الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ وقَفَّيْنا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وآتَيْنا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّناتِ وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ ﴿وقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿ولَمّا جاءَهم كِتابٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهم وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الكافِرِينَ﴾ ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم أنْ يَكْفُرُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ فَباءُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ [البقرة: ٩٠] ﴿وإذا قِيلَ لَهم آمِنُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا ويَكْفُرُونَ بِما وراءَهُ وهو الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١] ﴿ولَقَدْ جاءَكم مُوسى بِالبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُونَ﴾ [البقرة: ٩٢] ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ واسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وعَصَيْنا وأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكم بِهِ إيمانُكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩٣] ﴿قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِن دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤] ﴿ولَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبَدًا بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٩٥] ﴿ولَتَجِدَنَّهم أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا يَوَدُّ أحَدُهم لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ وما هو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذابِ أنْ يُعَمَّرَ واللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٩٦] قَفَوْتُ الأثَرَ: اتَّبَعْتُهُ، والأصْلُ أنْ يَجِيءَ الإنْسانُ تابِعًا لِقَفا الَّذِي اتَّبَعَهُ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتّى صارَ لِمُطْلَقِ الِاتِّباعِ، وإنْ بَعُدَ زَمانُ المَتْبُوعِ، مِن زَمانِ التّابِعِ. وقالَ أُمَيَّةُ:(p-٢٩٧) ؎قالَتْ لِأُخْتٍ لَهُ قُصِّيهِ عَنْ جُنُبٍ وكَيْفَ تَقْفُو ولا سَهْلٌ ولا جَدَدُ الرُّسُلُ : جَمْعُ رَسُولٍ، ولا يَنْقاسُ فُعُلٌ في فَعَوْلٍ بِمَعْنى مَفْعُولٍ. وتَسْكِينُ عَيْنِهِ لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ، والتَّحْرِيكُ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ. عِيسى: اسْمٌ أعْجَمِيٌّ عَلَمٌ لا يُصْرَفُ لِلْعُجْمَةِ والعَلَمِيَّةِ، ووَزْنُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: فِعْلى، والياءُ فِيهِ مُلْحَقَةٌ بِبَناتِ الأرْبَعَةِ، بِمَنزِلَةِ ياءِ مِعْزى، يَعْنِي بِالياءِ الألِفَ، سَمّاها ياءً لِكِتابَتِهِمْ إيّاها ياءً. قالَ أبُو عَلِيٍّ: ولَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ، كالَّتِي في ذِكْرى، بِدَلالَةِ صَرْفِهِمْ لَهُ في النَّكِرَةِ. وذَهَبَ الحافِظُ أبُو عُمْرٍو عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّانِيُّ، صاحِبُ التَّصانِيفِ في القِراءاتِ، وعُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ وغَيْرُهُ، إلى أنَّ وزْنَهُ فِعْلَلٌ، ورَدَّ ذَلِكَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ بْنُ الباذَشِ بِأنَّ الياءَ والواوَ لا يَكُونانِ أصْلًا في بَناتِ الأرْبَعِ. قالَ بَعْضُ أصْحابِنا: وهَذِهِ الأسْماءُ أعْجَمِيَّةٌ، وكُلُّ أعْجَمِيٍّ اسْتَعْمَلَتْهُ العَرَبُ، فالنَّحْوِيُّونَ يَتَكَلَّمُونَ عَلى أحْكامِهِ في التَّصْرِيفِ عَلى الحَدِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ في العَرَبِيِّ، فَعِيسى مِن هَذا البابِ. انْتَهى كَلامُهُ. ومَن زَعَمَ أنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ العَيْسِ: وهو بَياضٌ يُخالِطُهُ شُقْرَةٌ، فَغَيْرُ مُصِيبٍ؛ لِأنَّ الِاشْتِقاقَ العَرَبِيَّ لا يَدْخُلُ الأسْماءَ الأعْجَمِيَّةَ. مَرْيَمُ، بِاللِّسانِ السِّرْيانِيِّ مَعْناهُ: الخادِمُ، وسُمِّيَتْ بِهِ أُمُّ عِيسى، فَصارَ عَلَمًا، فامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ والعَلَمِيَّةِ. ومَرْيَمُ، بِاللِّسانِ العَرَبِيِّ مِنَ النِّساءِ، كالزِّيرِ مِنَ الرِّجالِ، وبِهِ فُسِّرَ قَوْلُ رُؤْبَةَ: ؎قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ والزِّيرُ: الَّذِي يُكْثِرُ خِلْطَةَ النِّساءِ وزِيارَتَهُنَّ، والياءُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِن واوٍ، كالرِّيحِ، إذْ هُما مِنَ الزَّوْرِ والرُّوحِ، فَصارَ هَذا اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بِالنِّسْبَةِ إلى اللِّسانَيْنِ. ووَزْنُ مَرْيَمَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مَفْعَلٌ؛ لِأنَّ فَعْيَلًا، بِفَتْحِ الفاءِ، لَمْ يَثْبُتْ في الأبْنِيَةِ، كَما ثَبَتَ نَحْوُ عَثْيَرٍ وعَلْبَبٍ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ: وقَدْ أثْبَتَ بَعْضُ النّاسِ فَعْيَلًا، وجَعَلَ مِنهُ ضَهْيَدًا، اسْمُ مَوْضِعٍ، ومَدْيَنَ، إذا جَعَلْنا مِيمَهُ أصْلِيَّةً، وضَهْياءَ مَقْصُورَةً مَصْرُوفَةً، وهي المَرْأةُ الَّتِي لا تَحِيضُ، وقِيلَ: الَّتِي لا ثَدْيَ لَها. قالَ أبُو عَمْرٍو الشَّيْبانِيُّ: ضَهْياةٌ وضَهْياءَةٌ، بِالقَصْرِ والمَدِّ. قالَ الزَّجّاجُ: اشْتِقاقُها مِن ضَأْهَأتْ: أيْ شابَهَتْ، لِأنَّها أشْبَهَتِ الرَّجُلَ. وقالَ ابْنُ جِنِّي: أمّا ضَهْيَدٌ وعَثْيَرٌ فَمَصْنُوعانِ، فَلا يُجْعَلانِ دَلِيلًا عَلى إثْباتِ فَعْيَلٍ. انْتَهى. وصِحَّةُ حَرْفِ العِلَّةِ في مَرْيَمَ عَلى خِلافِ القِياسِ نَحْوُ مَزْيَدٍ. البَيِّنُ: الواضِحُ، بانَ: وضَحَ وظَهَرَ. أيَّدَ: فَعَلَ تَأْيِيدًا، أوْ أيَّدَ: أفْعَلَ إئْيادًا، وكِلاهُما مِنَ الأيْدِ، وهو القُوَّةُ. وقَدْ أبْدَلُوا في أفْعَلَ مِن يائِهِ جِيمًا، قالُوا: أجَدُّ، أيْ قَوِيٌّ، كَما أبْدَلُوا ياءَ يَدٍ، قالُوا: لا أفْعَلُ ذَلِكَ جَدى الدَّهْرِ، يُرِيدُونَ يَدَ الدَّهْرِ، وهو إبْدالٌ لا يَطَّرِدُ. والأصْلُ في آيَدَ أأْيَدَ، وصُحِّحَتِ العَيْنُ كَما صُحِّحَتْ في أغْيَلَتْ، وهو تَصْحِيحٌ شاذٌّ إلّا في فِعْلِ التَّعَجُّبِ، فَتَقُولُ: ما أبْيَنَ ! وما أطْوَلَ ! ورَآهُ أبُو زَيْدٍ مَقِيسًا، ولَوْ أُعِلَّ عَلى حَدِّ أُقِّتَتْ وأُحِّدَتْ، فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ العَيْنِ عَلى الفاءِ، وحُذِفَتِ العَيْنُ، لَوَجَبَ أنْ تَنْقَلِبَ الفاءُ واوًا لِتَحَرُّكِها وانْفِتاحِ ما قَبْلَها، كَما انْقَلَبَتْ في أوادِمَ جَمْعُ آدَمَ عَلى أفاعِلَ، ثُمَّ تَنْقَلِبُ الواوُ ألِفًا لِتَحَرُّكِها وانْفِتاحِ ما قَبْلَها. فَلَمّا أدّى القِياسُ إلى إعْلالِ الفاءِ والعَيْنِ، رُفِضَ وصُحِّحَتِ العَيْنُ. الرُّوحُ مِنَ الحَيَوانِ: اسْمٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الحَياةُ، قالَهُ الرّاغِبُ، واخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ وفي النَّفْسِ، أهُما مِنَ المُشْتَرَكِ أمْ مِنَ المُتَبايِنِ ؟ وفي ماهِيَّةِ النَّفْسِ والرُّوحِ، وقَدْ صُنِّفَ في ذَلِكَ. القُدُسُ: الطَّهارَةُ، وقِيلَ: البَرَكَةُ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ عِنْدَ الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠]، الرَّسُولُ، فَعُولٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ، أيِ المُرْسَلُ، وهو قَلِيلٌ، ومِنهُ: الحَلُوبُ، والرَّكُوبُ، بِمَعْنى المَحْلُوبِ والمَرْكُوبِ. تَهْوى: تُحِبُّ وتَخْتارُ، ماضِيهِ عَلى فَعِلَ، ومَصْدَرُهُ الهَوى. غُلْفٌ: جَمْعُ أغْلَفَ، كَأحْمَرَ وحُمْرٍ، وهو الَّذِي لا يَفْقَهُ، أوْ جَمْعُ غِلافٍ، وهو الغِشاءُ، فَيَكُونُ أصْلُهُ التَّثْقِيلَ، فَخُفِّفَ. اللَّعْنُ: الطَّرْدُ والإبْعادُ، يُقالُ: شَأْوٌ لَعِينٌ، أيْ بَعِيدٌ، وقالَ الشَّمّاخُ: ؎ذَعَرْتُ بِهِ القَطا ونَفَيْتُ عَنْهُ ∗∗∗ مَقامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللَّعِينِ المَعْرِفَةُ: العِلْمُ المُتَعَلِّقُ بِالمُفْرَداتِ، ويَسْبِقُهُ الجَهْلُ، بِخِلافِ أصْلِ العِلْمِ فَإنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالنَّسَبِ، وقَدْ لا يَسْبِقُهُ (p-٢٩٨)الجَهْلُ، ولِذَلِكَ لَمْ يُوصَفِ اللَّهُ تَعالى بِالمَعْرِفَةِ، ووُصِفَ بِالعِلْمِ. بِئْسَ: فِعْلٌ جُعِلَ لِلذَّمِّ، وأصْلُهُ فَعِلَ، ولَهُ ولِنِعْمَ بابٌ مَعْقُودٌ في النَّحْوِ. البَغْيُ: الظُّلْمُ، وأصْلُهُ الفَسادُ، مِن قَوْلِهِمْ: بَغى الجُرْحُ: فَسَدَ، قالَهُ الأصْمَعِيُّ، وقِيلَ: أصْلُهُ شِدَّةُ الطَّلَبِ، ومِنهُ ما نَبْغِي، وقَوْلُ الرّاجِزِ: ؎أنْشَدَ والباغِي يُحِبُّ الوِجْدانْ ∗∗∗ قَلائِصًا مُخْتَلِفاتِ الألْوانْ ومِنهُ سُمِّيَتِ الزّانِيَةُ بَغِيًّا، لِشِدَّةِ طَلَبِها لِلزِّنا. الإهانَةُ: الإذْلالُ، وهانَ هَوانًا: لَمْ يُحْفَلْ بِهِ، وهو مَعْنى الذُّلِّ، وهو كَوْنُ الإنْسانِ لا يُؤْبَهُ بِهِ، ولا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وراءَ: مِنَ الظُّرُوفِ المُتَوَسِّطَةِ التَّصَرُّفِ، وتَكُونُ بِمَعْنى قُدّامَ، وبِمَعْنى: خَلْفَ، وهو الأشْهَرُ فِيهِ. الخالِصُ: الَّذِي لا يَشُوبُهُ شَيْءٌ، يُقالُ: خَلَصَ يَخْلُصُ خُلُوصًا. تَمَنّى: تَفَعَّلَ مِنَ المُنْيَةِ، وهو الشَّيْءُ المُشْتَهى، وقَدْ يَكُونُ المُتَمَنّى بِاللِّسانِ بِمَعْنى: التِّلاوَةِ، ومِنهُ: تَمَنّى عَلى زَيْدٍ مِنهُ حاجَةً، وجَدَ: مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الإصابَةِ والعِلْمِ والغِنى والحَرَجِ ويَخْتَلِفُ بِالمَصادِرِ: كالوِجْدانِ والوَجْدِ والمَوْجِدَةِ. الحِرْصُ: شِدَّةُ الطَّلَبِ. الوِدُّ: المَحَبَّةُ لِلشَّيْءِ والإيثارُ لَهُ، وفِعْلُهُ: ودَّ وهو عَلى فَعَلَ يَفْعَلُ، وحَكى الكِسائِيُّ: ودِدْتُ، فَعَلى هَذا يَجُوزُ كَسْرُ الواوِ، إذْ يَكُونُ فَعِلَ يَفْعَلُ، وفَكُّ الإدْغامِ في قَوْلِهِ: ؎ما في قُلُوبِهِمْ لَنا مِن مَوَدَّةٍ ضَرُورَةٌ. عَمَّرَ: التَّضْعِيفُ فِيهِ لِلنَّقْلِ، إذْ هو مِن عَمَّرَ الرَّجُلُ: أيْ طالَ عُمْرُهُ، وعَمَّرَهُ اللَّهُ: أطالَ عُمْرَهُ، والعُمْرُ: مُدَّةُ البَقاءِ. الألْفُ: عَشْرٌ مِنَ المِئِينَ، وقَدْ يُتَجاوَزُ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلى الشَّيْءِ الكَثِيرِ، وهو مِنَ الأُلْفَةِ، إذْ هو ما لَفَّ أنْواعَ الأعْدادِ، إذِ العَشَراتُ ما لَفَّ الآحادَ، والمِئُونَ ما لَفَّ العَشَراتِ، والألْفُ ما لَفَّ المِئِينَ. الزَّحْزَحَةُ: الإزالَةُ والتَّنْحِيَةُ عَنِ المَقَرِّ. بَصِيرٌ: فَعِيلٌ مِن بَصُرَ بِهِ إذا رَآهُ، ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ﴾ [القصص: ١١]، ثُمَّ يَتَجَوَّزُ بِهِ فَيُطْلَقُ عَلى بَصَرِ القَلْبِ، وهو العِلْمُ. بَصِيرٌ بِكَذا: أيْ عالِمٌ بِهِ. ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ في هَذِهِ اللّامِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ، وأنْ تَكُونَ جَوابَ قَسَمٍ. ومُناسَبَةُ هَذا لِما قَبْلَهُ أنَّ إيتاءَ مُوسى الكِتابَ هو نِعْمَةٌ لَهم، إذْ فِيهِ أحْكامُهم وشَرائِعُهم. ثُمَّ قابَلُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ بِالكُفْرانِ، وذَلِكَ جَرى عَلى ما سَبَقَ مِن عادَتِهِمْ، إذْ قَدْ أُمِرُوا بِأشْياءَ ونُهُوا عَنْ أشْياءَ، فَخالَفُوا أمْرَ اللَّهِ ونَهْيَهُ، فَناسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الآيَةِ ما قَبْلَها. والإيتاءُ: الإعْطاءُ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ: الإنْزالُ؛ لِأنَّهُ أنْزَلَهُ عَلَيْهِ جُمْلَةً واحِدَةً، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ آتَيْناهُ: أفْهَمْناهُ ما انْطَوى عَلَيْهِ مِنَ الحُدُودِ والأحْكامِ والأنْباءِ والقَصَصِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا فِيهِ، فَيَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ: آتَيْنا مُوسى عِلْمَ الكِتابِ، أوْ فَهْمَ الكِتابِ. ومُوسى: هو نَبِيُّ اللَّهِ مُوسى بْنُ عِمْرانَ، صَلّى اللَّهُ عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ وسَلَّمَ. والكِتابُ هُنا: التَّوْراةُ، في قَوْلِ الجُمْهُورِ، والألِفُ واللّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، إذْ قُرِنَ بِمُوسى وانْتِصابُهُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لَآتَيْنا. وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ مَفْعُولٌ أوَّلٌ عِنْدَ السُّهَيْلِيِّ، ومُوسى هو الثّانِي عِنْدَهُ. (وقَفَّيْنا): هَذِهِ الياءُ أصْلُها الواوُ، إلّا أنَّها مَتى وقَعَتْ رابِعَةً أُبْدِلَتْ ياءً، كَما تَقُولُ: غَزَيْتُ مِنَ الغَزْوِ، والتَّضْعِيفُ الَّذِي في قَفَّيْنا لَيْسَ لِلتَّعْدِيَةِ، إذْ لَوْ كانَ لِلتَّعْدِيَةِ لَكانَ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، لِأنَّ قَفَوْتَ يَتَعَدّى إلى واحِدٍ. تَقُولُ: قَفَوْتُ زَيْدًا، أيْ تَبِعْتُهُ، فَلَوْ جاءَ عَلى التَّعْدِيَةِ لَكانَ: وقَفَّيْناهُ مِن بَعْدِهِ الرُّسُلَ، وكَوْنُهُ لَمْ يَجِئْ كَذَلِكَ في القُرْآنِ، يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ الباءُ زائِدَةً في المَفْعُولِ الأوَّلِ، ويَكُونَ المَفْعُولُ الثّانِي جاءَ مَحْذُوفًا. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وقَفَّيْنا بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الحديد: ٢٧]، ولَكِنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنى جِئْنا، كَأنَّهُ قالَ: وجِئْنا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ، يَقْفُو بَعْضُهم بَعْضًا، ومِن في: (مِن بَعْدِهِ): لِابْتِداءِ الغايَةِ، وهو ظاهِرٌ؛ لِأنَّهُ يُحْكى أنَّ مُوسى لَمْ يَمُتْ حَتّى نُبِّئَ يُوشَعُ. ﴿بِالرُّسُلِ﴾: أرْسَلَ اللَّهُ عَلى أثَرِ مُوسى رُسُلًا وهم: يُوشَعُ، وشَمْوِيلُ، وشَمْعُونُ، وداوُدُ، وسُلَيْمانُ، وشَعْيا، وأرْمَيا، وعُزَيْرٌ، وحَزْقِيلُ، وإلْياسُ، واليَسْعُ، ويُونُسُ، وزَكَرِيّا، ويَحْيى، وغَيْرُهم. والباءُ في بِالرُّسُلِ مُتَعَلِّقٌ بِقَفَّيْنا، والألِفُ واللّامُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ الخاصِّ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، (p-٢٩٩)لِما اسْتُفِيدَ مِنَ القُرْآنِ وغَيْرِهِ أنَّ هَؤُلاءِ بُعِثُوا مِن بَعْدِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ التَّقْفِيَةُ مَعْنَوِيَّةً، وهي كَوْنُهم يَتَّبِعُونَهُ في العَمَلِ بِالتَّوْراةِ وأحْكامِها، ويُأْمَرُونَ بِاتِّباعِها والبَقاءِ عَلى التِزامِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِالرُّسُلِ بِضَمِّ السِّينِ. وقَرَأ الحَسَنُ ويَحْيى بْنُ يَعْمَرَ: بِتَسْكِينِها، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُما لُغَتانِ، ووافَقَهُما أبُو عَمْرٍو إنْ أُضِيفَ إلى ضَمِيرِ جَمْعٍ نَحْوُ رُسْلِهِمْ ورُسْلِكم ورُسْلِنا، اسْتُثْقِلَ تَوالِي أرْبَعِ مُتَحَرِّكاتٍ، فَسُكِّنَ تَخْفِيفًا. ﴿وآتَيْنا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ﴾: أضافَ عِيسى إلى أُمِّهِ رَدًّا عَلى اليَهُودِ فِيما أضافُوهُ إلَيْهِ. (البَيِّناتِ): وهي الحُجَجُ الواضِحَةُ الدّالَّةُ عَلى نُبُوَّتِهِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ مُعْجِزَةٍ أُوتِيَها عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهَذا هو الظّاهِرُ. وقِيلَ: الإنْجِيلُ. وقِيلَ: الحُجَجُ الَّتِي أقامَها اللَّهُ عَلى اليَهُودِ. وقِيلَ: إبْراءُ الأكْمَهِ والأبْرَصِ، والإخْبارُ بِالمُغَيَّباتِ، وإحْياءُ المَوْتى، وهم أرْبَعَةٌ: سامُ بْنُ نُوحٍ، والعازِرُ، وابْنُ العَجُوزِ، وبِنْتُ العِشارِ، ومِنَ الطَّيْرِ: الخُفّاشُ، فَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ مِن قَبْلِ عِيسى، بَلْ هو صُورَةٌ، واللَّهُ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ. وقِيلَ: كانَ قَبْلَهُ، فَوَضَعَ عِيسى عَلى مِثالِهِ. قالُوا: وإنَّما اخْتُصَّ هَذا النَّوْعُ مِنَ الطَّيْرِ لِأنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الطَّيْرِ أشَدَّ خَلْقًا مِنهُ؛ لِأنَّهُ لَحْمُ كُلُّهُ. وأجْمَلَ اللَّهُ ذِكْرَ الرُّسُلِ، وفَصَّلَ ذِكْرَ عِيسى؛ لِأنَّ مَن قَبْلَهُ كانُوا مُتَّبِعِينَ شَرِيعَةَ مُوسى، وأمّا عِيسى فَنَسَخَ شَرْعُهُ كَثِيرًا مِن شَرْعِ مُوسى. (وأيَّدْناهُ): قَرَأ الجُمْهُورُ عَلى وزْنِ فَعَّلْناهُ. وقَرَأ مُجاهِدٌ، والأعْرَجُ، وحُمَيْدٌ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وحُسَيْنٌ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: أأْيَدْناهُ، عَلى وزْنِ: أفْعَلْناهُ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ في المُفْرَداتِ، وفَرَّقَ بَعْضُهم بَيْنَهُما فَقالَ: أمّا المَدُّ فَمَعْناهُ القُوَّةُ، وأمّا القَصْرُ فالتَّأْيِيدُ والنَّصْرُ، والأصَحُّ أنَّهُما بِمَعْنى قَوَّيْناهُ، وكِلاهُما مِنَ الأيْدِ، وهو القُوَّةُ. * * * ﴿بِرُوحِ القُدُسِ﴾: قِراءَةُ الجُمْهُورِ: بِضَمِّ القافِ والدّالِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ وابْنُ كَثِيرٍ: بِسُكُونِ الدّالِ حَيْثُ وقَعَ، وفِيهِ لُغَةُ فَتْحِها. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: القُدُّوسُ، بِواوٍ. والرُّوحُ هُنا: اسْمُ اللَّهِ الأعْظَمُ الَّذِي كانَ بِهِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - يُحْيِي المَوْتى، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوِ الإنْجِيلُ، كَما سَمّى اللَّهُ القُرْآنَ رُوحًا، قالَ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشورى: ٥٢] قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أوِ الرُّوحُ الَّتِي نَفَخَها تَعالى في عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أوْ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَهُ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ والضَّحّاكُ والرَّبِيعُ، ونُسِبَ هَذا القَوْلُ لِابْنِ عَبّاسٍ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وهَذا أصَحُّ الأقْوالِ. وقَدْ «قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِحَسّانَ بْنِ ثابِتٍ ”اهْجُ قُرَيْشًا ورُوحُ القُدُسِ مَعَكَ“»، ومَرَّةً قالَ لَهُ؛ ”وجِبْرِيلُ مَعَكَ“ . انْتَهى كَلامُهُ. قالُوا: ويُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ [المائدة: ١١٠] . وقالَ حَسّانُ: ؎وجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللَّهِ فِينا ورُوحُ القُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفاءُ وتَسْمِيَةُ جِبْرِيلَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّ الغالِبَ عَلى جِسْمِهِ الرُّوحانِيَّةُ، وكَذَلِكَ سائِرُ المَلائِكَةِ، أوْ لِأنَّهُ يَحْيا بِهِ الدِّينُ، كَما يَحْيا البَدَنُ بِالرُّوحِ، فَإنَّهُ هو المُتَوَلِّي لِإنْزالِ الوَحْيِ، أوْ لِتَكْوِينِهِ رُوحًا مِن غَيْرِ وِلادَةٍ. وتَأْيِيدُ اللَّهِ عِيسى بِجِبْرِيلَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - لِإظْهارِ حُجَّتِهِ وأمْرِ دِينِهِ، أوْ لِدَفْعِ اليَهُودِ عَنْهُ، إذْ أرادُوا قَتْلَهُ، أوْ في جَمِيعِ أحْوالِهِ. واخْتارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ مَعْناهُ: بِالرُّوحِ المُقَدَّسَةِ، قالَ: كَما يُقالُ حاتِمُ الجُودِ، ورَجُلُ صِدْقٍ. ووَصَفَها بِالقُدُسِ كَما قالَ: و”رُوحٍ مِنهُ“، فَوَصَفَهُ بِالِاخْتِصاصِ والتَّقْرِيبِ لِلْكَرامَةِ. انْتَهى كَلامُهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى القُدُسِ أنَّهُ الطَّهارَةُ أوِ البَرَكَةُ. وقالَ مُجاهِدٌ والرَّبِيعُ: القُدُسُ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى، كالقُدُّوسِ. قالُوا: وإطْلاقُ الرُّوحِ عَلى جِبْرِيلَ وعَلى الإنْجِيلِ وعَلى اسْمِ اللَّهِ الأعْظَمِ مَجازٌ؛ لِأنَّ الرُّوحَ هو الرِّيحُ (p-٣٠٠)المُتَرَدِّدُ في مَخارِقِ الإنْسانِ في مَنافِذِهِ. ومَعْلُومٌ أنَّ هَذِهِ الثَّلاثَةَ ما كانَتْ كَذَلِكَ، إلّا أنَّ كُلًّا مِنها أُطْلِقَ الرُّوحُ عَلَيْهِ عَلى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ مِن حَيْثُ إنَّ الرُّوحَ سَبَبٌ لِلْحَياةِ، فَجِبْرِيلُ هو سَبَبٌ لِحَياةِ القُلُوبِ بِالعُلُومِ، والإنْجِيلُ سَبَبٌ لِظُهُورِ الشَّرائِعِ وحَياتِها، والِاسْمُ الأعْظَمُ سَبَبٌ لِأنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إلى تَحْصِيلِ الأغْراضِ. والمُشابَهَةُ بَيْنَ جِبْرِيلَ والرُّوحِ أتَمُّ، ولِأنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ فِيهِ أظْهَرُ، ولِأنَّ المُرادَ مَن أيَّدْناهُ: قَوَّيْناهُ وأعَنّاهُ، وإسْنادُها إلى جِبْرِيلَ حَقِيقَةٌ، وإلى الإنْجِيلِ والِاسْمِ الأعْظَمِ مَجازٌ. ولِأنَّ اخْتِصاصَ عِيسى بِجِبْرِيلَ مِن آكَدِ وُجُوهِ الِاخْتِصاصِ، إذْ لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ مِنَ الأنْبِياءِ مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي بَشَّرَ مَرْيَمَ بِوِلادَتِهِ، وتَوَلَّدَ عِيسى بِنَفْخِهِ، ورَبّاهُ في جَمِيعِ الأحْوالِ، وكانَ يَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سارَ، وكانَ مَعَهُ حَيْثُ صَعِدَ إلى السَّماءِ. ﴿أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾: الهَمْزَةُ أصْلُها لِلِاسْتِفْهامِ، وهي هُنا لِلتَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ. والفاءُ لِعَطْفِ الجُمْلَةِ عَلى ما قَبْلَها، واعْتُنِيَ بِحَرْفِ الِاسْتِفْهامِ فَقُدِّمَ، والأصْلُ فَأكُلَّما. ويُحْتَمَلُ أنْ لا يُقَدَّرَ قَبْلَها مَحْذُوفٌ، بَلْ يَكُونُ العَطْفُ عَلى الجُمَلِ الَّتِي قَبْلَها، كَأنَّهُ قالَ: ولَقَدْ آتَيْنا يا بَنِي إسْرائِيلَ، آتَيْناكم ما آتَيْناكم. فَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُقَدَّرَ قَبْلَها مَحْذُوفٌ، أيْ فَعَلْتُمْ ما فَعَلْتُمْ مِن تَكْذِيبِ فَرِيقٍ وقَتْلِ فَرِيقٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى كُلَّما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلَّما رُزِقُوا مِنها﴾ [البقرة: ٢٥]، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ. والنّاصِبُ لَها قَوْلُها: ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ . والخِطابُ في جاءَكم يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عامًّا لِجَمِيعِ بَنِي إسْرائِيلَ، إذْ كانُوا عَلى طَبْعٍ واحِدٍ مِن سُوءِ الأخْلاقِ، وتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ لِأنْبِيائِهِمْ، والشَّكِّ والِارْتِيابِ فِيما أتَوْهم بِهِ، أوْ يَكُونَ عائِدًا إلى أسْلافِهِمُ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ. وسِياقُ الآياتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، أوْ إلى مَن بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن أبْنائِهِمْ، لِأنَّهم راضُونَ بِفِعْلِهِمْ، والرّاضِي كالفاعِلِ. وقَدْ كَذَّبُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِيما جاءَ بِهِ، وسَقَوْهُ السُّمَّ لِيَقْتُلُوهُ، وسَحَرُوهُ. وبِما: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: جاءَكم، وما مَوْصُولَةٌ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ لا تَهْواهُ. وأكْثَرُ اسْتِعْمالِ الهَوى فِيما لَيْسَ بِحَقٍّ، ومِنهُ هَذِهِ الآيَةُ. وأُسْنِدَ الهَوى إلى النَّفْسِ، ولَمْ يُسْنَدْ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِ، فَكانَ يَكُونُ بِما لا تَهْوَوْنَ إشْعارًا بِأنَّ النَّفْسَ يُسْنَدُ إلَيْها غالِبًا الأفْعالُ السَّيِّئَةُ، ﴿إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: ٥٣]، ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ﴾ [المائدة: ٣٠]، ﴿قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكُمْ﴾ [يوسف: ١٨] . اسْتَكْبَرْتُمْ: اسْتَفْعَلَ هُنا: بِمَعْنى تَفَعَّلَ، وهو أحَدُ مَعانِي اسْتَفْعَلَ. وفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الكِبْرَ بِأنَّهُ سَفَهُ الحَقِّ وغَمْطُ النّاسِ. والمَعْنى قِيلَ: اسْتَكْبَرْتُمْ عَنْ إجابَتِهِ احْتِقارًا لِلرَّسُولِ. أوِ اسْتِبْعادًا لِلرِّسالَةِ، وفي ذَلِكَ ما كانُوا عَلَيْهِ مِن طَبِيعَةِ الِاسْتِكْبارِ الَّذِي هو مَحَلُّ النَّقائِصِ ونَتِيجَةُ الإعْجابِ. وهو نَتِيجَةُ الجَهْلِ بِالنَّفْسِ المُقارِنِ لِلْجَهْلِ بِالخالِقِ، وإنَّ ذَلِكَ كانَ يَتَكَرَّرُ مِنهم بِتَكَرُّرِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ، وهو كَما ذَكَرْنا اسْتِكْبارٌ بِمَعْنى التَّكَبُّرِ، وهو مُشْعِرٌ بِالتَّكَلُّفِ والتَّفَعُّلِ لِذَلِكَ، لا أنَّهم يَصِيرُونَ بِذَلِكَ كُبَراءَ عُظَماءَ، بَلْ يَتَفَعَّلُونَ ذَلِكَ ولا يُبَلِّغُونَ حَقِيقَتَهُ؛ لِأنَّ الكِبْرِياءَ إنَّما هي لِلَّهِ تَعالى، فَمُحالٌ أنْ يَتَّصِفَ بِها غَيْرُهُ حَقِيقَةً. ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ﴾: ظاهِرُهُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: اسْتَكْبَرْتُمْ، فَنَشَأ عَنِ الِاسْتِكْبارِ مُبادَرَةُ فَرِيقٍ مِنَ الرُّسُلِ بِالتَّكْذِيبِ فَقَطْ، حَيْثُ لا يَقْدِرُونَ عَلى قَتْلِهِ، وفَرِيقٍ بِالقَتْلِ إذا قَدَرُوا عَلى قَتْلِهِ وتَهَيَّأ لَهم ذَلِكَ، ويُضَمَّنُ أنَّ مَن قَتَلُوهُ فَقَدْ كَذَّبُوهُ. واسْتَغْنى عَنِ التَّصْرِيحِ بِتَكْذِيبِهِ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ أقْبَحَ أفْعالِهِمْ مَعَهُ، وهو قَتْلُهُ. وأجازَ أبُو القاسِمِ الرّاغِبُ أنْ يَكُونَ ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ﴾ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ: (وأيَّدْناهُ)، ويَكُونُ قَوْلُهُ: أفَكُلَّما مَعَ ما بَعْدَهُ فَصْلًا بَيْنَهُما عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ. والأظْهَرُ في تَرْتِيبِ الكَلامِ الأوَّلُ، وهَذا أيْضًا مُحْتَمَلٌ، وأُخِّرَ العامِلُ وقُدِّمَ المَفْعُولُ لِيَتَواخى رُءُوسَ الآيِ، وثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَفَرِيقًا مِنهم كَذَّبْتُمْ، وبَدَأ بِالتَّكْذِيبِ لِأنَّهُ أوَّلُ ما يَفْعَلُونَهُ مِنَ الشَّرِّ، ولِأنَّهُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ: المُكَذَّبِ والمَقْتُولِ. ﴿وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾: وأتى بِفِعْلِ القَتْلِ مُضارِعًا، إمّا لِكَوْنِهِ حُكِيَتْ (p-٣٠١)بِهِ الحالُ الماضِيَةُ، إنْ كانَتْ أُرِيدَتْ فاسْتُحْضِرَتْ في النُّفُوسِ، وصُوِّرَ حَتّى كَأنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِهِ مَشْرُوعٌ فِيهِ، ولِما فِيهِ مِن مُناسَبَةِ رُءُوسِ الآيِ الَّتِي هي فَواصِلُ، وإمّا لِكَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا، لِأنَّهم يَرُومُونَ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولِذَلِكَ سَحَرُوهُ وسَمُّوهُ. وقالَ ﷺ عِنْدَ مَوْتِهِ: «ما زالَتْ أكْلَةُ خَيْبَرَ تُعاوِدُنِي فَهَذا أوانُ انْقِطاعِ أبْهَرِي» . وكانَ في ذَلِكَ عَلى هَذا الوَجْهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ عادَتَهم قَتْلُ أنْبِيائِهِمْ؛ لِأنَّ هَذا النَّبِيَّ المَكْتُوبَ عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وقَدْ أُمِرُوا بِالإيمانِ بِهِ والنَّصْرِ لَهُ يَرُومُونَ قَتْلَهُ. فَكَيْفَ مَن لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَقَدُّمُ عَهْدٍ مِنَ اللَّهِ ؟ فَقَتْلُهُ عِنْدَهم أوْلى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَنِي إسْرائِيلَ: كانُوا يَقْتُلُونَ في اليَوْمِ ثَلاثَمِائَةِ نَبِيٍّ، ثُمَّ تَقُومُ سُوقُهم آخِرَ النَّهارِ. ورُوِيَ سَبْعِينَ نَبِيًّا، ثُمَّ تَقُومُ سُوقُ نَقْلِهِمْ آخِرَ النَّهارِ. ﴿وقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾: الضَّمِيرُ في قالُوا عائِدٌ عَلى اليَهُودِ، وهم أبْناءُ بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ كانُوا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالُوا ذَلِكَ بُهْتًا ودَفْعًا لَمّا قامَتْ عَلَيْهِمُ الحُجَجُ وظَهَرَتْ لَهُمُ البَيِّناتُ، وأعْجَزَتْهم عَنْ مُدافَعَةِ الحَقِّ المُعْجِزاتُ. نَزَلُوا عَنْ رُتْبَةِ الإنْسانِيَّةِ إلى رُتْبَةِ البَهِيمِيَّةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: غُلْفٌ، بِإسْكانِ اللّامِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى سُكُونِ اللّامِ، أهُوَ سُكُونٌ أصْلِيٌّ فَيَكُونُ جَمْعَ أغْلَفَ ؟ أمْ هو سُكُونُ تَخْفِيفٍ فَيَكُونُ جَمْعَ غِلافٍ ؟ وأصْلُهُ الضَّمُّ، كَحِمارٍ وحُمُرٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهُنا يُشِيرُ إلى أنَّ التَّخْفِيفَ مِنَ التَّثْقِيلِ قَلَّما يُسْتَعْمَلُ إلّا في الشِّعْرِ. ونَصَّ ابْنُ مالِكٍ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ التَّسْكِينُ في نَحْوِ حُمُرٍ جَمْعَ حِمارٍ، دُونَ ضَرُورَةٍ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والأعْرَجُ، وابْنُ هُرْمُزَ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، غُلُفٌ: بِضَمِّ اللّامِ، وهي مَرْوِيَّةٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو، وهو جَمْعُ غِلافٍ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ في هَذِهِ القِراءَةِ جَمْعَ أغْلَفَ؛ لِأنَّ تَثْقِيلَ فُعْلٍ الصَّحِيحِ العَيْنِ لا يَجُوزُ إلّا في الشِّعْرِ. يُقالُ غَلَّفْتُ السَّيْفَ: جَعَلْتُ لَهُ غِلافًا. فَأمّا مَن قَرَأ: غُلْفٌ بِالإسْكانِ، فَمَعْناهُ أنَّها مَسْتُورَةٌ عَنِ الفَهْمِ والتَّمْيِيزِ. وقالَ مُجاهِدٌ: أيْ عَلَيْها غِشاوَةٌ. وقالَ عِكْرِمَةُ: عَلَيْها طابَعٌ. وقالَ الزَّجّاجُ: ذَواتُ غُلْفٍ، أيْ عَلَيْها غُلْفٌ لا تَصِلُ إلَيْها المَوْعِظَةُ. وقِيلَ مَعْناهُ: خُلِقَتْ غُلْفًا لا تَتَدَبَّرُ ولا تَعْتَبِرُ. وقِيلَ: مَحْجُوبَةٌ عَنْ سَماعِ ما تَقُولُ وفَهْمِ ما تَبَيَّنَ. ويُحْتَمَلُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ أنْ يَكُونَ قَوْلُهم هَذا عَلى سَبِيلِ البُهْتِ والمُدافَعَةِ، حَتّى يُسْكِتُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا مِنهم بِحالِ قُلُوبِهِمْ؛ لِأنَّ الأوَّلَ فِيهِ ذَمُّ أنْفُسِهِمْ بِما لَيْسَ فِيها، وكانُوا يَدْفَعُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وأسْبابُ الدَّفْعِ كَثِيرَةٌ. وأمّا مَن قَرَأ بِضَمِّ اللّامِ فَمَعْناهُ أنَّها أوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ، أقامُوا العِلْمَ مُقامَ شَيْءٍ مُجَسَّدٍ، وجَعَلُوا المَوانِعَ الَّتِي تَمْنَعُهم غُلْفًا لَهُ، لِيُسْتَدَلَّ بِالمَحْسُوسِ عَلى المَعْقُولِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أنَّها أوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ، فَلَوْ كانَ ما تَقُولُهُ حَقًّا وصِدْقًا لَوَعِيَتْهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أنَّ قُلُوبَنا غُلْفٌ، أيْ مَمْلُوءَةٌ عِلْمًا، فَلا تَسَعُ شَيْئًا، ولا تَحْتاجُ إلى عِلْمٍ غَيْرِهِ، فَإنَّ الشَّيْءَ المُغَلَّفَ لا يَسَعُ غِلافُهُ غَيْرَهُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أنَّ قُلُوبَهم غُلْفٌ عَلى ما فِيها مِن دِينِهِمْ وشَرِيعَتِهِمْ واعْتِقادِهِمْ أنَّ دَوامَ مِلَّتِهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وهي لِصَلابَتِها وقُوَّتِها تَمْنَعُ أنْ يَصِلَ إلَيْها غَيْرُ ما فِيها، كالغِلافِ الَّذِي يَصُونُ المُغَلَّفَ أنْ يَصِلَ إلَيْهِ ما بِغَيْرِهِ. وقِيلَ: المَعْنى كالغِلافِ الخالِي لا شَيْءَ فِيهِ. ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾: بَلْ: لِلْإضْرابِ، ولَيْسَ إضْرابًا عَنِ اللَّفْظِ المَقُولِ؛ لِأنَّهُ واقِعٌ لا مَحالَةَ، فَلا يُضْرَبُ عَنْهُ، وإنَّما الإضْرابُ عَنِ النِّسْبَةِ الَّتِي تَضَمَّنَها قَوْلُهم: إنَّ قُلُوبَهم غُلْفٌ، لِأنَّها خُلِقَتْ مُتَمَكِّنَةً مِن قَبُولِ الحَقِّ، مَفْطُورَةً لِإدْراكِ الصَّوابِ، فَأخْبَرُوا عَنْها بِما لَمْ تُخْلَقْ عَلَيْهِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهم لُعِنُوا بِسَبَبِ ما تَقَدَّمَ مِن كُفْرِهِمْ، وجازاهم بِالطَّرْدِ الَّذِي هو اللَّعْنُ المُتَسَبِّبُ عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي هو الكُفْرُ. ﴿فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ﴾: انْتِصابُ قَلِيلًا عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ فَإيمانًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، قالَهُ قَتادَةُ. وعَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ: انْتِصابُهُ عَلى الحالِ، التَّقْدِيرُ: فَيُؤْمِنُونَهُ، أيِ الإيمانَ في حالِ قِلَّتِهِ. وجَوَّزُوا انْتِصابَهُ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِزَمانٍ مَحْذُوفٍ، أيْ فَزَمانًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، لِقَوْلِهِ تَعالى: (p-٣٠٢)﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وجْهَ النَّهارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ [آل عمران: ٧٢] . وجَوَّزُوا أيْضًا انْتِصابَهُ بِيُؤْمِنُونَ عَلى أنَّ أصْلَهُ فَقَلِيلٌ يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ لَمّا أسْقَطَ الباءَ تَعَدّى إلَيْهِ الفِعْلُ، وهو قَوْلُ مَعْمَرٍ. وجَوَّزُوا أيْضًا أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الفاعِلِ الَّذِي هو الضَّمِيرُ في يُؤْمِنُونَ، المَعْنى: أيْ فَجَمْعًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، أيِ المُؤْمِنُ مِنهم قَلِيلٌ، وقالَ هَذا المَعْنى ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ، ومُلَخَّصُهُ: أنَّ القِلَّةَ إمّا لِلنِّسْبَةِ لِلْفِعْلِ الَّذِي هو المَصْدَرُ، أوْ لِلزَّمانِ، أوْ لِلْمُؤْمَنِ بِهِ، أوْ لِلْفاعِلِ. فَبِالنِّسْبَةِ إلى المَصْدَرِ: تَكُونُ القِلَّةُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِ؛ لِأنَّ الإيمانَ لا يَتَّصِفُ بِالقِلَّةِ والكَثْرَةِ حَقِيقَةً. وبِالنِّسْبَةِ إلى الزَّمانِ: تَكُونُ القِلَّةُ فِيهِ لِكَوْنِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ ﷺ قَلِيلًا، وهو زَمانُ الِاسْتِفْتاحِ، ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وبِالنِّسْبَةِ إلى المُؤْمَنِ بِهِ: تَكُونُ القِلَّةُ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَبْقَ لَهم مِن ذَلِكَ إلّا تَوْحِيدُ اللَّهِ عَلى غَيْرِ وجْهِهِ، إذْ هم مُجَسِّمُونَ، وقَدْ كَذَّبُوا بِالرَّسُولِ وبِالتَّوْراةِ. وبِالنِّسْبَةِ لِلْفاعِلِ: تَكُونُ القِلَّةُ لِكَوْنِ مَن آمَنَ مِنهم بِالرَّسُولِ قَلِيلًا. وقالَ الواقِدِيُّ: المَعْنى أيْ لا قَلِيلًا ولا كَثِيرًا، يُقالُ قَلَّ ما يَفْعَلُ، أيْ ما يَفْعَلُ أصْلًا. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: إنِ المَعْنى فَما يُؤْمِنُونَ قَلِيلًا ولا كَثِيرًا. وقالَ الَمَهْدَوِيُّ: مَذْهَبُ قَتادَةَ أنَّ المَعْنى: فَقَلِيلٌ مِنهم مَن يُؤْمِنُ، وأنْكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ وقالُوا: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ رَفْعُ قَلِيلٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ القِلَّةُ بِمَعْنى العَدَمِ، وما ذَهَبُوا إلَيْهِ مِن أنَّ قَلِيلًا يُرادُ بِهِ النَّفْيُ صَحِيحٌ، لَكِنْ في غَيْرِ هَذا التَّرْكِيبِ، أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ﴾؛ لِأنَّ قَلِيلًا انْتَصَبَ بِالفِعْلِ المُثْبَتِ، فَصارَ نَظِيرَ: قُمْتُ قَلِيلًا، أيْ قِيامًا قَلِيلًا. ولا يَذْهَبْ ذاهِبٌ إلى أنَّكَ إذا أتَيْتَ بِفِعْلٍ مُثْبَتٍ، وجَعَلْتَ قَلِيلًا مَنصُوبًا نَعْتًا لِمَصْدَرِ ذَلِكَ الفِعْلِ، يَكُونُ المَعْنى في المُثْبَتِ الواقِعِ عَلى صِفَةِ أوْ هَيْئَةِ انْتِفاءِ ذَلِكَ المُثْبَتِ رَأْسًا وعَدَمِ وُقُوعِهِ بِالكُلِّيَّةِ. وإنَّما الَّذِي نَقَلَ النَّحْوِيُّونَ أنَّهُ قَدْ يُرادُ بِالقِلَّةِ النَّفْيُ المَحْضُ في قَوْلِهِمْ: أقَلُّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَلِكَ، وقَلَّ رَجُلٌ يَقُولُ ذَلِكَ، وقَلَّما يَقُومُ زَيْدٌ، وقَلِيلٌ مِنَ الرِّجالِ يَقُولُ ذَلِكَ، وقَلِيلَةٌ مِنَ النِّساءِ تَقُولُ ذَلِكَ. وإذا تَقَرَّرَ هَذا، فَحَمْلُ القِلَّةِ هُنا عَلى النَّفْيِ المَحْضِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وأمّا ما ذَكَرَهُ الَمَهْدَوِيُّ مِن مَذْهَبِ قَتادَةَ، وإنْكارِ النَّحْوِيِّينَ ذَلِكَ، وقَوْلِهِمْ: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ رَفْعُ قَلِيلٍ. فَقَوْلُ قَتادَةَ صَحِيحٌ، ولا يَلْزَمُ ما ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ؛ لِأنَّ قَتادَةَ إنَّما بَيَّنَ المَعْنى وشَرَحَهُ، ولَمْ يُرِدْ شَرْحَ الإعْرابِ فَيَلْزَمَهُ ذَلِكَ. وإنَّما انْتِصابُ قَلِيلًا عِنْدَهُ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في يُؤْمِنُونَ، والمَعْنى عِنْدَهُ: فَيُؤْمِنُونَ قَوْمًا قَلِيلًا، أيْ في حالَةِ قِلَّةٍ. وهَذا مَعْناهُ: فَقَلِيلٌ مِنهم مَن يُؤْمِنُ. وما في قَوْلِهِ: ما يُؤْمِنُونَ، زائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، دَخَلَتْ بَيْنَ المَعْمُولِ والعامِلِ، نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: رُوَيْدٌ ما الشِّعْرُ، وخُرِّجَ ما أنِفَ خاطِبٌ بِدَمٍ. ولا يَجُوزُ في ما أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً؛ لِأنَّهُ كانَ يَلْزَمُ رَفْعُ قَلِيلٍ حَتّى يَنْعَقِدَ مِنهُما مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ. والأحْسَنُ مِن هَذِهِ المَعانِي كُلِّها هو الأوَّلُ، وهو أنْ يَكُونَ المَعْنى: فَإيمانًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ؛ لِأنَّ دَلالَةَ الفِعْلِ عَلى مَصْدَرِهِ أقْوى مِن دَلالَتِهِ عَلى الزَّمانِ، وعَلى الهَيْئَةِ، وعَلى المَفْعُولِ، وعَلى الفاعِلِ، ولِمُوافَقَتِهِ ظاهِرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا﴾ [النساء: ٤٦] . وأمّا قَوْلُ العَرَبِ: مَرَرْنا بِأرْضٍ قَلِيلًا ما تُنْبِتُ، وأنَّهم يُرِيدُونَ لا تُنْبِتُ شَيْئًا، فَإنَّما ذَلِكَ لِأنَّ قَلِيلًا انْتَصَبَ عَلى الحالِ مِن أرْضٍ، وإنْ كانَ نَكِرَةً، وما مَصْدَرِيَّةٌ، والتَّقْدِيرُ: قَلِيلًا إنْباتُها، أيْ لا تُنْبِتُ شَيْئًا، ولَيْسَتْ ما زائِدَةً، وقَلِيلٌ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُ الكَلامِ: تُنْبِتُ قَلِيلًا، إذْ لَوْ كانَ التَّرْكِيبُ المُقَدَّرُ هَذا لَما صَلَحَ أنْ يُرادَ بِالقَلِيلِ النَّفْيُ المَحْضُ، لِأنَّ قَوْلَكَ: تُنْبِتُ قَلِيلًا، لا يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الإنْباتِ رَأْسًا، وكَذَلِكَ لَوْ قُلْنا: ضَرَبْتُ ضَرْبًا قَلِيلًا، لَمْ يَكُنْ مَعْناهُ ما ضَرَبْتُ أصْلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب