الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿واللهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأحْيَيْنا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذَلِكَ النُشُورُ﴾ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةَ جَمِيعًا إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَيِّبُ والعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ والَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَيِّئاتِ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ ومَكْرُ أُولَئِكَ هو يَبُورُ﴾
هَذِهِ آيَةُ احْتِجاجٍ عَلى الكَفَرَةِ في إنْكارِ البَعْثِ مِنَ القُبُورِ، فَدَلَّهم تَعالى عَلى المِثالِ الَّذِي يُعايِنُونَهُ وهو سَواءٌ مَعَ إحْياءِ المَوْتى. و"البَلَدُ المَيِّتُ" هو الَّذِي لا نَبْتَ فِيهِ، قَدِ اغْبَرَّ مِنَ القَحْطِ، فَإذا أصابَهُ الماءُ مِنَ السَحابِ اخْضَرَّ وأنْبَتَ، فَتِلْكَ حَياتُهُ، و"النُشُورُ" مَصْدَرُ: نَشَرَ المَيِّتُ إذا حَيِيَ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى:
؎ يا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ الناشِرِ
(p-٢٠٥)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ﴾ يَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ مَعانٍ: أحَدُها أنْ يُرِيدَ: مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ بِمُغالَبَةٍ فَلِلَّهِ العِزَّةُ، أيْ: لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، ولا تَتِمُّ إلّا لَهُ، وهَذا المُغالِبُ مَغْلُوبٌ، ونَحا إلَيْهِ مُجاهِدٌ، وقالَ: مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ بِعِبادَةِ الأوثانِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا تَمَسُّكٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهم عِزًّا﴾ [مريم: ٨١].
والمَعْنى الثانِي: مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ وطَرِيقَها القَوِيمَ، ويُحِبُّ نَيْلَها عَلى وجْهِها، فَلِلَّهِ العِزَّةُ، أيْ: بِهِ وعن أمْرِهِ، لا تُنالُ عِزَّتُهُ إلّا بِطاعَتِهِ، ونَحا إلَيْهِ قَتادَةُ.
والمَعْنى الثالِثُ - وقالَهُ الفَرّاءُ -: مَن كانَ يُرِيدُ عِلْمَ العِزَّةِ فَلِلَّهِ العِزَّةُ، أيْ: هو المُتَّصِفُ بِها. و"جَمِيعًا" حالٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَيِّبُ﴾ أيِ التَوْحِيدُ والتَمْجِيدُ وذِكْرُ اللهِ ونَحْوُهُ. وقَرَأ الضَحّاكُ: "يُصْعَدُ" بِضَمِّ الياءِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "الكَلِمُ" وهو جَمْعُ كَلِمَةٍ، وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ: "الكَلامُ"، و"الطَيِّبُ": الَّذِي يُسْتَحْسَنُ سَماعُهُ الِاسْتِحْسانَ الشَرْعِيَّ. وقالَ كَعْبُ الأحْبارِ: إنَّ لـِ"سُبْحانَ اللهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللهُ، واللهُ أكْبَرُ" لَدَوِيًّا حَوْلَ العَرْشِ كَدَوِيِّ النَحْلِ، تُذَكِّرُ بِصاحِبِها.
(p-٢٠٦)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، اخْتَلَفَ الناسُ في الضَمِيرِ، عَلى مَن يَعُودُ؟ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: يَعُودُ عَلى "العَمَلِ"، واخْتَلَفَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ: فَقالَ قَوْمٌ: الفاعِلُ بـِ"يَرْفَعُ" هو "الكَلِمُ"، أيْ: والعَمَلُ يَرْفَعُهُ الكَلِمُ، وهو قَوْلُ: "لا إلَهَ إلّا اللهُ"؛ لِأنَّهُ لا يَرْتَفِعُ عَمَلٌ إلّا بِتَوْحِيدٍ. وقالَ بَعْضُهُمُ: الفِعْلُ مُسْنَدٌ إلى اللهِ تَعالى، أيْ: والعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ هُوَ، وهَذا أرْجَحُ الأقْوالِ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، ومُجاهِدُ، وقَتادَةُ: الضَمِيرُ في "يَرْفَعُهُ" عائِدٌ عَلى "الكَلِمِ"، أيْ: إنَّ العَمَلَ الصالِحَ هو يَرْفَعُ الكَلِمَ، واخْتَلَفَتْ عِباراتُ أهْلُ هَذِهِ المَقالَةِ، فَقالَ بَعْضُها: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ العَبْدَ إذا ذَكَرَ اللهَ تَعالى، وقالَ كَلامًا طَيِّبًا، وأدّى فَرائِضَهُ، ارْتَفَعَ قَوْلُهُ مَعَ عَمَلِهِ، وإذا قالَ - ولَمْ يُؤَدِّ فَرائِضَهُ - رُدَّ قَوْلُهُ عَلى عَمَلِهِ وقِيلَ: عَمَلُهُ أولى بِهِ. وهَذا قَوْلٌ يَرُدُّهُ مُعْتَقَدُ أهْلِ الحَقِّ والسُنَةِ، ولا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، والحَقُّ أنَّ العاصِي التارِكَ لِلْفَرائِضِ إذا ذَكَرَ اللهَ تَعالى، وقالَ كَلامًا طَيِّبًا فَإنَّهُ مَكْتُوبٌ لَهُ، مُتَقَبَّلٌ مِنهُ، ولَهُ حَسَناتُهُ، وعَلَيْهِ سَيِّئاتُهُ، واللهُ يَتَقَبَّلُ مِن كُلِّ مَنِ اتَّقى الشِرْكَ، وأيْضًا فَإنَّ الكَلِمَ الطَيِّبَ عَمَلٌ صالِحٌ، وإنَّما يَسْتَقِيمُ قَوْلُ مَن يَقُولُ: "إنَّ العَمَلَ هو الرافِعُ لَلْكَلِمِ" بِأنْ يَتَأوَّلَ أنَّهُ يَزِيدُ في رَفْعِهِ وحُسْنِ مَوْقِعِهِ إذا تَعاضَدَ مَعَهُ؛ كَما أنَّ صاحِبَ الأعْمالِ مِن صَلاةٍ وصِيامٍ وغَيْرِ ذَلِكَ - إذا تَخَلَّلَ أعْمالُهُ كَلِمٌ طَيِّبٌ، وذِكْرٌ لِلَّهِ - كانَتِ الأعْمالُ، أشْرَفَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿والعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ مَوْعِظَةً وتَذْكِرَةً وحَضًّا عَلى الأعْمالِ. وذَكَرَ الثَعْلَبِيُّ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: « "لا يَقْبَلُ اللهُ قَوْلًا إلّا بِعَمَلٍ، ولا عَمَلَ إلّا بِنِيَّةٍ"،» ومَعْناهُ: قَوْلًا يَتَضَمَّنُ أنَّ قائِلَهُ عَمِلَ (p-٢٠٧)عَمَلًا، أو يَعْمَلُهُ في الآنِفِ، وأمّا الأقْوالُ الَّتِي هي أعْمالٌ في نُفُوسِها - كالتَوْحِيدِ والتَسْبِيحِ - فَمَقْبُولَةٌ عَلى ما قَدَّمْناهُ.
وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "والعَمَلَ الصالِحَ" بِالنَصْبِ فِيهِما، وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ فـَ"يَرْفَعُهُ" مُسْنَدٌ إمّا إلى اللهِ تَعالى، وإمّا إلى "الكَلِمِ"، والضَمِيرُ في "يَرْفَعُهُ" عائِدٌ عَلى العَمَلِ لا غَيْرُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَمْكُرُونَ السَيِّئاتِ﴾ إمّا أنَّهُ عَدّى "يَمْكُرُونَ" لَمّا أحَلَّهُ مَحَلَّ "يَكْسِبُونَ"، وإمّا أنَّهُ حَذَفَ المَفْعُولَ وأقامَ صِفَتَهُ مَقامَهُ، وتَقْدِيرُهُ: يَمْكُرُونَ المَكَراتِ السَيِّئاتِ، و"يَمْكُرُونَ" مَعْناهُ: يَتَخابَثُونَ ويَخْدَعُونَ وهم يُظْهِرُونَ أنَّهم لا يَفْعَلُونَ.
و"يَبُورُ" مَعْناهُ: يَفْسُدُ ويَبْقى لا نَفْعَ فِيهِ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: يَدْخُلُ في الآيَةِ أهْلُ الرِياءِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ونُزُولُ الآيَةِ أوَّلًا في المُشْرِكِينَ.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["وَٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ ٱلرِّیَـٰحَ فَتُثِیرُ سَحَابࣰا فَسُقۡنَـٰهُ إِلَىٰ بَلَدࣲ مَّیِّتࣲ فَأَحۡیَیۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَ ٰلِكَ ٱلنُّشُورُ","مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِیعًاۚ إِلَیۡهِ یَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّیِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ یَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِینَ یَمۡكُرُونَ ٱلسَّیِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدࣱۖ وَمَكۡرُ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُوَ یَبُورُ"],"ayah":"وَٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ ٱلرِّیَـٰحَ فَتُثِیرُ سَحَابࣰا فَسُقۡنَـٰهُ إِلَىٰ بَلَدࣲ مَّیِّتࣲ فَأَحۡیَیۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَ ٰلِكَ ٱلنُّشُورُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق