الباحث القرآني

﴿فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أرْسَلَتْ إلَيْهِنَّ وأعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ سِكِّينًا وقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّا رَأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ وقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هَذا بَشَرًا إنْ هَذا إلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ رُوِيَ أنَّ تِلْكَ المَقالَةَ الصّادِرَةَ عَنِ النِّسْوَةِ إنَّما قَصَدْنَ بِها المَكْرَ بِامْرَأةِ العَزِيزِ لِيُغْضِبْنَها (p-٣٠٢)حَتّى تَعْرِضَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفَ لِيَبِينَ عُذْرُها، أوْ يَحِقُّ لَوْمُها و(مَكْرِهِنَّ) هو اغْتِيابُهُنَّ إيّاها، وسُوءُ مَقالَتِهِنَّ فِيها أنَّها عَشِقَتْ يُوسُفَ، وسُمِّيَ الِاغْتِيابُ مَكْرًا، لِأنَّهُ في خُفْيَةٍ وحالِ غَيْبَةٍ، كَما يُخْفِي الماكِرُ مَكْرَهُ. وقِيلَ: كانَتِ اسْتَكْتَمَتْهُنَّ سِرَّها فَأفْشَيْنَهُ عَلَيْها، أرْسَلَتْ إلَيْهِنَّ لِيَحْضُرْنَ، قِيلَ: دَعَتْ أرْبَعِينَ امْرَأةً مِنهُنَّ الخَمْسُ المَذْكُوراتُ، والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى تِلْكَ النِّسْوَةِ القائِلَةِ ما قُلْنَ عَنْها. ﴿وأعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾ أيْ: يَسَّرْتَ وهَيَّأْتَ لَهُنَّ ما يَتَّكِئْنَ عَلَيْهِ مِنَ النَّمارِقِ والمَخادِّ والوَسائِدِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَكُونُ في مَجْلِسٍ أُعِدَّ لِلْكَرامَةِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ هَذا النَّوْعَ مِنَ الإكْرامِ لا يَخْلُو مِن طَعامٍ وشَرابٍ، وهُنا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَجِئْنَ واتَّكَأْنَ، ومُتَّكَئًا إمّا أنْ يُرادَ بِهِ الجِنْسُ، وإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ وأعْتَدَتْ لِكُلِّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ مُتَّكَئًا، كَما جاءَتْ ﴿وآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ سِكِّينًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (مُتَّكَئًا) مَجْلِسًا، ذَكَرَهُ الزَّهْراوِيُّ، ويَكُونُ (مُتَّكَئًا) ظَرْفَ مَكانٍ؛ أيْ: مَكانًا يَتَّكِئْنَ فِيهِ، وعَلى ما تَقَدَّمَ تَكُونُ الآلاتُ الَّتِي يُتَّكَأُ عَلَيْها، وقالَ مُجاهِدٌ: المُتَّكَأُ الطَّعامُ يُحَزُّ حَزًّا. قالَ القُتَبِيُّ: يُقالُ اتَّكَأْنا عِنْدَ فُلانٍ؛ أيْ أكَلْنا، ويَكُونُ هَذا مِنَ المَجازِ عَبَّرَ بِالهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْها الآكِلُ المُتْرَفُ بِالمُتَّكَأِ وهي عادَةُ المُتْرَفِينَ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ ﷺ: (أمّا أنا فَلا آكُلُ مُتَّكِئًا) أوْ كَما قالَ: وإذا كانَ المُتَّكَأُ لَيْسَ مُعَبَّرًا بِهِ عَمّا يُؤْكَلُ، فَمَعْلُومٌ أنَّ مِثْلَ هَذا المَجْلِسِ لا بُدَّ فِيهِ مِن طَعامٍ وشَرابٍ، فَيَكُونُ في جُمْلَةِ الطَّعامِ ما يُقْطَعُ بِالسَّكاكِينِ، فَقِيلَ: كانَ لَحْمًا وكانُوا لا يَنْهَشُونَ اللَّحْمَ، إنَّما كانُوا يَأْكُلُونَهُ حَزًّا بِالسَّكاكِينِ، وقِيلَ: كانَ أُتْرُجًّا، وقِيلَ: كانَ بَزْماوَرْدَ وهو شَبِيهٌ بِالأُتْرُجِّ مَوْجُودٌ في تِلْكَ البِلادِ، وقِيلَ: هو مَصْنُوعٌ مِن سُكَّرٍ ولَوْزٍ وأخْلاطٍ، ومَضْمُونُهُ: أنَّهُ يَحْتاجُ إلى أنْ يُقْطَعَ بِالسِّكِّينِ، وعادَةً مَن يَقْطَعُ شَيْئًا أنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مُتَّكِئًا عَلَيْهِ، قِيلَ: وكانَ قَصْدُها في بُرُوزِهِنَّ عَلى هَذِهِ الهَيْئاتِ مُتَّكِئاتٍ في أيْدِيهِنَّ سَكاكِينُ يَحْزُزْنَ بِها شَيْئَيْنِ؛ أحَدُهُما: دَهْشِهِنَّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وشَغْلِهِنَّ بِأنْفُسِهِنَّ، فَتَقَعُ أيْدِيهِنَّ عَلى أيْدِيهِنَّ فَيَقْطَعْنَها فَتُبَكِّتُهُنَّ، ويَكُونُ ذَلِكَ مَكْرًا بِهِنَّ إذْ ذَهَلْنَ عَمّا أصابَهُنَّ مِن تَقْطِيعِ أيْدِيهِنَّ، وما أحْسَسْنَ بِهِ مَعَ الألَمِ الشَّدِيدِ لِفَرْطِ ما غَلَبَ عَلَيْهِنَّ مِنِ اسْتِحْسانِ يُوسُفَ وسَلْبِهِ عُقُولَهُنَّ. والثّانِي: التَّهْوِيلُ عَلى يُوسُفَ بِمَكْرِها إذا خَرَجَ عَلى نِساءٍ مُجْتَمِعاتٍ في أيْدِيهِنَّ الخَناجِرُ، تُوهِمُهُ أنَّهُنَّ يَثِبْنَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ يَحْذَرُ مَكْرَهًا دائِمًا، ولَعَلَّهُ يُجِيبُها إلى مُرادِها عَلى زَعْمِها ذَلِكَ، ويُوسُفُ قَدْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِن كُلِّ ما تُرِيدُهُ بِهِ مِنَ السُّوءِ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ: مُتَّكِي مُشَدَّدُ التّاءِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ بِوَزْنِ مُتَّقِي، فاحْتَمَلَ ذَلِكَ وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ مِنَ الِاتِّكاءِ، وفِيهِ تَخْفِيفُ الهَمْزِ كَما قالُوا في تَوَضَّأْتُ: تَوْضِئَةٌ. والثّانِيَ: يَكُونُ مُفْتَعَلًا مِن أوْكَيْتُ السِّقاءَ إذا شَدَدْتُهُ؛ أيْ: ما يَشْتَدِدْنَ عَلَيْهِ، إمّا بِالِاتِّكاءِ، وإمّا بِالقَطْعِ بِالسِّكِّينِ، وقَرَأ الأعْرَجُ: (مُتَّكِئًا) مُفَعَّلًا مِن تَكِئَ يَتَّكِئُ إذا اتَّكَأ، وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ هُرْمُزَ: ﴿مُتَّكَأً﴾ بِالمَدِّ والهَمْزِ، وهو مُفْتَعَلٌ مِنَ الِاتِّكاءِ، إلّا أنَّهُ أشْبَعَ الفَتْحَةَ فَتَوَلَّدَتْ مِنها الألِفُ كَما قالُوا: ومَن ذَمَّ الرِّجالَ بِمُنْتَزاحٍ، وقالُوا: ؎أعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ العَقْرابِ الشّائِلاتِ عُقَدَ الأذْنابِ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ والجَحْدَرِيُّ والكَلْبِيُّ وإبانُ بْنُ تَغْلِبَ: (مُتْكًا) بِضَمِّ المِيمِ وسُكُونِ التّاءِ وتَنْوِينِ الكافِ، وجاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ ومُعاذٌ، وكَذَلِكَ إلّا أنَّهُما فَتَحا المِيمَ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مُتْكٍ، ومَتْكٍ في المُفْرَداتِ، وقالَتْ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، هَذا الخِطابُلِيُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وخُرُوجُهُ يَدُلُّ عَلى طَواعِيَتِها فِيما لا يَعْصِي اللَّهَ فِيهِ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَخَرَجَ عَلَيْهِنَّ، ومَعْنى ﴿أكْبَرْنَهُ﴾ أعَظَمْنَهُ ودَهِشْنَ بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ الجَمالِ الفائِقِ الرّائِعِ، قِيلَ: كانَ فَضْلُ يُوسُفَ عَلى النّاسِ في الحُسْنِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلى نُجُومِ السَّماءِ، وفي حَدِيثِ الإسْراءِ «أنَّ الرَّسُولَ صَلّى اللَّهُ (p-٣٠٣)عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمّا أُخْبِرَ بِلُقْيا يُوسُفَ قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ رَأيْتَهُ ؟ قالَ: ”كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ“» وقِيلَ: كانَ إذا سارَ في أزِقَّةِ مِصْرَ يُرى تَلَأْلُؤُ وجْهِهِ عَلى الجُدْرانِ، كَما يُرى نُورُ الشَّمْسِ، وقِيلَ: كانَ يُشْبِهُ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ رَبُّهُ، وقِيلَ: ورِثَ الجَمالَ عَنْ جَدَّتِهِ سارَةَ، وقالَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ الهاشِمِيُّ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: مَعْناهُ حِضْنَ، وأنْشَدَ بَعْضُ النِّساءِ حُجَّةً لِهَذا التَّأْوِيلِ: ؎تَأْتِي النِّساءَ عَلى أطْهارِهِنَّ ولا ∗∗∗ تَأْتِي النِّساءَ إذا أكْبَرْنَ إكْبارا قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، والبَيْتُ مَصْنُوعٌ مُخْتَلَقٌ، كَذَلِكَ قالَ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ المُحَقِّقِينَ، ولَيْسَ عَبْدُ الصَّمَدِ مِن رُواةِ العِلْمِ رَحِمَهُ اللَّهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقِيلَ أكْبَرْنَ بِمَعْنى حِضْنَ، والهاءُ لِلسَّكْتِ يُقالُ: أكْبَرَتِ المَرْأةُ إذا حاضَتْ، وحَقِيقَتُهُ مِنَ الكِبَرِ لِأنَّها بِالحَيْضِ تَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الصِّغَرِ إلى حَدِّ الكِبَرِ، وكَأنَّ أبا الطَّيِّبِ أخَذَ مِن هَذا التَّفْسِيرِ قَوْلَهُ: ؎خَفِ اللَّهِ واسْتُرْ ذا الجَمالَ بِبُرْقُعٍ ∗∗∗ فَإنْ لُحْتَ حاضَتْ في الخُدُورِ العَواتِقُ، انْتَهى. وإجْماعُ القُرّاءِ عَلى ضَمِّ الهاءِ في الوَصْلِ دَلِيلٌ عَلى أنَّها لَيْسَتْ هاءَ السَّكْتِ؛ إذْ لَوْ كانَتْ هاءَ السَّكْتِ، وكانَ مَن أجْرى الوَصْلَ مَجْرى الوَقْفِ، لَمْ يَضُمَّ الهاءَ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ في ﴿أكْبَرْنَهُ﴾ عَلى يُوسُفَ إنْ ثَبَتَ أنَّ أكْبَرَ بِمَعْنى حاضَ، فَتَكُونُ الهاءُ عائِدَةً عَلى المَصْدَرِ أيْ: أكْبَرْنَ الإكْبارَ، وقَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ أيْ جَرَحْنَها، كَما تَقُولُ: كُنْتُ أقْطَعُ اللَّحْمَ فَقَطَعْتُ يَدِي، والتَّضْعِيفُ لِلتَّكْثِيرِ إمّا بِالنِّسْبَةِ لِكَثْرَةِ القاطِعاتِ، وإمّا بِالنِّسْبَةِ لِتَكْثِيرِ الحَزِّ في يَدِ كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ، فالجُرْحُ كَأنَّهُ وقَعَ مِرارًا في اليَدِ الواحِدَةِ وصاحِبَتُها لا تَشْعُرُ لِما ذَهَبَتْ بِما راعَها مِن جَمالِ يُوسُفَ، فَكَأنَّها غابَتْ عَنْ حِسِّها، والظّاهِرُ أنَّ الأيْدِيَ هي الجَوارِحُ المُسَمّاةُ بِهَذا الِاسْمِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: الأيْدِي هُنا الأكْمامُ، ولَمّا فَعَلْنَ هَذا الفِعْلَ الصَّعْبَ مِن جَرْحِ أيْدِيهِنَّ، وغَلَبَ عَلَيْهِنَّ ما رَأيْنَ مِن يُوسُفَ وحُسْنِهِ قُلْنَ: ﴿حاشَ لِلَّهِ﴾، قَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿حاشَ لِلَّهِ﴾ بِغَيْرِ ألِفٍ بَعْدَ الشِّينِ، و(لِلَّهِ) بِلامِ الجَرِّ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: (حاشا لِلَّهِ) بِغَيْرِ ألِفٍ ولامِ الجَرِّ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ مِنهُمُ الأعْمَشُ: (حَشى) عَلى وزْنِ رَمى (لِلَّهِ) بِلامِ الجَرِّ، وقَرَأ الحَسَنُ: ﴿حاشَ﴾ بِسُكُونِ الشِّينِ وصْلًا ووَقْفًا بِلامِ الجَرِّ، وقَرَأ أُبَيٌّ وعَبْدُ اللَّهِ: (حاشى اللَّهِ) بِالإضافَةِ، وعَنْهُما كَقِراءَةِ أبِي عَمْرٍو، قالَهُ صاحِبُ اللَوامِحِ، وقَرَأ الحَسَنُ: (حاشَ الإلَهِ) . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَحْذُوفًا مِن حاشى. وقالَ صاحِبُ اللَوامِحِ: بِحَذْفِ الألِفِ، وهَذِهِ تَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ حَرْفَ جَرٍّ يَجُرُّ ما بَعْدَهُ، فَأمّا الإلَهُ فَإنَّهُ فَكَّهُ عَنِ الإدْغامِ، وهو مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقامَ المَفْعُولِ، ومَعْناهُ المَأْلُوهُ بِمَعْنى المَعْبُودِ، قالَ: وحُذِفَتِ الألِفُ مِن ”حاشَ“ لِلتَّخْفِيفِ، انْتَهى. وهَذا الَّذِي قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وصاحِبُ اللَوامِحِ: مِن أنَّ الألِفَ في حاشى في قِراءَةِ الحَسَنِ مَحْذُوفَةٌ لا تَتَعَيَّنُ، إلّا أنْ نُقِلَ عَنْهُ أنَّهُ يَقِفُ في هَذِهِ القِراءَةِ بِسُكُونِ الشِّينِ، فَإنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ في ذَلِكَ شَيْءٌ فاحْتَمَلَ أنْ تَكُونَ الألِفُ حُذِفَتْ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ؛ إذِ الأصْلُ ”حاشا الإلَهِ“، ثُمَّ نُقِلَ فَحَذَفَ الهَمْزَةَ وحَرَّكَ اللّامَ بِحَرَكَتِها، ولَمْ يُعْتَدَّ بِهَذا التَّحْرِيكِ لِأنَّهُ عارِضٌ، كَما تَنْحَذِفُ في ”يَخْشى الإلَهَ“، ولَوِ اعْتَدَّ بِالحَرَكَةِ لَمْ تُحْذَفِ الألِفُ، وقَرَأ أبُو السَّمّالِ: (حاشًا لِلَّهِ) بِالتَّنْوِينِ كَرَعْيًا لِلَّهِ، فَأمّا القِراآتُ (لِلَّهِ) بِلامِ الجَرِّ في غَيْرِ قِراءَةِ أبِي السَّمّالِ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ما قَبْلَها مِن حاشى، أوْ حاشَ، أوْ حَشى، أوْ حاشْ حَرْفُ جَرٍّ، لِأنَّ حَرْفَ الجَرِّ لا يَدْخُلُ عَلى حَرْفِ الجَرِّ، ولِأنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِما بِالحَذْفِ، وأصْلُ التَّصَرُّفِ بِالحَذْفِ أنْ لا يَكُونَ في الحُرُوفِ، وزَعَمَ المُبَرِّدُ وغَيْرُهُ كابْنِ عَطِيَّةَ: أنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِعْلِيَّتُها، ويَكُونُ الفاعِلُ ضَمِيرَ يُوسُفَ؛ أيْ: حاشا يُوسُفَ أنْ يُقارِفَ ما رَمَتْهُ بِهِ، ومَعْنى (لِلَّهِ): لِطاعَةِ اللَّهِ، أوْ لِمَكانَةٍ مِنَ اللَّهِ، أوْ لِتَرْفِيعِ اللَّهِ أنْ يُرْمى بِما رَمَتْهُ بِهِ، أوْ يُذْعِنَ إلى مِثْلِهِ؛ لِأنَّ تِلْكَ أفْعالُ البَشَرِ، وهو لَيْسَ مِنهم، إنَّما هو مَلَكٌ، وعَلى هَذا تَكُونُ اللّامُ في (لِلَّهِ) (p-٣٠٤)لِلتَّعْلِيلِ أيْ: جانَبَ يُوسُفُ المَعْصِيَةَ لِأجْلِ طاعَةِ اللَّهِ، أوْ لِما ذَهَبَ قَبْلُ، وذَهَبَ غَيْرُ المُبَرِّدِ إلى أنَّها اسْمٌ، وانْتِصابُها انْتِصابُ المَصْدَرِ الواقِعِ بَدَلًا مِنَ اللَّفْظِ بِالفِعْلِ كَأنَّهُ قالَ: تَنْزِيهًا لِلَّهِ، ويَدُلُّ عَلى اسْمِيَّتِها قِراءَةُ أبِي السَّمّالِ (حاشًا) مُنَوَّنًا، وعَلى هَذا القَوْلِ يَتَعَلَّقُ (لِلَّهِ) بِمَحْذُوفٍ عَلى البَيانِ كَـ لَكَ بَعْدَ سُقْيًا، ولَمْ يُنَوَّنْ في القِراآتِ المَشْهُورَةِ مُراعاةً لِأصْلِهِ الَّذِي نُقِلَ مِنهُ وهو الحَرْفُ، ألا تَراهم قالُوا: مِن عَنْ يَمِينِهِ، فَجَعَلُوا (عَنْ) اسْمًا ولَمْ يُعْرِبُوهُ وقالُوا: (مِن عَلَيْهِ) فَلَمْ يُثْبِتُوا ألِفَهُ مَعَ المُضْمَرِ، بَلْ أبْقُوا (عَنْ) عَلى بِنائِهِ، وقَلَبُوا ألِفَ (عَلى) مَعَ الضَّمِيرِ مُراعاةً لِأصْلِها، وأمّا قِراءَةُ الحَسَنِ وقِراءَةُ أُبَيٍّ بِالإضافَةِ فَهو مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى ألِفِهِ كَما قالُوا: سُبْحانَ اللَّهَ، وهَذا اخْتِيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأمّا قِراءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وابْنِ مَسْعُودٍ فَقالَ أبُو عَلِيٍّ: إنَّ (حاشى) حَرْفُ اسْتِثْناءٍ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎حاشا أبِي ثَوْبانَ انْتَهى. وأمّا قِراءَةُ الحَسَنِ (حاشْ) بِالتَّسْكِينِ فَفِيها جَمْعٌ بَيْنَ ساكِنَيْنِ، وقَدْ ضَعَّفُوا ذَلِكَ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمَعْنى تَنْزِيهُ اللَّهِ مِن صِفاتِ العَجْزِ، والتَّعَجُّبُ مِن قُدْرَتِهِ عَلى خَلْقِ جَمِيلٍ مِثْلِهِ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ﴾ [يوسف: ٥١] فالتَّعَجُّبُ مِن قُدْرَتِهِ عَلى خَلْقِ عَفِيفٍ مِثْلِهِ، ﴿ما هَذا بَشَرًا﴾ لَمّا كانَ غَرِيبَ الجَمالِ فائِقَ الحُسْنِ عَمّا عَلَيْهِ حُسْنُ صُوَرِ الإنْسانِ، نَفَيْنَ عَنْهُ البَشَرِيَّةَ، وأثْبَتْنَ لَهُ المَلَكِيَّةَ، لِما كانَ مَرْكُوزًا في الطِّباعِ حُسْنُ المَلَكِ، وإنْ كانَ لا يُرى، وقَدْ نَطَقَ بِذَلِكَ شُعَراءُ العَرَبِ والمُحَدِّثُونَ، قالَ بَعْضُ العَرَبِ: ؎فَلَسْتَ لِإنْسِيٍّ ولَكِنْ لِمَلاكٍ ∗∗∗ تَنَزَّلَ مِن جَوِّ السَّماءِ يَصُوبُ وقالَ بَعْضُ المُحَدِّثِينَ: ؎قَوْمٌ إذا قُوبِلُوا كانُوا مَلائِكَةً ∗∗∗ حُسْنًا وإنْ قُوتِلُوا كانُوا عَفارِيتا وانْتِصابُ (بَشَرًا) عَلى لُغَةِ الحِجازِ، ولِذا جاءَ ﴿ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إنْ أُمَّهاتُهُمْ﴾ [المجادلة: ٢] ﴿فَما مِنكم مِن أحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧] ولُغَةُ تَمِيمٍ الرَّفْعُ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَمْ يَقْرَأْ بِهِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَن قَرَأ عَلى سَلِيقَتِهِ مِن بَنِي تَمِيمٍ قَرَأ (بَشَرٌ) بِالرَّفْعِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، انْتَهى، وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو الَحُوَيْرِثِ الحَنَفِيُّ: (ما هَذا بُشْرى)، قالَ صاحِبُ اللَوامِحِ: فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ بِمَبِيعٍ أوْ بِمُشْرًى أيْ: لَيْسَ هَذا مِمّا يُشْتَرى ويُباعُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَيْسَ بِثَمَنٍ كَأنَّهُ قالَ: هو أرْفَعُ مِن أنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الأشْياءِ، فالشِّراءُ هو مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقامَ المَفْعُولِ بِهِ، وتابَعَهُما عَبْدُ الوارِثِ عَنْ أبِي عَمْرٍو عَلى ذَلِكَ، وزادَ عَلَيْهِما: (إلّا مَلِكٌ) بِكَسْرِ اللّامِ واحِدُ المُلُوكِ، فَهم نَفُوا بِذَلِكَ عَنْهُ ذُلَّ المَمالِيكِ وجَعَلُوهُ في حَيِّزِ المُلُوكِ، واللَّهُ أعْلَمُ، انْتَهى. ونَسَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَسْرَ اللّامِ لِلْحَسَنِ وأبِي الحُوَيْرِثِ اللَّذَيْنِ قَرَآ (بُشْرى) قالَ: لَمّا اسْتَعْظَمْنَ حُسْنَ صُورَتِهِ قُلْنَ هَذا ما يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ عَبْدًا بُشْرى، إنْ هَذا إلّا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مَلِكًا كَرِيمًا، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ (ما هَذا بُشْرى) أيْ: بِعَبْدٍ مَمْلُوكٍ لَئِيمٍ، إنْ هَذا إلّا مَلِكٌ كَرِيمٌ، تَقُولُ: هَذا بُشْرى؛ أيْ: حاصِلُ بُشْرى، بِمَعْنى هَذا مُشْتَرِي، وتَقُولُ: هَذا لَكَ بُشْرى؛ أيْ: بِكْرًا. وقالَ: وإعْمالُ (ما) عَمَلَ لَيْسَ هي اللُّغَةُ القُدْمى الحِجازِيَّةُ، وبِها ورَدَ القُرْآنُ، انْتَهى. وإنَّما قالَ القُدْمى؛ لِأنَّ الكَثِيرَ في لُغَةِ الحِجازِ إنَّما هو جَرُّ الخَبَرِ بِالباءِ، فَتَقُولُ: ما زَيْدٌ بِقائِمٍ، وعَلَيْهِ أكْثَرُ ما جاءَ في القُرْآنِ، وأمّا نَصْبُ الخَبَرِ فَمِن لُغَةِ الحِجازِ القَدِيمَةِ، حَتّى أنَّ النَّحْوِيِّينَ لَمْ يَجِدُوا شاهِدًا عَلى نَصْبِ الخَبَرِ في أشْعارِ الحِجازِ يِّينَ غَيْرَ قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وأنا النَّذِيرُ بِحُرَّةٍ مُسَوَّدَةٍ ∗∗∗ تَصِلُ الجُيُوشَ إلَيْكم أقْوادُها ؎أبْناؤُها مُتَكَنِّفُونَ أباهم ∗∗∗ حَنَقُوا الصُّدُورَ وما هم أوْلادُها وقالَ الفَرّاءُ وهو سامِعُ لُغَةٍ حافِظٌ ثِقَةٌ: لا يَكادُ أهْلُ الحِجازِ يَنْطِقُونَ إلّا بِالباءِ، فَلَمّا غَلَبَ عَلى أهْلِ الحِجازِ النُّطْقُ بِالباءِ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اللُّغَةُ القُدْمى الحِجازِ يَّةُ، فالقُرْآنُ جاءَ بِاللُّغَتَيْنِ القُدْمى وغَيْرِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب