الباحث القرآني

﴿فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ﴾ أيْ بِاغْتِيابِهِنَّ وسُوءِ مَقالَتِهِنَّ، وتَسْمِيَةُ ذَلِكَ مَكْرًا لِشَبَهِهِ لَهُ في الإخْفاءِ، وقِيلَ: كانَتِ اسْتَكْتَمَتْهُنَّ سِرَّها فَأفْشَيْنَهُ وأطْلَعْنَ عَلى أمْرِها، وقِيلَ: إنَّهُنَّ قَصَدْنَ بِتِلْكَ المَقالَةِ إغْضابِها حَتّى تَعْرِضَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفَ لِتُبْدِيَ عُذْرَها فَيَفُزْنَ بِمُشاهَدَتِهِ، والمَكْرُ عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ حَقِيقَةٌ ﴿أرْسَلَتْ إلَيْهِنَّ﴾ تَدْعُوهُنَّ، قِيلَ: دَعَتْ أرْبَعِينَ امْرَأةً مِنهُنَّ الخَمْسُ أوِ الأرْبَعُ المَذْكُوراتُ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ وهْبٍ، والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى تِلْكَ النِّسْوَةِ القائِلَةِ ما قُلْنَ عَنْها ﴿وأعْتَدَتْ﴾ أيْ هَيَّأتْ ﴿لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾ (p-228)أيْ ما يَتَّكِئْنَ عَلَيْهِ مِنَ النَّمارِقِ والوَسائِدِ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وهو مِن الِاتِّكاءِ المَيْلُ إلى أحَدِ الشِّقَّيْنِ، وأصْلُهُ مَوْتَكَأٌ لِأنَّهُ مِن تَوَكَّأْتُ فَأُبْدِلَتِ الواوُ تاءً وأُدْغِمَتْ في مِثْلِها، ورُوِيَ عَنِ الحَبْرِ أيْضًا أنَّ المُتَّكَأ مَجْلِسُ الطَّعامِ لِأنَّهم كانُوا يَتَّكِئُونَ كَعادَةِ المُتْرَفِينَ المُتَكَبِّرِينَ، ولِذَلِكَ نُهِيَ عَنْهُ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ نَهى أنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشَمالِهِ وأنْ يَأْكُلَ مُتَّكِئًا،» وقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ نَفْسُ الطَّعامِ، قالَ العُتْبِيُّ: يُقالُ: اتَّكَأْنا عِنْدَ فُلانٍ أيْ أكَلْنا؛ ومِن ذَلِكَ قَوْلُ جَمِيلٍ: ؎فَظَلِلْنا بِنِعْمَةٍ واتَّكَأْنا وشَرِبْنا الحَلالَ مِن قُلَلِهِ وهُوَ عَلى هَذا اسْمُ مَفْعُولٍ أيْ مُتَّكِئًا لَهُ أوْ مَصْدَرٌ أيِ اتِّكاءً، وعَبَّرَ بِالهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْها الآكِلُ المُتْرَفُ عَنْ ذَلِكَ مَجازًا، وقِيلَ: هو مِن بابِ الكِنايَةِ، وعَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ الطَّعامُ يُحَزُّ حَزًّا بِالسِّكِّينِ واخْتَلَفُوا في تَعْيِينِهِ، فَقِيلَ: كانَ لَحْمًا وكانُوا لا يَنْهَشُونَ اللَّحْمَ، وإنَّما يَأْكُلُونَهُ حَزًّا بِالسَّكاكِينِ، وقِيلَ: كانَ أُتْرُجًّا ومَوْزًا وبِطِّيخًا، وقِيلَ: الزَّماوَرْدُ وهو الرُّقاقُ المَلْفُوفُ بِاللَّحْمِ وغَيْرُهُ أوْ شَيْءٌ شَبِيهٌ بِالأُتْرُجِّ، وكَأنَّهُ إنَّما سُمِّيَ ما يُقْطَعُ بِالسِّكِّينِ بِذَلِكَ لِأنَّ عادَةَ مَن يَقْطَعُ شَيْئًا أنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُتَّكَأً عَلَيْهِ، وقَرَأ الزُّهْرِيُّ وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ -مُتَّكًى مُشَدَّدُ التّاءِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ بِوَزْنِ مُتَّقًى وهو حِينَئِذٍ إمّا أنْ يَكُونَ مِن الِاتِّكاءِ وفِيهِ تَخْفِيفُ الهَمْزَةِ كَما قالُوا في تَوَضَّأْتُ: تَوَضَّيْتُ، أوْ يَكُونُ مُفْتَعَلًا مِن أوْكَيْتُ السِّقاءَ إذا شَدَدْتَهُ بِالوِكاءِ، والمَعْنى أعْتَدَتْ لَهُنَّ ما يُشْتَدُّ عَلَيْهِ بِالِاتِّكاءِ أوْ بِالقَطْعِ بِالسِّكِّينِ، وقَرَأ الأعْرَجُ مَتْكَأً عَلى وزْنِ مَفْعَلًا مِن تَكَأ يَتْكَأُ إذا اتَّكَأ، وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ هُرْمُزَ مُتَّكَأٌ بِالمَدِّ والهَمْزِ وهو مُفْتَعَلٌ مِن الِاتِّكاءِ إلّا أنَّهُ أشْبَعَ الفَتْحَةَ فَتَوَلَّدَتْ مِنها الألِفُ وهو كَثِيرٌ في كَلامِهِمْ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎وأنْتَ مِنَ الغَوائِلِ حِينَ تَرْمِي ∗∗∗ وعَنْ ذَمِّ الرِّجالِ بِمُنْتَزاحِ وقَوْلُهُ: ؎يَنْباعُ مِن ذَفْرى عَضُوبٍ حَسْرَةً ∗∗∗ زَيافَةً مِثْلَ الفَنِيقِ المُكَرَّمِ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وآخَرُونَ مُتْكًا بِضَمِّ المِيمِ وسُكُونِ التّاءِ وتَنْوِينِ الكافِ، وجاءَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ أيْضًا، وهو الأُتْرُجُّ عِنْدَ الأصْمَعِيِّ، وجَماعَةٍ والواحِدُ مَتْكَةٌ، وأنْشَدَ: ؎فَأهْدَتْ (مَتْكَةً) لِبَنِي أبِيها ∗∗∗ تَخِبُّ بِها العَثْمَثْمَةَ الوَقاحَ وقِيلَ: هو اسْمٌ يَعُمُّ جَمِيعَ ما يُقْطَعُ بِالسِّكِّينِ -كالأُتْرُجِّ وغَيْرِهِ- مِنَ الفَواكِهِ، وأنْشَدَ: ؎نَشْرَبُ الإثْمَ بِالصُّواعِ جِهارًا ∗∗∗ ونَرى (المَتْكَ) بَيْنَنا مُسْتَعارًا وهُوَ مِن مَتَكَ الشَّيْءَ بِمَعْنى بَتَكَهُ أيْ قَطَعَهُ، وعَنِ الخَلِيلِ تَفْسِيرُ المُتْكِ مَضْمُومُ المِيمِ بِالعَسَلِ، وعَنْ أبِي عَمْرٍو تَفْسِيرُهُ بِالشَّرابِ الخالِصِ، وحَكى الكِسائِيُّ تَثْلِيثَ مِيمِهِ، وفَسَّرَهُ بِالفالَوْذَجِ، وكَذا حَكى التَّثْلِيثَ المُفَضَّلُ لَكِنْ فَسَّرَهُ بِالزَماوَرْدِ، وذَكَرَ أنَّهُ بِالضَّمِّ المائِدَةُ أوِ الخَمْرُ في لُغَةِ كِنْدَةَ، وبِالفَتْحِ قَرَأ عَبْدُ اللَّهِ ومُعاذٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وفي الآيَةِ عَلى سائِرِ القِراءاتِ حَذْفٌ أيْ فَجِئْنَ وجَلَسْنَ ﴿وآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ سِكِّينًا﴾ . وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: لا يَبْعُدُ أنْ تُسَمّى هَذِهِ الواوُ فَصِيحَةً، وإنَّما أعْطَتْ كُلَّ واحِدَةٍ ذَلِكَ لِتَسْتَعْمِلَهُ في قَطْعِ ما يُعْهَدُ قَطْعُهُ مِمّا قُدِّمَ بَيْنَ أيْدِيهِنَّ وقُرِّبَ إلَيْهِنَّ، وغَرَضُها مِن ذَلِكَ ما سَيَقَعُ مِن تَقْطِيعِ أيْدِيهِنَّ لِتَبْكِتَهُنَّ بِالحُجَّةِ. وقِيلَ: غَرَضُها ذاكَ والتَّهْوِيلُ عَلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن مَكْرِها إذا خَرَجَ عَلى أرْبَعِينَ نِسْوَةٍ مُجْتَمِعاتٍ في (p-229)أيْدِيهِنَّ الخَناجِرُ تُوهِمُهُ أنَّهُنَّ يَثِبْنَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ خائِفًا مِن مَكْرِها دائِمًا فَلَعَلَّهُ يُجِيبُها إلى مُرادِها، والسِّكِّينُ مُذَكَّرٌ عِنْدَ السِّجِسْتانِيِّ قالَ: وسَألْتُ أبا زَيْدٍ الأنْصارِيَّ، والأصْمَعِيَّ وغَيْرَهم مِمَّنْ أدْرَكْناهُ فَكُلُّهم يُذَكِّرُهُ ويُنْكِرُ التَّأْنِيثَ فِيهِ، وعَنِ الفَرّاءِ أنَّهُ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وذَلِكَ حُكِيَ عَنِ اللِّحْيانِي ويَعْقُوبَ، ومَنَعَ بَعْضُهم أنْ يُقالَ: سِكِّينَةٌ، وأُنْشِدَ عَنِ الكِسائِيِّ ما يُخالِفُ ذَلِكَ وهو قَوْلُهُ: ؎الذِّئْبُ سِكِّينَتُهُ في شِدْقِهِ ∗∗∗ ثُمَّ قِرابًا نَصْلُها في حَلْقِهِ ﴿وقالَتِ﴾ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهُنَّ مَشْغُولاتٌ بِمُعالَجَةِ السَّكاكِينِ وإعْمالِها فِيما بِأيْدِيهِنَّ، والعَطْفُ بِالواوِ رُبَّما يُشِيرُ إلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾ أيِ ابْرُزْ لَهُنَّ لَمْ يَكُنْ عَقِيبَ تَرْتِيبِ أُمُورِهِنَّ لِيَتِمَّ غَرَضُها بِهِنَّ. والظّاهِرُ أنَّها لَمْ تَأْمُرْهُ بِالخُرُوجِ إلّا لِمُجَرَّدِ أنْ يَرَيْنَهُ فَيَحْصُلَ مَرامُها، وقِيلَ: أمَرَتْهُ بِالخُرُوجِ عَلَيْهِنَّ لِلْخِدْمَةِ أوْ لِلسَّلامِ، وقَدْ أضْمَرَتْ مَعَ ذَلِكَ ما أضْمَرَتْ يُحْكى أنَّها ألْبَسَتْهُ ثِيابًا بِيضًا في ذَلِكَ اليَوْمِ لِأنَّ الجَمِيلَ أحْسَنُ ما يَكُونُ في البَياضِ ﴿فَلَمّا رَأيْنَهُ﴾ عُطِفَ عَلى مُقَدَّرٍ يَسْتَدْعِيهِ الأمْرُ بِالخُرُوجِ ويَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الكَلامُ أيْ فَخَرَجَ عَلَيْهِنَّ فَرَأيْنَهُ، وإنَّما حُذِفَ عَلى ما قِيلَ: تَحْقِيقًا لِمُفاجَأةِ رُؤْيَتِهِنَّ كَأنَّها تُفَوِّتُ عِنْدَ ذِكْرِ خُرُوجِهِ عَلَيْهِنَّ، وفِيهِ إيذانٌ بِسُرْعَةِ امْتِثالِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأمْرِها فِيما لا يُشاهِدُ مَضَرَّتَهُ مِنَ الأفاعِيلِ، ونَظِيرُ هَذا آتٍ كَما مَرَّ آنِفًا ﴿أكْبَرْنَهُ﴾ أيْ أعْظَمْنَهُ ودَهِشْنَ بِرُؤْيَةِ جَمالِهِ الفائِقِ الرّائِعِ الرّائِقِ، فَإنَّ فَضْلَ جَمالِهِ عَلى جَمالِ كُلِّ جَمِيلٍ كانَ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلى سائِرِ الكَواكِبِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: «رَأيْتُ يُوسُفَ لَيْلَةَ المِعْراجِ كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ،» وحُكِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ إذا سارَ في أزِقَّةِ مِصْرَ تَلَأْلَأ وجْهُهُ عَلى الجُدْرانِ كَما يُرى نُورُ الشَّمْسِ، وجاءَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ أُعْطِيَ ثُلْثَ الحُسْنِ، وفي رِوايَةٍ عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا «أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أُعْطِيَ هو وأُمُّهُ شَطْرَ الحُسْنِ،» وتَقَدَّمَ خَبَرُ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُشْبِهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمَ خَلَقَهُ رَبُّهُ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ مَعْنى أكْبَرْنَ حِضْنَ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ: ؎يَأْتِي النِّساءَ عَلى أطْهارِهِنَّ ∗∗∗ ولا يَأْتِي النِّساءَ إذا أكْبَرْنَ إكْبارًا وكَأنَّهُ إنَّما سُمِّيَ الحَيْضُ إكْبارًا لِكَوْنِ البُلُوغِ يُعْرَفُ بِهِ فَكَأنَّهُ يُدْخِلُ الصِّغارَ سِنَّ الكِبَرِ فَيَكُونُ في الأصْلِ كِنايَةً أوْ مَجازًا، والهاءُ عَلى هَذا إمّا ضَمِيرُ المَصْدَرِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: أكْبَرْنَ إكْبارًا، وإمّا ضَمِيرُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى إسْقاطِ الجارِّ أيْ حِضْنَ لِأجْلِهِ مِن شَدَّةِ شَبَقِهِنَّ، والمَرْأةُ كَما زَعَمَ الواحِدِيُّ إذا اشْتَدَّ شَبَقُها حاضَتْ، ومِن هُنا أخَذَ المُتَنَبِّي قَوْلَهُ: ؎خَفِ اللَّهَ واسْتُرْ ذا الجَمالِ بِبُرْقُعٍ ∗∗∗ إذا لُحْتَ حاضَتْ في الخُدُورِ العَواتِقُ وقِيلَ: إنَّ الهاءَ لِلسَّكْتِ، ورُدَّ بِأنَّها لا تُحَرَّكُ ولا تَثْبُتُ في الوَصْلِ، وإجْراءُ الوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ وتَحْرِيكُها تَشْبِيهًا لَها بِالضَّمِيرِ كَما في قَوْلِهِ: ؎واحَرَّ قَلْباهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبَمُ. عَلى تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ ضَعِيفٌ في العَرَبِيَّةِ. واعْتَرَضَ في الكَشْفِ التَّخْرِيجَيْنِ الأوَّلَيْنِ فَقالَ: إنَّ نَزْعَ الخافِضِ ضَعِيفٌ لِأنَّهُ إنَّما يَجْرِي في الظُّرُوفِ (p-230)والصِّفاتِ والصِّلاتِ، وذَلِكَ لِدَلالَةِ الفِعْلِ عَلى مَكانِ الحَذْفِ، وأمّا في مِثْلِ هَذا فَلا، والمَصْدَرُ لَيْسَ مِن مَجازِهِ إذْ لَيْسَ المَقامُ لِلتَّأْكِيدِ، وزَعَمَ أنَّ الوَجْهَ هو الأخِيرُ، وكُلُّ ما ذَكَرَهُ في حَيِّزِ المَنعِ كَما لا يَخْفى. وأنْكَرَ أبُو عُبَيْدَةَ مَجِيءَ أكْبَرْنَ بِمَعْنى حِضْنَ، وقالَ: لا نَعْرِفُ ذَلِكَ في اللُّغَةِ، والبَيْتُ مَصْنُوعٌ مُخْتَلَقٌ لا يَعْرِفُهُ العُلَماءُ بِالشِّعْرِ، ونُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الطَّبَرِيِّ. وابْنِ عَطِيَّةَ. وغَيْرِ واحِدٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ، ورِوايَةُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ إنَّما أخْرَجَها ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وهو -وإنْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِيهِ عَلِيٍّ عَنْ أبِيهِ ابْنِ عَبّاسٍ- لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فَقَدْ قالُوا: إنَّهُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لَيْسَ مِن رُواةِ العِلْمِ. وعَنِ الكُمَيْتِ الشّاعِرِ تَفْسِيرُ أكْبَرْنَ بِأمْنَيْنَ، ولَعَلَّ الكَلامَ في ذَلِكَ كالكَلامِ فِيما تَقَدَّمَ تَخْرِيجًا وقَبُولًا، وأنا لا أرى الكُمَيْتَ مِن خَيْلِ هَذا المَيْدانِ وفُرْسانِ ذَلِكَ الشَّأْنِ ﴿وقَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾ أيْ جَرَحْنَها بِما في أيْدِيهِنَّ مِنَ السَّكاكِينِ لِفَرْطِ دَهْشَتِهِنَّ وخُرُوجِ حَرَكاتِ جَوارِحِهِنَّ عَنْ مِنهاجِ الِاخْتِيارِ حَتّى لَمْ يَعْلَمْنَ بِما عَمِلْنَ ولَمْ يَشْعُرْنَ بِمَأْلَمِ ما نالَهُنَّ، وهَذا كَما تَقُولُ: كُنْتُ أقْطَعُ اللَّحْمَ فَقَطَعْتُ يَدِي، وهو مَعْنًى حَقِيقِيٌّ لِلتَّقْطِيعِ عِنْدَ بَعْضٍ. فِي الكَشْفِ إنَّهُ مَعْنًى مَجازِيٌّ عَلى الأصَحِّ، والتَّضْعِيفُ لِلتَّكْثِيرِ إمّا بِالنِّسْبَةِ لِكَثْرَةِ القاطِعاتِ، وإمّا بِالنِّسْبَةِ لِكَثْرَةِ القَطْعِ في يَدِ كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ فَسَّرَ التَّقْطِيعَ بِالإبانَةِ، والمَعْنى الأوَّلُ أسْرَعُ تَبادُرًا إلى الذِّهْنِ، وحَمْلُ الأيْدِي عَلى الجَوارِحِ المَعْلُومَةِ مِمّا لا يَكادُ يُفْهَمُ خِلافُهُ، ومِنَ العَجِيبِ ما رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِن أنَّ المُرادَ بِها الأكْمامُ، وأظُنُّ أنَّ مَنشَأ هَذا مَحْضُ اسْتِبْعادِ وُقُوعِ التَّقْطِيعِ عَلى الأيْدِي بِالمَعْنى المُتَبادَرِ، ولَعَمْرِي لَوْ عُرِضَ ما قالَهُ عَلى أدْنى الأفْهامِ لاسْتَبْعَدَتْهُ ﴿وقُلْنَ﴾ تَنْزِيهًا لِلَّهِ سُبْحانَهُ عَنْ صِفاتِ التَّقْصِيرِ والعَجْزِ وتَعَجُّبًا مِن قُدْرَتِهِ جَلَّ وعَلا عَلى مِثْلِ ذَلِكَ الصُّنْعِ البَدِيعِ ﴿حاشَ لِلَّهِ﴾ أصْلُهُ حاشا اللَّهَ بِالألِفِ كَما قَرَأ أبُو عَمْرٍو في الدَّرَجِ فَحُذِفَتْ ألِفُهُ الأخِيرَةُ تَخْفِيفًا، وهو عَلى ما قِيلَ: حَرْفٌ وُضِعَ لِلِاسْتِثْناءِ والتَّنْزِيهِ مَعًا ثُمَّ نُقِلَ وجُعِلَ اسْمًا بِمَعْنى التَّنْزِيهِ وتَجَرَّدَ عَنْ مَعْنى الِاسْتِثْناءِ ولَمْ يُنَوَّنْ مُراعاةً لِأصْلِهِ المَنقُولِ عَنْهُ، وكَثِيرًا ما يُراعُونَ ذَلِكَ، ألا تَراهم قالُوا: جَلَسْتُ مِن عَنْ يَمِينِهِ؟ فَجَعَلُوا –عَنْ- اسْمًا ولَمْ يُعْرِبُوهُ، وقالُوا: غَدَتْ مِن عَلَيْهِ فَلَمْ يُثْبِتُوا ألِفَ عَلى مَعَ المُضْمَرِ كَما أثْبَتُوا ألِفَ فَتى في فَتاهُ كُلُّ ذَلِكَ مُراعاةٌ لِلْأصْلِ، واللّامُ لِلْبَيانِ فَهي مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، ورَدَ في البَحْرِ دَعْوى إفادَتِهِ والتَّنْزِيهِ في الِاسْتِثْناءِ بِأنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ النُّحاةِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدًا، وحاشا زَيْدًا، وتُعُقِّبَ بِأنَّ عَدَمَ ذِكْرِ النُّحاةِ ذَلِكَ لا يَضُرُّ لِأنَّهُ وظِيفَةُ اللُّغَوِيِّينَ لا وظِيفَتُهُمْ، واعْتَرَضَ بَعْضُهم حَدِيثَ النَّقْلِ بِأنَّ الحَرْفَ لا يَكُونُ اسْمًا إلّا إذا نُقِلَ وسُمِّيَ بِهِ وجُعِلَ عَلَمًا، وحِينَئِذٍ يَجُوزُ فِيهِ الحِكايَةُ والإعْرابُ، ولِذا جَعَلَهُ ابْنُ الحاجِبِ اسْمَ فِعْلٍ بِمَعْنى بَرِئَ اللَّهُ تَعالى مِنَ السُّوءِ، ولَعَلَّ دُخُولَ اللّامِ كَدُخُولِها في ﴿هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ﴾، وكَوْنُ المَعْنى عَلى المَصْدَرِيَّةِ لا يَرُدُّ عَلَيْهِ لِأنَّهُ قِيلَ: إنَّ أسْماءَ الأفْعالِ مَوْضُوعَةٌ لِمَعانِي المَصادِرِ وهو المَنقُولُ عَنِ الزَّجّاجِ، نَعَمْ ذَهَبَ المُبَرِّدُ وأبُو عَلِيٍّ وابْنُ عَطِيَّةَ وجَماعَةٌ إلى أنَّهُ فِعْلٌ ماضٍ بِمَعْنى جانِبٍ، وأصْلُهُ مِن حاشِيَةِ الشَّيْءِ وحْشَيُهُ أيْ جانِبُهُ وناحِيَتُهُ، وفِيهِ ضَمِيرُ يُوسُفَ واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ أيْ جانِبَ يُوسُفَ ما قَرِفَ بِهِ لِلَّهِ تَعالى أيْ لِأجْلِ خَوْفِهِ ومُراقَبَتِهِ، والمُرادُ تَنْزِيهُهُ وبُعْدُهُ كَأنَّهُ صارَ في جانِبٍ عَمّا اتُّهِمَ بِهِ لِما رُؤِيَ فِيهِ مِن آثارِ العِصْمَةِ وأُبَّهَةِ النُّبُوَّةِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا يَخْفى أنَّهُ عَلى هَذا يُفَوِّتُ مَعْنى التَّعَجُّبِ، واسْتَدَلَّ عَلى اسْمِيَّتِها بِقِراءَةِ أبِي السِّمالِ (p-231)(حاشًا لِلَّهِ) بِالتَّنْوِينِ، وهو في ذَلِكَ عَلى حَدِّ: سَقْيًا لَكَ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ اسْمَ فِعْلٍ والتَّنْوِينُ كَما في صَهٍ وكَذا بِقِراءَةِ أُبَيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما -حاشا اللَّهِ- بِالإضافَةِ كَسُبْحانَ اللَّهِ، وزَعَمَ الفارِسِيُّ أنَّ (حاشا) في ذَلِكَ حَرْفُ جَرٍّ مُرادًا بِهِ الِاسْتِثْناءُ كَما في قَوْلِهِ: ؎(حاشا) أبِي ثَوْبانَ إنَّ أبا ∗∗∗ ثَوْبانَ لَيْسَ بِبِكْمَةٍ فَدَمِ ورُدَّ بِأنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ هُنا ما يُسْتَثْنى مِنهُ، وجاءَ في رِوايَةٍ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قَرَأ -حاشْ لِلَّهِ- بِسُكُونِ الشِّينِ وصْلًا ووَقْفًا مَعَ لامِ الجَرِّ في الِاسْمِ الجَلِيلِ عَلى أنَّ الفَتْحَةَ أتْبَعَتِ الألِفَ في الإسْقاطِ لِأنَّها كالعَرَضِ اللّاحِقِ لَها، وضُعِّفَتْ هَذِهِ القِراءَةُ بِأنَّ فِيها التِقاءَ السّاكِنِينِ عَلى غَيْرِ حَدِّهِ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ -حاشَ الإلَهَ- وقَرَأ الأعْمَشُ -حَشا لِلَّهِ- بِحَذْفِ الألِفِ الأُولى، هَذا واسْتَدَلَّ المُبَرَّدُ، وابْنُ جِنِّيٍّ، والكُوفِيُّونَ عَلى أنَّ –حاشٍ- قَدْ تَكُونُ فِعْلًا بِالتَّصَرُّفِ فِيها بِالحَذْفِ كَما عَلِمَتْ في هَذِهِ القِراءاتِ، وبِأنَّهُ قَدْ جاءَ المُضارِعُ مِنها كَما في قَوْلِ النّابِغَةِ: ؎ولا أرى فاعِلًا في النّاسِ يُشْبِهُهُ ∗∗∗ ولا –أُحاشِي- مِنَ الأقْوامِ مِن أحَدٍ ومَقْصُودُهُمُ الرَّدُّ عَلى –س- وأكْثَرِ البَصْرِيَّةِ حَيْثُ أنْكَرُوا فِعْلِيَّتَها، وقالُوا: إنَّها حَرْفٌ دائِمًا بِمَنزِلَةِ إلّا لَكِنَّها تَجُرُّ المُسْتَثْنى، وكَأنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّصْبُ بِها كَما في قَوْلِهِ: ؎حاشا قُرَيْشًا فَإنَّ اللَّهَ فَضَّلَهم. ورُبَّما يُجِيبُونَ عَنِ التَّصَرُّفِ بِالحَذْفِ بِأنَّ الحَذْفَ قَدْ يَدْخُلُ الحَرْفَ كَقَوْلِهِمْ: أما واللَّهِ وأمَ واللَّهِ، نَعَمْ رُدَّ عَلَيْهِمْ أيْضًا بِأنَّها تَقَعُ قَبْلَ حَرْفِ الجَرِّ، ويُقابِلُ هَذا القَوْلَ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الفَرّاءُ مِن أنَّها لا تَكُونُ حَرْفًا أصْلًا بَلْ هي فِعْلٌ دائِمًا ولا فاعِلَ لَها، والجَرُّ الوارِدُ بَعْدَها كَما في. حاشايَ إنِّي مُسْلِمٌ مَعْذُورٌ. والبَيْتُ المارُّ آنِفًا بِلامٍ مُقَدَّرَةٍ، والحَقُّ أنَّها تَكُونُ فِعْلًا تارَةً فَيَنْصِبُ ما بَعْدَها ولَها فاعِلٌ وهو ضَمِيرٌ مُسْتَكِنٌّ فِيها وُجُوبًا يَعُودُ إمّا عَلى البَعْضِ المَفْهُومِ مِنَ الكَلامِ، أوِ المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِنَ الفِعْلِ، ولِذا لَمْ يُثَنَّ ولَمْ يُجْمَعْ ولَمْ يُؤَنَّثْ، وحُرُوفًا أُخْرى ويُجَرُّ ما بَعْدَها، ولا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ كالحُرُوفِ الزّائِدَةِ عِنْدَ ابْنِ هِشامٍ، أوْ تَتَعَلَّقُ بِما قَبْلَها مِن فِعْلٍ أوْ شَبَهِهِ عِنْدَ بَعْضٍ، ولا تَدْخُلُ عَلَيْها إلّا كَما إذا كانَتْ فِعْلًا خِلافًا لِلْكِسائِيِّ في زَعْمِهِ جَوازَ ذَلِكَ إذا جَرَتْ، وأنَّها إذا وقَعَتْ قَبْلَ لامِ الجَرِّ كانَتِ اسْمَ مَصْدَرٍ مُرادِفًا لِلتَّنْزِيهِ، وتَمامُ الكَلامِ في مَحَلِّهِ ﴿ما هَذا بَشَرًا﴾ نَفَيْنَ عَنْهُ البَشَرِيَّةَ لِما شاهَدْنَ مِن جَمالِهِ الَّذِي لَمْ يُعْهَدْ مِثالُهُ في النَّوْعِ الإنْسانِيِّ، وقَصَرَهُنَّ عَلى المَلَكِيَّةِ بِقَوْلِهِنَّ: ﴿إنْ هَذا﴾ أيْ ما هَذا ﴿إلا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ أيْ شَرِيفٌ كَثِيرُ المَحاسِنِ بِناءً عَلى ما رَكَزَ في الطِّباعِ مِن أنَّهُ لا حَيَّ أحْسَنُ مِنَ المَلَكِ كَما رَكَزَ فِيها أنْ لا أقْبَحَ مِنَ الشَّيْطانِ، ولِذا لا يَزالُ يُشَبَّهُ بِهِما كُلُّ مُتَناهٍ في الحُسْنِ والقُبْحِ وإنْ لَمْ يَرَهُما أحَدٌ، وأنْشَدُوا لِبَعْضِ العَرَبِ: ؎فَلَسْتُ لِإنْسِيٍّ ولَكِنْ لِمَلاكٍ ∗∗∗ تَنَزَّلَ مِن جَوِّ السَّماءِ يُصَوِّبُ وكَثُرَ في شِعْرِ المُحْدَثِينَ ما هو مِن هَذا البابِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎تَرَكَ إذا قُوبِلُوا كانُوا مَلائِكَةً ∗∗∗ حُسْنًا وإنْ قُوتِلُوا كانُوا عَفارِيتا وغَرَضُهُنَّ مِن هَذا وصْفُهُ بِأنَّهُ في أقْصى مَراتِبِ الحُسْنِ والكَمالِ المُلائِمِ لِطِباعِهِنَّ، ويُعْلَمُ مِمّا قُرِّرَ أنَّ الآيَةَ لا تَقُومُ دَلِيلًا عَلى أنَّ المَلَكَ أفْضَلُ مِن بَنِي آدَمَ كَما ظَنَّ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ وأتْباعُهُ وأيَّدَهُ الفَخْرُ -ولا فَخْرَ لَهُ- بِما أيَّدَهُ، وذَهَبَ غَيْرُ واحِدٍ إلى أنَّ الغَرَضَ تَنْزِيهُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَمّا رُمِيَ بِهِ عَلى أكْمَلِ وجْهٍ، وافْتَتَحُوا ذَلِكَ -بِحاشا لِلَّهِ- (p-232)عَلى ما هو الشّائِعُ في مِثْلِ ذَلِكَ، فَفي شَرْحِ التَّسْهِيلِ الِاسْتِعْمالُ عَلى أنَّهم إذا أرادُوا تَبْرِئَةَ أحَدٍ مِن سُوءٍ ابْتَدَأُوا تَبْرِئَةَ اللَّهِ سُبْحانَهُ مِنَ السُّوءِ ثُمَّ يُبَرِّئُونَ مَن أرادُوا تَبْرِئَتَهُ عَلى مَعْنى أنَّ اللَّهَ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ لا يُطَهِّرَهُ مِمّا يَضِيمُهُ فَيَكُونُ آكَدَ وأبْلَغَ، والمَنصُورُ ما أُشِيرَ إلَيْهِ أوَّلًا وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّياقُ والسِّباقُ، نَعَمْ هَذا الِاسْتِعْمالُ ظاهِرٌ فِيما يَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى مِن قَوْلِهِ تَعالى عَنِ النِّسْوَةِ: ﴿حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ﴾ و(ما) عامِلَةٌ عَمَلَ لَيْسَ وهي لُغَةٌ لِلْحِجازِيِّينَ لِمُشابَهَتِها لَها في نَفْيِ الحالِ عَلى ما هو المَشْهُورُ في لَيْسَ مِن أنَّها لِذَلِكَ أوْ في مُطْلَقِ النَّفْيِ بِناءً عَلى ما قالَ الرَّضِيُّ مِن أنَّها تَرِدُ لِنَفْيِ الماضِي والمُسْتَقْبَلِ، والغالِبُ عَلى لُغَتِهِمْ جَرُّ الخَبَرِ بِالباءِ حَتّى أنَّ النَّحْوِيِّينَ لَمْ يَجِدُوا شاهِدًا عَلى النَّصْبِ في أشْعارِهِمْ غَيْرَ قَوْلِهِ: ؎وأنا النَّذِيرُ بِحُرَّةٍ مُسَوَّدَةٍ ∗∗∗ تَصِلُ الجُيُوشُ إلَيْكم قِوادَها ؎أبْناؤُها مُتَكَنِّفُونَ أباهم ∗∗∗ حَنَقُوا الصُّدُورَ وما هم أوْلادَها والزَّمَخْشَرِيُّ يُسَمِّي هَذِهِ اللُّغَةَ: اللُّغَةُ القُدْمى الحِجازِيَّةُ، ولُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ في مِثْلِ ذَلِكَ الرَّفْعُ، وعَلى هَذا جاءَ قَوْلُهُ: ؎ومُهَفْهَفُ الأعْطافِ قُلْتُ لَهُ انْتَسِبْ ∗∗∗ فَأجابَ ما قَتْلُ المُحِبِّ حَرامُ وبِلُغَتِهِمْ قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وزَعَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِها أحَدٌ هُنا، وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو الحُوَيْرِثِ الحَنَفِيُّ -ما هَذا بِشِرى- بِالباءِ الجارَّةِ وكَسْرِ الشِّينِ عَلى أنَّ شِرى -كَما قالَ صاحِبُ اللَّوائِحِ- مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقامَ المَفْعُولِ بِهِ أيْ ما هَذا بِمَشْرِيٍّ أيْ لَيْسَ مِمَّنْ يُشْتَرى بِمَعْنى أنَّهُ أعَزُّ مِن أنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. ورَوى هَذِهِ القِراءَةَ عَبْدُ الوارِثِ عَنْ أبِي عَمْرٍو أيْضًا إلّا أنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ مَعَ ذَلِكَ كَسَرَ اللّامَ مِن مَلِكٍ، ورَوى الكَسْرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الحَسَنِ، وأبِي الحُوَيْرِثِ أيْضًا، والمُرادُ إدْخالُهُ في حَيِّزِ المُلُوكِ بَعْدُ، فَفي كَوْنِهِ مِمّا يَصْلُحُ لِلْمُلُوكِيَّةِ فَبَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ تَناسُبٌ ظاهِرٌ، وكَأنَّ بَعْضَهم لَمْ يَرَ أنَّ مَن قَرَأ بِذَلِكَ قَرَأ أيْضًا (مَلِكٌ) بِكَسْرِ اللّامِ فَقالَ: لِتَحْصِيلِ التَّناسُبِ بَيْنَهُما في تَفْسِيرِ ذَلِكَ أيْ ما هَذا بِعَبْدٍ مُشْتَرًى لَئِيمٍ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لا يُقالُ: إنَّ هَذِهِ القِراءَةَ مُخالِفَةٌ لِمُقْتَضى المَقامِ، نَعَمْ إنَّها مُخالِفَةٌ لِرَسْمِ المُصْحَفِ لِأنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ بِالياءِ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب