الأوَّلِ عَرَّفَ نَفْسَهُ بِفِعْلٍ مِنَ الأفْعالِ وهو الإرْسالُ، ثُمَّ لَمّا عُرِفَ قالَ: أنا الَّذِي عَرَفْتَنِي سُقْتُ السَّحابَ فَأحْيَيْتُ الأرْضَ. فَفي الأوَّلِ تَعْرِيفٌ بِالفِعْلِ العَجِيبِ، وفي الثّانِي تَذْكِيرٌ بِالبَعْثِ. وفَسُقْناهُ وفَأحْيَيْنا بِصِيغَةِ الماضِي يُؤَيِّدُ ما ذَكَرْنا مِنَ الفَرْقِ بَيْنَ فَتُثِيرُ وأرْسَلَ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الفَرْقِ بَيْنَ أرْسَلَ وفَتَثِيرُ لا يَظْهَرُ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الرُّومِ ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا﴾ [الروم: ٤٨]، وفي الأعْرافِ ﴿وهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف: ٥٧]، كَيْفَ جاءَ في الإرْسالِ بِالمُضارِعِ ؟ وإنَّما هَذا مِنَ التَّفَنُّنِ في الكَلامِ والتَّصَرُّفِ في البَلاغَةِ. وأمّا الخُرُوجُ مِن ضَمِيرِ الغائِبِ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ فَهو مِن بابِ الِالتِفاتِ، وكَذَلِكَ ما في الأعْرافِ ﴿سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأنْزَلْنا بِهِ الماءَ فَأخْرَجْنا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ [الأعراف: ٥٧] . وأمّا قَوْلُهُ: وما يَفْعَلُهُ تَعالى إلى آخِرِهِ، وكُلُّ فِعْلٍ، وإنْ كانَ أُسْنِدَ إلى غَيْرِهِ مَجازًا، فَهو فِعْلُهُ حَقِيقَةً، فَلا فَرْقَ بَيْنَ ما يُسْنِدُهُ إلى ذاتِهِ، وبَيْنَ ما يُسْنِدُ إلى غَيْرِهِ؛ لِأنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ هو إيجادُهُ وخَلْقُهُ. والنُّشُورُ، مَصْدَرُ نَشَرَ: المَيِّتُ إذا حَيِيَ، قالَ الأعْشى:(p-٣٠٣)
؎حَتّى يَقُولَ النّاسُ مِمّا رَأوْا ∗∗∗ يا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النّاشِرِ
والنُّشُورُ: مُبْتَدَأٌ، والجارُّ والمَجْرُورُ قَبْلَهُ في مَوْضِعِ الجَرِّ، والتَّشْبِيهُ وقَعَ لِجِهاتٍ لَمّا قَبِلَتِ الأرْضُ المَيْتَةُ الحَياةَ اللّائِقَةَ بِها، كَذَلِكَ الأعْضاءُ تَقْبَلُ الحَياةَ. أوْ كَما أنَّ الرِّيحَ يَجْمَعُ قِطَعَ السَّحابِ، كَذَلِكَ تُجْمَعُ أجْزاءُ الأعْضاءِ وأبْعاضُ الأشْياءِ؛ أوْ كَما يَسُوقُ الرِّياحَ والسَّحابَ إلى البَلَدِ المَيِّتِ، يَسُوقُ الرُّوحَ والحَياةَ إلى البَدَنِ.
﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ﴾ أيِ المُغالَبَةَ، ﴿فَلِلَّهِ العِزَّةُ﴾ أيْ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، ولا تَتِمُّ إلّا بِهِ، والمُغالِبُ مَغْلُوبٌ. ونَحا إلَيْهِ مُجاهِدٌ وقالَ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ﴾ بِعِبادَةِ الأوْثانِ، وهَذا تَمْثِيلٌ لِقَوْلِهِ ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهم عِزًّا﴾ [مريم: ٨١] . وقالَ قَتادَةُ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ﴾ وطَرِيقَها القَوِيمَ ويُحِبُّ نَيْلَها، ﴿فَلِلَّهِ العِزَّةُ﴾ أيْ بِهِ وعَنْ أمْرِهِ، لا تُنالُ عِزَّتُهُ إلّا بِطاعَتِهِ. وقالَ الفَرّاءُ: مَن كانَ يُرِيدُ عِلْمَ العِزَّةِ، ﴿فَلِلَّهِ العِزَّةُ﴾ أيْ هو المُتَّصِفُ بِها. وقِيلَ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ﴾ أيْ لا يَعْقُبُها ذِلَّةٌ ويُصارُ بِها لِلذِّلَّةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانَ الكافِرُونَ يَتَعَزَّزُونَ بِالأصْنامِ، كَما قالَ عَزَّ وجَلَّ ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهم عِزًّا﴾ [مريم: ٨١] . والَّذِينَ آمَنُوا بِألْسِنَتِهِمْ مِن غَيْرِ مُواطَأةِ قُلُوبِهِمْ كانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِالمُشْرِكِينَ، كَما قالَ ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: ١٣٩]، فَبَيَّنَ أنْ لا عِزَّةَ إلّا لِلَّهِ ولِأوْلِيائِهِ وقالَ ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨] . انْتَهى. ولا تَنافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ ﴿فَإنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: ١٣٩]، وإنْ كانَ الظّاهِرُ أنَّها لَهُ لا لِغَيْرِهِ، وبَيْنَ قَوْلِهِ ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨] وإنْ كانَ يَقْتَضِي الِاشْتِراكَ؛ لِأنَّ العِزَّةَ في الحَقِيقَةِ لِلَّهِ بِالذّاتِ، ولِلرَّسُولِ بِواسِطَةِ قُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ، ولِلْمُؤْمِنِينَ بِواسِطَةِ الرَّسُولِ. فالمَحْكُومُ عَلَيْهِ أوَّلًا غَيْرُ المَحْكُومِ عَلَيْهِ ثانِيًا. ومَنِ اسْمُ شَرْطٍ، وجُمْلَةُ الجَوابِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ فِيها ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اسْمِ الشَّرْطِ إذا لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا، والجَوابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَلى حَسَبِ تِلْكَ الأقْوالِ السّابِقَةِ. فَعَلى قَوْلِ مُجاهِدٍ: فَهو مَغْلُوبٌ، وعَلى قَوْلِ قَتادَةَ: فَلْيَطْلُبْها مِنَ اللَّهِ، وعَلى قَوْلِ الفَرّاءِ: فَلْيُنْسِبْ ذَلِكَ إلى اللَّهِ، وعَلى القَوْلِ الرّابِعِ: فَهو لا يَنالُها؛ وحُذِفَ الجَوابُ اسْتِغْناءً عَنْهُ بِقَوْلِهِ ﴿فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا﴾، لِدَلالَتِهِ عَلَيْهِ. والظّاهِرُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ قَوْلُ قَتادَةَ: فَلْيَطْلُبْها مِمَّنِ العِزَّةُ لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيها كَما يُرِيدُ، كَما قالَ تَعالى ﴿وتُعِزُّ مَن تَشاءُ وتُذِلُّ مَن تَشاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦]، وانْتُصِبَ جَمِيعًا عَلى المُرادِ، والمُرادُ عِزَّةُ الدُّنْيا وعِزَّةُ الآخِرَةِ.
و﴿الكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ التَّوْحِيدُ والتَّحْمِيدُ وذِكْرُ اللَّهِ ونَحْوُ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وقِيلَ: ثَناءٌ بِالخَيْرِ عَلى صالِحِي المُؤْمِنِينَ. وقالَ كَعْبٌ: إنَّ لِسُبْحانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ لَدَوِيًّا حَوْلَ العَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ بِذِكْرِ صاحِبِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ (يَصْعَدُ)، مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ مِن صَعِدَ؛ ﴿الكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ مَرْفُوعًا، فالكَلِمُ جَمْعُ كَلِمَةٍ. وقَرَأ عَلِيٌّ، وابْنُ مَسْعُودٍ، والسُّلَمِيُّ، وإبْراهِيمُ: يُصْعَدُ مِن أُصْعِدَ، الكَلامُ الطَّيِّبُ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ. انْتَهى. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ يَصْعَدُ مِن صَعِدَ الكَلامُ: رَقِيَ، وصُعُودُ الكَلامِ إلَيْهِ تَعالى مَجازٌ في الفاعِلِ وفي المُسَمّى إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَيْسَ في جِهَةٍ، ولِأنَّ الكَلِمَ ألْفاظٌ لا تُوصَفُ بِالصُّعُودِ؛ لِأنَّ الصُّعُودَ مِنَ الأجْرامِ يَكُونُ، وإنَّما ذَلِكَ كِنايَةٌ عَنِ القَبُولِ، ووَصْفُهُ بِالكَمالِ. كَما يُقالُ: عَلا كَعْبُهُ وارْتَفَعَ شَأْنُهُ، ومِنهُ تَرافَعُوا إلى الحاكِمِ، ورُفِعَ الأمْرُ إلَيْهِ، ولَيْسَ هُناكَ عُلُوٌّ في الجِهَةِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُما. فالعَمَلُ مُبْتَدَأٌ، ويَرْفَعُهُ الخَبَرُ، وفاعِلُ يَرْفَعُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى العَمَلِ الصّالِحِ، وضَمِيرُ النَّصْبِ يَعُودُ عَلى الكَلِمِ، أيْ يَرْفَعُ الكَلِمَ الطَّيِّبَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وابْنُ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٌ والضَّحّاكُ. وقالَ الحَسَنُ: يُعْرَضُ القَوْلُ عَلى الفِعْلِ، فَإنْ وافَقَ القَوْلُ الفِعْلَ قُبِلَ، وإنْ خالَفَ رُدَّ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ نَحْوُهُ، قالَ: إذا ذَكَرَ اللَّهَ العَبْدُ وقالَ كَلامًا طَيِّبًا وأدّى فَرائِضَهُ، ارْتَفَعَ قَوْلُهُ مَعَ عَمَلِهِ؛ وإذا قالَ ولَمْ يُؤَدِّ فَرائِضَهُ، رُدَّ قَوْلُهُ عَلى عَمَلِهِ؛ وقِيلَ: عَمَلُهُ أوْلى بِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا قَوْلٌ يَرُدُّهُ مُعْتَقَدُ أهْلِ السُّنَّةِ، ولا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والحَقُّ أنَّ (p-٢٠٤)القاضِيَ لِفَرائِضِهِ إذْ ذَكَرَ اللَّهَ وقالَ كَلامًا طَيِّبًا، فَإنَّهُ مَكْتُوبٌ لَهُ مُتَقَبَّلٌ، ولَهُ حَسَناتُهُ وعَلَيْهِ سَيِّئاتُهُ، واللَّهُ يَتَقَبَّلُ مِن كُلِّ مَنِ اتَّقى الشِّرْكَ. وقالَ أبُو صالِحٍ، وشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَكْسَ هَذا القَوْلِ: ضَمِيرُ الفاعِلِ يَعُودُ عَلى الكَلِمِ، وضَمِيرُ النَّصْبِ عَلى العَمَلِ الصّالِحِ، أيْ يَرْفَعُهُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ. وقالَ قَتادَةُ: إنَّ الفاعِلَ هو ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اللَّهِ، والهاءُ لِلْعَمَلِ الصّالِحِ، أيْ يَرْفَعُهُ اللَّهُ إلَيْهِ، أيْ يَقْبَلُهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا أرْجَحُ الأقْوالِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُ عامِلَهُ ويُشَرِّفُهُ، فَجَعَلَهُ عَلى حَذْفٍ مُضافٍ. ويَجُوزُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ العَمَلُ مَعْطُوفًا عَلى الكَلِمِ الطَّيِّبِ، أيْ يَصْعَدانِ إلى اللَّهِ، ويَرْفَعُهُ اسْتِئْنافُ إخْبارٍ، أيْ يَرْفَعُهُما اللَّهُ، ووَحَّدَ الضَّمِيرَ لِاشْتِراكِهِما في الصُّعُودِ، والضَّمِيرُ قَدْ يَجْرِي مَجْرى اسْمِ الإشارَةِ، فَيَكُونُ لَفْظُهُ مُفْرَدًا، والمُرادُ بِهِ التَّثْنِيَةُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ صُعُودُهُما مِن ذاتِهِما، بَلْ ذَلِكَ بِرَفْعِ اللَّهِ إيّاهُما. وقَرَأ عِيسى، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: والعَمَلَ الصّالِحَ، بِنَصْبِهِما عَلى الِاشْتِغالِ، فالفاعِلُ ضَمِيرُ الكَلِمِ أوْ ضَمِيرُ اللَّهِ، ومَكَرَ لازِمٌ، (والسَّيِّئاتِ) نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيِ المَكِراتِ السَّيِّئاتِ، أوِ المُضافِ إلى المَصْدَرِ، أيْ أضافَ المَكْرَ إلى السَّيِّئاتِ، أوْ ضَمَّنَ يَمْكُرُونَ مَعْنى، يَكْتَسِبُونَ، فَنَصَبَ السَّيِّئاتِ مَفْعُولًا بِهِ. وإذا كانَتِ (السَّيِّئاتِ) نَعْتًا لِمَصْدَرٍ، أوْ لِمُضافٍ لِمَصْدَرٍ، فالظّاهِرُ أنَّهُ عَنى بِهِ مَكِراتِ قُرَيْشٍ في دارِ النَّدْوَةِ، إذْ تَذاكَرُوا إحْدى ثَلاثِ مَكِراتٍ، وهي المَذْكُورَةُ في الأنْفالِ: إثْباتُهُ، أوْ قَتْلُهُ، أوْ إخْراجُهُ؛ و﴿أُولَئِكَ﴾ إشارَةٌ إلى الَّذِينَ مَكَرُوا تِلْكَ المَكِراتِ.
﴿يَبُورُ﴾ أيْ يَفْسِدُ ويَهْلِكُ دُونَ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ، إذْ أخْرَجَهم مِن مَكَّةَ وقَتَلَهم وأثْبَتَهم في قَلِيبِ بَدْرٍ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مَكِراتِهِمْ جَمِيعًا وحَقَّقَ فِيهِمْ قَوْلَهُ ﴿ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ [الأنفال: ٣٠]، وقَوْلَهُ ﴿ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلّا بِأهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣]، وهو مُبْتَدَأٌ، أوْ يَبُورُ خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ ﴿ومَكْرُ أُولَئِكَ﴾ . وأجازَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ هو فاصِلَةً، ويَبُورُ خَبَرٌ، ومَكْرُ أُولَئِكَ والفاصِلَةُ لا يَكُونُ ما يَكُونُ ما بَعْدَها فِعْلًا، ولَمْ يَذْهَبْ إلى ذَلِكَ أحَدٌ فِيما عَلِمْناهُ إلّا عَبْدُ القاهِرِ الجُرْجانِيُّ في شَرْحِ الإيضاحِ لَهُ، فَإنَّهُ أجازَ في كانَ زَيْدٌ هو يَقُومُ أنْ يَكُونَ هو فَصْلًا ورُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
﴿واللَّهُ خَلَقَكم مِن تُرابٍ﴾ مِن حَيْثُ خَلَقَ أبِينا آدَمَ.
﴿ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ﴾ أيْ بِالتَّناسُلِ.
﴿ثُمَّ جَعَلَكم أزْواجًا﴾ أيْ أصْنافًا ذُكْرانًا وإناثًا، كَما قالَ ﴿أوْ يُزَوِّجُهم ذُكْرانًا وإناثًا﴾ [الشورى: ٥٠] . وقالَ قَتادَةُ: قَدَّرَ بَيْنَكُمُ الزَّوْجِيَّةَ، وزَوَّجَ بَعْضَكم بَعْضًا، ومِن في ﴿مِن مُعَمَّرٍ﴾ زائِدَةٌ، وسَمّاهُ بِما يَؤُولُ إلَيْهِ، وهو الطَّوِيلُ العُمُرِ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿مِن عُمُرِهِ﴾ عائِدٌ عَلى مُعَمَّرٍ لَفْظًا ومَعْنًى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: يَعُودُ عَلى مُعَمَّرٍ الَّذِي هو اسْمُ جِنْسٍ، والمُرادُ غَيْرُ الَّذِي يُعَمَّرُ، فالقَوْلُ تَضَمَّنَ شَخْصَيْنِ: يُعَمَّرُ أحَدُهُما مِائَةَ سَنَةٍ، ويُنْقَصُ مِنَ الآخَرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وابْنُ جُبَيْرٍ، وأبُو مالِكٍ: المُرادُ شَخْصٌ واحِدٌ، أيْ يُحْصِي ما مَضى مِنهُ إذْ مَرَّ حَوْلٌ كَتَبَ ذَلِكَ ثُمَّ حَوْلٌ، فَهَذا هو النَّقْصُ، وقالَ الشّاعِرُ:
؎حَياتُكَ أنْفاسٌ تُعَدُّ فَكُلَّما ∗∗∗ مَضى نَفَسٌ مِنكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءا
وقالَ كَعْبُ الأحْبارِ: مَعْنى ﴿ولا يُنْقَصُ مِن عُمُرِهِ﴾ لا يَخْتَرِمُ بِسَبَبِهِ قُدَرَةُ اللَّهِ، ولَوْ شاءَ لَأخَّرَ ذَلِكَ السَّبَبَ. ورُوِيَ أنَّهُ قالَ، لَمّا طُعِنَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ دَعا اللَّهَ لَزادَ في أجَلِهِ، فَأنْكَرَ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وقالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ ﴿فَإذا جاءَ أجَلُهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤]، فاحْتُجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو قَوْلٌ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ يَقْتَضِي القَوْلَ بِالأجَلَيْنِ، وبِنَحْوِهِ تَمَسَّكَ المُعْتَزِلَةُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ولا يُنْقَصُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ يَعْقُوبُ، وسَلّامٌ، وعَبْدُ الوارِثِ، وهارُونُ، كِلاهُما عَنْ أبِي عَمْرٍو: ولا يَنْقُصُ، مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وقَرَأ الحَسَنُ ﴿مِن عُمُرِهِ إلّا في كِتابٍ﴾ . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِكِتابِ اللَّهِ عِلْمُ اللَّهِ، أوْ صَحِيفَةُ الإنْسانِ. انْتَهى.
﴿وما يَسْتَوِي البَحْرانِ﴾ هَذِهِ آيَةٌ أُخْرى يُسْتَدَلُّ بِها عَلى كُلِّ عاقِلٍ أنَّهُ مِمّا لا مَدْخَلَ لِصَنَمٍ فِيهِ. وتَقَدَّمَ شَرْحُ: (p-٣٠٥)﴿هَذا عَذْبٌ فُراتٌ﴾، وشَرْحُ ﴿وهَذا مِلْحٌ أُجاجٌ﴾ في سُورَةِ الفُرْقانِ. وهُنا بَيْنَ القِسْمَيْنِ صِفَةٌ لِلْعَرَبِ، وبَيْنَ قَوْلِهِ ﴿سائِغٌ شَرابُهُ﴾ . وقَرَأ الجُمْهُورُ: سائِغٌ، اسْمُ فاعِلٍ مِن ساغَ. وقَرَأ عِيسى: (سَيِّغٌ) عَلى وزْنِ فَيْعِلٍ، كَمَيِّتٍ؛ وجاءَ كَذَلِكَ عَنْ أبِي عَمْرٍو وعاصِمٍ. وقَرَأ عِيسى أيْضًا: (سَيْغٌ) مُخَفَّفًا مِنَ المُشَدَّدِ، كَمَيْتٍ مُخَفَّفِ مَيِّتٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: مِلْحٌ، وأبُو نَهِيكٍ وطَلْحَةُ: بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ اللّامِ، وقالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: وهي لُغَةٌ شاذَّةٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَقْصُورًا مِن مالِحٍ، فَحُذِفَ الألِفُ تَخْفِيفًا. وقَدْ يُقالُ: ماءٌ مِلْحٌ في الشُّذُوذِ، وفي المُسْتَعْمَلِ: مَمْلُوحٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ضَرَبَ البَحْرَيْنِ، العَذْبَ والمِلْحَ، مَثَلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِ والكافِرِ. ثُمَّ قالَ عَلى صِفَةِ الِاسْتِطْرادِ في صِفَةِ البَحْرَيْنِ وما عُلِّقَ بِها: مِن نِعْمَتِهِ وعَطائِهِ.
﴿ومِن كُلٍّ﴾، (مِن) شَرَحَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ألْفاظًا مِنَ الآيَةِ تَكَرَّرَتْ في سُورَةِ النَّحْلِ. ثُمَّ قالَ: ويَحْتَمِلُ غَيْرَ طَرِيقَةِ الِاسْتِطْرادِ، وهو أنْ يُشَبِّهَ الجِنْسَيْنِ بِالبَحْرَيْنِ، ثُمَّ يُفَضِّلَ البَحْرَ الأُجاجَ عَلى الكافِرِ، بِأنَّهُ قَدْ شارَكَ العَذْبَ في مَنافِعَ مِنَ السَّمَكِ واللُّؤْلُؤِ، وجَرْيِ الفُلْكِ فِيهِ. ولِلْكافِرِ خُلُوٌّ مِنَ النَّفْعِ، فَهو في طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكم مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٧٤] الآيَةَ. انْتَهى.
﴿لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ يُرِيدُ التِّجاراتِ والحَجَّ والغَزْوَ، أوْ كُلَّ سَفَرٍ لَهُ وجْهٌ شَرْعِيٌّ.
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ﴾ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الجُمَلِ. ولَمّا ذَكَرَ أشْياءَ كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلى قُدْرَتِهِ الباهِرَةِ، مِن إرْسالِ الرِّياحِ، والإيجادِ مِن تُرابٍ وما عُطِفَ عَلَيْهِ، وإيلاجِ اللَّيْلِ في النَّهارِ، وتَسْخِيرِ الشَّمْسِ والقَمَرِ؛ أشارَ إلى أنَّ المُتَّصِفَ بِهَذِهِ الأفْعالِ الغَرِيبَةِ هو اللَّهُ فَقالَ ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لَهُ المُلْكُ﴾، وهي أخْبارٌ مُتَرادِفَةٌ؛ والمُبْتَدَأُ ﴿ذَلِكُمُ﴾، و﴿اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ خَبَرانِ، و﴿لَهُ المُلْكُ﴾ جُمْلَةُ مُبْتَدَأٍ في قِرانِ قَوْلِهِ ﴿والَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ في حُكْمِ الإعْرابِ إيقاعُ اسْمِ اللَّهِ صِفَةً لِاسْمِ الإشارَةِ وعَطْفَ بَيانٍ، ورَبُّكم خَبَرٌ، لَوْلا أنَّ المَعْنى يَأْباهُ. انْتَهى. أمّا كَوْنُهُ صِفَةً، فَلا يَجُوزُ؛ لِأنَّ اللَّهَ عَلَمٌ، والعَلَمُ لا يُوصَفُ بِهِ، ولَيْسَ اسْمَ جِنْسٍ كالرَّجُلِ، فَتُتَخَيَّلُ فِيهِ الصِّفَةُ. وأمّا قَوْلُهُ: لَوْلا أنَّ المَعْنى يَأْباهُ، فَلا يَظْهَرُ أنَّ المَعْنى يَأْباهُ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ قَدْ أخْبَرَ بِأنَّ المُشارَ إلَيْهِ بِتِلْكَ الصِّفاتِ والأفْعالِ المَذْكُورَةِ رَبُّكم، أيْ مالِكُكم، أوْ مُصْلِحُكم، وهَذا مَعْنًى لائِقٌ سائِغٌ، والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هي الأوْثانُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: تَدْعُونَ، بِتاءِ الخِطابِ، وعِيسى، وسَلّامٌ، ويَعْقُوبُ: بِياءِ الغَيْبَةِ. وقالَ صاحِبُ الكامِلِ أبُو القاسِمِ بْنُ جُبارَةَ: يَدْعُونَ بِالياءِ، اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو وسَلّامٌ، والنَّهاوَنْدِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، وابْنُ الجَلّاءِ عَنْ نُصَيْرٍ، وابْنُ حَبِيبٍ وابْنُ يُونُسَ عَنِ الكِسائِيِّ، وأبُو عُمارَةَ عَنْ حَفْصٍ. والقِطْمِيرُ، تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وقالَ جُوَيْبِرٌ عَنْ رِجالِهِ، والضَّحّاكُ: هو القُمْعُ الَّذِي في رَأْسِ التَّمْرَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: لِفافَةُ النَّواةِ؛ وقِيلَ: الَّذِي بَيْنَ قُمْعِ التَّمْرَةِ والنَّواةِ؛ وقِيلَ: قِشْرُ الثَّوْمِ؛ وأيًّا ما كانَ، فَهو تَمْثِيلٌ لِلْقَلِيلِ، وقالَ الشّاعِرُ:
؎وأبُوكَ يُخَفِّفُ نَعْلَهُ مُتَوَرِّكًا ∗∗∗ ما يَمْلِكُ المِسْكِينُ مِن قِطْمِيرِ
﴿لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ﴾؛ لِأنَّهم جَمادٌ؛ ﴿ولَوْ سَمِعُوا﴾، هَذا عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ؛ ﴿ما اسْتَجابُوا لَكُمْ﴾؛ لِأنَّهم لا يَدَّعُونَ لَهم مِنَ الإلَهِيَّةِ، ويَتَبَرَّءُونَ مِنها. وقِيلَ: ما نَفَعُوكم، وأضافَ المَصْدَرَ: في شِرْكِكم، أيْ بِإشْراكِكم لَهم مَعَ اللَّهِ في عِبادَتِكم إيّاهم كَقَوْلِهِ ﴿ما كُنْتُمْ إيّانا تَعْبُدُونَ﴾ [يونس: ٢٨]، فَهي إضافَةٌ إلى الفاعِلِ. وقَوْلُهُ ﴿يَكْفُرُونَ﴾، يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِما يَظْهَرُ هُنالِكَ مِن جُمُودِها وبُطْئِها عِنْدَ حَرَكَةِ ناطِقٍ، ومُدافَعَةِ كُلِّ مُحْتَجٍّ، فَيَجِيءُ هَذا عَلى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ، كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:
؎وقَفْتُ عَلى رَبْعٍ لِمَيَّةَ ناطِقٍ ∗∗∗ تُخاطِبُنِي آثارُهُ وأُخاطِبُهْ
؎وأسْقِيهِ حَتّى كادَ مِمّا أبُثُّهُ ∗∗∗ تُكَلِّمُنِي أحْجارُهُ ومَلاعِبُهْ
﴿ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾، قالَ قَتادَةُ وغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ: الخَبِيرُ هُنا أرادَ بِهِ تَعالى نَفْسَهُ، فَهو الخَبِيرُ (p-٣٠٦)الصّادِقُ الخَبَرِ، نَبَّأ بِهَذا، فَلا شَكَّ في وُقُوعِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ مِن تَمامِ ذِكْرِ الأصْنامِ، كَأنَّهُ قالَ: فَلا يُخْبِرُكَ مِثْلُ مَن يُخْبِرُكَ عَنْ نَفْسِهِ، أيْ لا يَصْدُقُ في تَبَرُّئِها مِن شِرْكِكم مِنها، فَيُرِيدُ بِالخَبِيرِ عَلى هَذا المَثَلِ لَهُما، كَأنَّهُ قالَ: ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ عَنْ نَفْسِهِ، وهي قَدْ أخْبَرَتْ عَنْ نَفْسِها بِالكُفْرِ بِهَؤُلاءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لا يُخْبِرُكَ بِالأمْرِ مُخْبِرٌ، هو مِثْلُ خَبِيرٍ عالِمٍ بِهِ، يُرِيدُ أنَّ الخَبِيرَ بِالأمْرِ هو الَّذِي يُخْبِرُكَ بِالحَقِيقَةِ دُونَ سائِرِ المُخْبِرِينَ بِهِ. والمَعْنى: أنَّ هَذا الَّذِي أخْبَرْتُكم بِهِ مِن حالِ الأوْثانِ هو الحَقُّ، لِأنِّي خَبِيرٌ بِما أُخْبِرُ بِهِ. وقالَ في التَّجْرِيدِ: يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطابًا لِلرَّسُولِ لَمّا أُخْبِرَ بِأنَّ الخَشَبَ والحَجَرَ يَوْمَ القِيامَةِ يَنْطِقُ ويُكَذِّبُ عابِدَهُ، وهو أمْرٌ لا يُعْلَمُ بِالعَقْلِ المُجَرَّدِ لَوْلا إخْبارُ اللَّهِ عَنْهُ، قالَ تَعالى (إنَّهم بِرَبِّهِمْ يَكْفُرُونَ)، أيْ يَكْفُرُونَ بِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، وهَذا القَوْلُ مَعَ كَوْنِ المُخْبَرِ عَنْهُ أمْرًا عَجِيبًا هو كَما قالَ؛ لِأنَّ المُخْبِرَ عَنْهُ خَبِيرٌ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ خِطابًا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأحَدٍ، أيْ هَذا الَّذِي ذُكِرَ هو كَما ذَكَرَ، لا يُنَبِّئُكَ أيُّها السّامِعُ كائِنًا مَن كُنْتَ مِثْلُ خَبِيرٍ.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["وَٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ ٱلرِّیَـٰحَ فَتُثِیرُ سَحَابࣰا فَسُقۡنَـٰهُ إِلَىٰ بَلَدࣲ مَّیِّتࣲ فَأَحۡیَیۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَ ٰلِكَ ٱلنُّشُورُ","مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِیعًاۚ إِلَیۡهِ یَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّیِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ یَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِینَ یَمۡكُرُونَ ٱلسَّیِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدࣱۖ وَمَكۡرُ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُوَ یَبُورُ","وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابࣲ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةࣲ ثُمَّ جَعَلَكُمۡ أَزۡوَ ٰجࣰاۚ وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَمَا یُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرࣲ وَلَا یُنقَصُ مِنۡ عُمُرِهِۦۤ إِلَّا فِی كِتَـٰبٍۚ إِنَّ ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرࣱ","وَمَا یَسۡتَوِی ٱلۡبَحۡرَانِ هَـٰذَا عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ سَاۤىِٕغࣱ شَرَابُهُۥ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجࣱۖ وَمِن كُلࣲّ تَأۡكُلُونَ لَحۡمࣰا طَرِیࣰّا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡیَةࣰ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِیهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُوا۟ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ","یُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَیُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۚ وَٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا یَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِیرٍ","إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا یَسۡمَعُوا۟ دُعَاۤءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُوا۟ مَا ٱسۡتَجَابُوا۟ لَكُمۡۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا یُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِیرࣲ"],"ayah":"وَٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ ٱلرِّیَـٰحَ فَتُثِیرُ سَحَابࣰا فَسُقۡنَـٰهُ إِلَىٰ بَلَدࣲ مَّیِّتࣲ فَأَحۡیَیۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَ ٰلِكَ ٱلنُّشُورُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق