الباحث القرآني

(p-٣٥٠)﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ أجْمَعُوا أمْرَهم وهم يَمْكُرُونَ﴾ ﴿وما أكْثَرُ النّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وما تَسْألُهم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿وكَأيِّنْ مِن آيَةٍ في السَّماواتِ والأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهم عَنْها مُعْرِضُونَ﴾ ﴿وما يُؤْمِنُ أكْثَرُهم بِاللَّهِ إلّا وهم مُشْرِكُونَ﴾ ﴿أفَأمِنُوا أنْ تَأْتِيَهم غاشِيَةٌ مِن عَذابِ اللَّهِ أوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: سَألَتْ قُرَيْشٌ واليَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ فَنَزَلَتْ مَشْرُوحَةً شَرْحًا وافِيًا، وأمَلَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإسْلامِهِمْ، فَخالَفُوا تَأْمِيلَهُ، فَعَزّاهُ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿وما أكْثَرُ النّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ الآياتِ. وقِيلَ: في المُنافِقِينَ، وقِيلَ: الثَّنَوِيَّةِ. وقِيلَ: في النَّصارى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في تَلْبِيَةِ المُشْرِكِينَ. وقِيلَ: في أهْلِ الكِتابِ آمَنُوا بِبَعْضٍ وكَفَرُوا بِبَعْضٍ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الإيمانِ والشِّرْكِ. والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى ما قَصَّهُ اللَّهُ مِن قِصَّةِ يُوسُفَ وإخْوَتِهِ ﴿وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ أيْ: عِنْدَ بَنِي يَعْقُوبَ حِينَ أجْمَعُوا أمْرَهم عَلى أنْ يَجْعَلُوهُ في الجُبِّ، ولا حِينَ ألْقَوْهُ فِيهِ، ولا حِينَ التَقَطَتْهُ السَّيّارَةُ، ولا حِينَ بِيعَ. وهم يَمْكُرُونَ: أيْ يَبْغُونَ الغَوائِلَ لِيُوسُفَ، ويَتَشاوَرُونَ فِيما يَفْعَلُونَ بِهِ، أوْ يَمْكُرُونَ بِيَعْقُوبَ حِينَ أتَوْا بِالقَمِيصِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ، وفي هَذا تَصْرِيحٌ لِقُرَيْشٍ بِصِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وهَذا النَّوْعُ مِن عِلْمِ البَيانِ يُسَمّى بِالِاحْتِجاجِ النَّظَرِيِّ، وبَعْضُهم يُسَمِّيهِ المَذْهَبَ الكَلامِيَّ، وهو أنْ يُلْزِمَ الخَصْمَ ما هو لازِمٌ لِهَذا الِاحْتِجاجِ - وتَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ في آلِ عِمْرانَ وفي هُودٍ - وهَذا تَهَكُّمٌ بِقُرَيْشٍ وبِمَن كَذَّبَهُ؛ لِأنَّهُ لا يَخْفى عَلى أحَدٍ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِن حَمَلَةِ هَذا الحَدِيثِ وأشْباهِهِ، ولا لَقِيَ فِيها أحَدًا ولا سَمِعَ مِنهُ، ولَمْ يَكُنْ مِن عِلْمِ قَوْمِهِ، فَإذا أخْبَرَ بِهِ وقَصَّهُ هَذا القَصَصَ الَّذِي أعْجَزَ حَمَلَتَهُ ورُواتَهُ لَمْ تَقَعْ شُبْهَةٌ في أنَّهُ لَيْسَ مِنهُ، وإنَّما هو مِن جِهَةِ القُرُونِ الخالِيَةِ، ونَحْوُهُ ﴿وما كُنْتَ بِجانِبِ الغَرْبِيِّ إذْ قَضَيْنا إلى مُوسى الأمْرَ﴾ [القصص: ٤٤] فَقَوْلُهُ: ﴿وما كُنْتَ﴾ هُنا تَهَكُّمٌ بِهِمْ؛ لِأنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أحَدٍ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ ما كانَ مَعَهم. (وأجْمَعُوا أمْرَهم) أيْ: عَزَمُوا عَلى إلْقاءِ يُوسُفَ في الجُبِّ (p-٣٥١)﴿وهم يَمْكُرُونَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ. والمَكْرُ: أنْ يُدَبِّرَ عَلى الإنْسانِ تَدْبِيرًا يَضُرُّهُ ويُؤْذِيهِ، و(النّاسِ) الظّاهِرُ العُمُومُ لِقَوْلِهِ: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [هود: ١٧] وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهم أهْلُ مَكَّةَ ﴿ولَوْ حَرَصْتَ﴾ ولَوْ بالَغْتَ في طَلَبِ إيمانِهِمْ لا يُؤْمِنُونَ لِفَرْطِ عِنادِهِمْ وتَصْمِيمِهِمْ عَلى الكُفْرِ، وجَوابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ أيْ: ولَوْ حَرَصْتَ لَمْ يُؤْمِنُوا، إنَّما يُؤْمِنُ مَن يَشاءُ اللَّهُ إيمانَهُ، والضَّمِيرُ في (عَلَيْهِ) عائِدٌ عَلى دِينِ اللَّهِ أيْ: ما تَبْتَغِي عَلَيْهِ أجْرًا عَلى دِينِ اللَّهِ، وقِيلَ: عَلى القُرْآنِ، وقِيلَ: عَلى التَّبْلِيغِ، وقِيلَ: عَلى الأنْباءِ بِمَعْنى القَوْلِ، وفِيهِ تَوْبِيخٌ لِلْكَفَرَةِ، وإقامَةُ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، أوْ وما تَسْألُهم عَلى ما تُحَدِّثُهم بِهِ وتُذَكِّرُهم أنْ يُنِيلُوكَ مَنفَعَةً وجَدْوى - كَما يُعْطِي جُمْلَةَ الأحادِيثِ والأخْبارِ - إنْ هو إلّا مَوْعِظَةٌ وذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ لِلْعالَمِينَ عامَّةً، وحَثٌّ عَلى طَلَبِ النَّجاةِ عَلى لِسانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقَرَأ بِشْرُ بْنُ عُبَيْدٍ: (وما نَسْألُهم) بِالنُّونِ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهم لِفَرْطِ كُفْرِهِمْ يَمُرُّونَ عَلى الآياتِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِلْإيمانِ ولا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ، وأنَّ تِلْكَ الآياتِ هي في العالَمِ العُلْوِيِّ وفي العالَمِ السُّفْلِيِّ، وتَقَدَّمَ قِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ (وكائِنٌ) قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وهو اسْمُ فاعِلٍ مِن كانَ فَهو كائِنٌ، ومَعْناها مَعْنى كَمْ في التَّكْثِيرِ، انْتَهى. وهَذا شَيْءٌ يُرْوى عَنْ يُونُسَ، وهو قَوْلٌ مَرْجُوحٌ في النَّحْوِ، والمَشْهُورُ عِنْدَهم أنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن كافِ التَّشْبِيهِ ومِن أيْ، وتَلاعَبَتِ العَرَبُ بِهِ فَجاءَتْ بِهِ لُغاتٌ، وذَكَرَ صاحِبُ اللَوامِحِ أنَّ الحَسَنَ قَرَأ (وكَيِ) بِياءٍ مَكْسُورَةٍ مِن غَيْرِ ”هم“ ولا ألِفٍ ولا تَشْدِيدٍ، وجاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، فَهي لُغَةٌ، انْتَهى. ﴿مِن آيَةٍ﴾ عَلامَةٌ عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ وصِفاتِهِ، وصِدْقِ ما جِيءَ بِهِ عَنْهُ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ وعَمْرُو بْنُ فائِدٍ: (والأرْضُ) بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، وما بَعْدَهُ خَبَرٌ. ومَعْنى ﴿يَمُرُّونَ عَلَيْها﴾ فَيُشاهِدُونَ ما فِيها مِنَ الآياتِ. وقَرَأ السُّدِّيُّ: (والأرْضَ) بِالنَّصْبِ، وهو مِن بابِ الِاشْتِغالِ أيْ: ويَطْوُونَ الأرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْها عَلى آياتِها، وما أوْدَعَ فِيها مِنَ الدَّلالاتِ، والضَّمِيرُ في (عَلَيْها، وعَنْها) في هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ يَعُودُ عَلى الأرْضِ، وفي قِراءَةِ الجُمْهُورِ وهي بِجَرِّ الأرْضِ، يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلى (آيَةٍ) أيْ: يَمُرُّونَ عَلى تِلْكَ الآياتِ ويُشاهِدُونَ تِلْكَ الدَّلالاتِ، ومَعَ ذَلِكَ لا يَعْتَبِرُونَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: (والأرْضُ) بِرَفْعِ الضّادِ، ومَكانُ يَمُرُّونَ يَمْشُونَ، والمُرادُ: ما يَرَوْنَ مِن آثارِ الأُمَمِ الهالِكَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العِبَرِ. ﴿وهم مُشْرِكُونَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ؛ أيْ: إيمانُهم مُلْتَبِسٌ بِالشِّرْكِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هم أهْلُ الكِتابِ، أشْرَكُوا بِاللَّهِ مِن حَيْثُ كَفَرُوا بِنَبِيِّهِ، أوْ مِن حَيْثُ ما قالُوا في عُزَيْرٍ والمَسِيحِ. وقالَ عِكْرِمَةُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ: هم كُفّارُ العَرَبِ أقَرُّوا بِالخالِقِ الرّازِقِ المُحْيِـي المُمِيتِ، وكَفَرُوا بِعِبادَةِ الأوْثانِ والأصْنامِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ. وقِيلَ: هم أهْلُ مَكَّةَ قالُوا: اللَّهُ رَبُّنا لا شَرِيكَ لَهُ، والمَلائِكَةُ بَناتُهُ، فَأشْرَكُوا ولَمْ يُوَحِّدُوا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وعِكْرِمَةَ والشَّعْبِيِّ وقَتادَةَ أيْضًا ذَلِكَ في تَلْبِيَتِهِمْ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ، إلّا شَرِيكٌ هو لَكَ تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ. وفي الحَدِيثِ كانَ ﷺ «إذا سَمِعَ أحَدَهم يَقُولُ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ يَقُولُ لَهُ: ”قَطُّ قَطُّ“» أيْ: قِفْ هُنا ولا تَزِدْ إلّا شَرِيكٌ هو لَكَ، وقِيلَ: هُمُ الثَّنَوِيَّةُ قالُوا بِالنُّورِ والظُّلْمَةِ. وقالَ عَطاءٌ: هَذا في الدُّعاءِ يَنْسى الكُفّارُ رَبَّهم في الرَّخاءِ، فَإذا أصابَهُمُ البَلاءُ أخْلَصُوا في الدُّعاءِ. وقِيلَ: هُمُ المُنافِقُونَ، جَهَرُوا بِالإيمانِ وأخْفَوُا الكُفْرَ. وقِيلَ: عَلى بَعْضِ اليَهُودِ عَبَدُوا عُزَيْرًا، والنَّصارى عَبَدُوا الكَواكِبَ. وقِيلَ: قُرَيْشٌ لَمّا غَشِيَهَمُ الدُّخانُ في سِنِي القَحْطِ قالُوا: إنّا مُؤْمِنُونَ، ثُمَّ عادُوا إلى الشِّرْكِ بَعْدَ كَشْفِهِ. وقِيلَ: جَمِيعُ الخَلْقِ مُؤْمِنِهِمْ بِالرَّسُولِ وكافِرِهِمْ، فالكُفّارُ تَقَدَّمَ شِرْكُهم، والمُؤْمِنُونَ فِيهِمُ الشِّرْكُ الخَفِيُّ، وأقْرَبَهم إلى الكُفْرِ المُشَبِّهَةُ. ولِذَلِكَ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: آمَنُوا مُجْمَلًا، وكَفَرُوا مُفَصَّلًا. وثانِيها: مَن يُطِيعُ الخَلْقَ بِمَعْصِيَةِ الخالِقِ. وثالِثُها: مَن يَقُولُ: نَفَعَنِي فُلانٌ وضَرَّنِي فُلانٌ. (أفَأمِنُوا) ؟ ! اسْتِفْهامُ إنْكارٍ فِيهِ تَوْبِيخٌ وتَهْدِيدٌ، غاشِيَةٌ: نِقْمَةٌ تَغْشاهم؛ أيْ: تُغَطِّيهِمْ كَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَغْشاهُمُ العَذابُ مِن فَوْقِهِمْ ومِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥٥] وقالَ الضَّحّاكُ: يَعْنِي الصَّواعِقَ والقَوارِعَ، انْتَهى. وإتْيانُ الغاشِيَةِ يَعْنِي (p-٣٥٢)فِي الدُّنْيا، وذَلِكَ لِمُقابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿أوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ﴾ أيْ: يَوْمُ القِيامَةِ (بَغْتَةً) أيْ: فَجْأةً في الزَّمانِ مِن حَيْثُ لا يُتَوَقَّعُ ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: (بَغْتَةً) . قالَ الكِرِمْانِيُّ: لا يَشْعُرُونَ بِإتْيانِها؛ أيْ: وهم غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ لَها. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تَأْخُذُهُمُ الصَّيْحَةُ عَلى أسْواقِهِمْ ومَواضِعِهِمْ. وقَرَأ أبُو حَفْصٍ، وبِشْرُ بْنُ عُبَيْدٍ: (أوْ يَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب