الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ أجْمَعُوا أمْرَهم وهم يَمْكُرُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ذَلِكَ﴾ رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ ﴿مِن أنْباءِ الغَيْبِ﴾، و﴿نُوحِيهِ إلَيْكَ﴾ خَبَرٌ ثانٍ ﴿وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ أيْ ما كُنْتَ عِنْدَ إخْوَةِ يُوسُفَ ﴿إذْ أجْمَعُوا أمْرَهُمْ﴾ أيْ عَزَمُوا عَلى أمْرِهِمْ، وذَكَرْنا الكَلامَ في هَذا اللَّفْظِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿وهم يَمْكُرُونَ﴾ أيْ بِيُوسُفَ، واعْلَمْ أنَّ المَقْصِدَ مِن هَذا إخْبارٌ عَنِ الغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. بَيانُ أنَّهُ إخْبارٌ عَنِ الغَيْبِ أنَّ مُحَمَّدًا -ﷺ- ما طالَعَ الكُتُبَ، ولَمْ يُتَلْمَذْ لِأحَدٍ وما كانَتِ البَلْدَةُ بَلْدَةَ العُلَماءِ، فَإتْيانُهُ بِهَذِهِ القِصَّةِ الطَّوِيلَةِ عَلى وجْهٍ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَحْرِيفٌ ولا غَلَطٌ مِن غَيْرِ مُطالَعَةٍ ولا تَعَلُّمٍ، ومِن غَيْرِ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ حاضِرًا مَعَهم لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُعْجِزًا وكَيْفَ يَكُونُ مُعْجِزًا وقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ المُقَدِّمَةِ في هَذا الكِتابِ مِرارًا ؟ وقَوْلُهُ: ﴿وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ أيْ وما كُنْتَ هُناكَ، ذُكِرَ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ؛ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ يَعْلَمُ أنَّ مُحَمَّدًا -ﷺ- ما كانَ مَعَهم. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أكْثَرُ النّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وما تَسْألُهم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿وكَأيِّنْ مِن آيَةٍ في السَّماواتِ والأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهم عَنْها مُعْرِضُونَ﴾ ﴿وما يُؤْمِنُ أكْثَرُهم بِاللَّهِ إلّا وهم مُشْرِكُونَ﴾ ﴿أفَأمِنُوا أنْ تَأْتِيَهم غاشِيَةٌ مِن عَذابِ اللَّهِ أوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ (p-١٧٨) اعْلَمْ أنَّ وجْهَ اتِّصالِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ وجَماعَةً مِنَ اليَهُودِ طَلَبُوا هَذِهِ القِصَّةَ مِن رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، واعْتَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- أنَّهُ إذا ذَكَرَها فَرُبَّما آمَنُوا، فَلَمّا ذَكَرَها أصَرُّوا عَلى كُفْرِهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وكَأنَّهُ إشارَةٌ إلى ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ (القَصَصِ: ٥٦) قالَ أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبارِيِّ: جَوابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ، لَأنَّ جَوابَ (لَوْ) لا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَيْها، فَلا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: قُمْتُ لَوْ قُمْتَ. وقالَ الفَرّاءُ في ”المَصادِرِ“: يُقالُ: حَرَصَ يَحْرِصُ حِرْصًا، ولُغَةٌ أُخْرى شاذَّةٌ: حَرَصَ يَحْرِصُ حَرِيصًا. ومَعْنى الحِرْصُ: طَلَبُ الشَّيْءِ بِأقْصى ما يُمْكِنُ مِنَ الِاجْتِهادِ. وقَوْلُهُ: ﴿وما تَسْألُهم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ﴾ مَعْناهُ ظاهِرٌ، وقَوْلُهُ: ﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ أيْ هو تَذْكِرَةٌ لَهم في دَلائِلِ التَّوْحِيدِ والعَدْلِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ والقَصَصِ والتَّكالِيفِ والعِباداتِ، ومَعْناهُ: أنَّ هَذا القُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلى هَذِهِ المَنافِعِ العَظِيمَةِ، ثُمَّ لا تَطْلُبُ مِنهم مالًا ولا جُعْلًا، فَلَوْ كانُوا عُقَلاءَ لَقَبِلُوا ولَمْ يَتَمَرَّدُوا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَأيِّنْ مِن آيَةٍ في السَّماواتِ والأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهم عَنْها مُعْرِضُونَ﴾ يَعْنِي: أنَّهُ لا عَجَبَ إذا لَمْ يَتَأمَّلُوا في الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى نُبُوَّتِكَ، فَإنَّ العالَمَ مَمْلُوءٌ مِن دَلائِلِ التَّوْحِيدِ والقُدْرَةِ والحِكْمَةِ، ثُمَّ إنَّهم يَمُرُّونَ عَلَيْها ولا يَلْتَفِتُونَ إلَيْها. واعْلَمْ أنَّ دَلائِلَ التَّوْحِيدِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ والحِكْمَةِ والرَّحْمَةِ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ مِن أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ، وهي إمّا الأجْرامُ الفَلَكِيَّةُ، وإمّا الأجْرامُ العُنْصُرِيَّةُ، أمّا الأجْرامُ الفَلَكِيَّةُ: فَهي قِسْمانِ: إمّا الأفْلاكُ وإمّا الكَواكِبُ، أمّا الأفْلاكُ: فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِمَقادِيرِها المُعَيَّنَةِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، وقَدْ يُسْتَدَلُّ بِكَوْنِ بَعْضِها فَوْقَ البَعْضِ أوْ تَحْتَهُ، وقَدْ يُسْتَدَلُّ بِأحْوالِ حَرَكاتِها، إمّا بِسَبَبِ أنَّ حَرَكاتِها مَسْبُوقَةٌ بِالعَدَمِ فَلا بُدَّ مِن مُحَرِّكٍ قادِرٍ، وإمّا بِسَبَبِ كَيْفِيَّةِ حَرَكاتِها في سُرْعَتِها وبُطْئِها، وإمّا بِسَبَبِ اخْتِلافِ جِهاتِ تِلْكَ الحَرَكاتِ. وأمّا الأجْرامُ الكَوْكَبِيَّةُ فَتارَةً يُسْتَدَلُّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ بِمَقادِيرِها وأحْيازِها وحَرَكاتِها، وتارَةً بِألْوانِها وأضْوائِها، وتارَةً بِتَأْثِيراتِها في حُصُولِ الأضْواءِ والأظْلالِ والظُّلُماتِ والنُّورِ. وأمّا الدَّلائِلُ المَأْخُوذَةُ مِنَ الأجْرامِ العُنْصُرِيَّةِ: فَإمّا أنْ تَكُونَ مَأْخُوذَةً مِن بِسائِطَ، وهي عَجائِبُ البَرِّ والبَحْرِ، وإمّا مِنَ المَوالِيدِ وهي أقْسامٌ: أحَدُها: الآثارُ العُلْوِيَّةُ كالرَّعْدِ والبَرْقِ والسَّحابِ والمَطَرِ والثَّلْجِ والهَواءِ وقَوْسِ قُزَحَ. وثانِيها: المَعادِنُ عَلى اخْتِلافِ طَبائِعِها وصِفاتِها وكَيْفِيّاتِها. وثالِثُها: النَّباتُ وخاصِّيَّةُ الخَشَبِ والوَرَقِ والثَّمَرِ واخْتِصاصُ كُلِّ واحِدٍ مِنها بِطَبْعٍ خاصٍّ وطَعْمٍ خاصٍّ وخاصِّيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ. ورابِعُها: اخْتِلافُ أحْوالِ الحَيَواناتِ في أشْكالِها وطَبائِعِها وأصْواتِها وخِلْقَتِها. وخامِسُها: تَشْرِيحُ أبْدانِ النّاسِ وتَشْرِيحُ القُوى الإنْسانِيَّةِ، وبَيانُ المَنفَعَةِ الحاصِلَةِ فِيها، فَهَذِهِ مَجامِعُ الدَّلائِلِ. ومِن هَذا البابِ أيْضًا قَصَصُ الأوَّلِينَ وحِكاياتُ الأقْدَمِينَ وأنَّ المُلُوكَ الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلى الأرْضِ وخَرَّبُوا البِلادَ وقَهَرُوا العِبادَ ماتُوا ولَمْ يَبْقَ مِنهم في الدُّنْيا خَبَرٌ ولا أثَرٌ، ثُمَّ بَقِيَ الوِزْرُ والعِقابُ عَلَيْهِمْ، هَذا ضَبْطُ أنْواعِ هَذِهِ الدَّلائِلِ، والكِتابُ المُحْتَوِي عَلى شَرْحِ هَذِهِ الدَّلائِلِ هو شَرْحُ جُمْلَةِ العالَمِ الأعْلى والعالَمِ الأسْفَلِ، والعَقْلُ البَشَرِيُّ لا يَفِي بِالإحاطَةِ بِهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى سَبِيلِ الإبْهامِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ (والأرْضُ) بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، و﴿يَمُرُّونَ عَلَيْها﴾ خَبَرُهُ، وقَرَأ السُّدِّيُّ (والأرْضَ) بِالنَّصْبِ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ: ﴿يَمُرُّونَ عَلَيْها﴾ بِقَوْلِنا: يَطُوفُونَها، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ (والأرْضُ يَمْشُونَ عَلَيْها) بِرَفْعِ الأرْضِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وما يُؤْمِنُ أكْثَرُهم بِاللَّهِ إلّا وهم مُشْرِكُونَ﴾ فالمَعْنى: أنَّهم كانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الإلَهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (p-١٧٩)﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ (لُقْمانَ: ٢٥) إلّا أنَّهم كانُوا يُثْبِتُونَ لَهُ شَرِيكًا في المَعْبُودِيَّةِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هُمُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ، وعَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في تَلْبِيَةِ مُشْرِكِي العَرَبِ لِأنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إلّا شَرِيكٌ هو لَكَ تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ. وعَنْهُ أيْضًا أنَّ أهْلَ مَكَّةَ قالُوا: اللَّهُ رَبُّنا وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ؛ المَلائِكَةُ بَناتُهُ، فَلَمْ يُوَحِّدُوا، بَلْ أشْرَكُوا، وقالَ عَبَدَةُ الأصْنامِ: رَبُّنا اللَّهُ وحْدَهُ، والأصْنامُ شُفَعاؤُنا عِنْدَهُ، وقالَتِ اليَهُودُ: رَبُّنا اللَّهُ وحْدَهُ وعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وقالَتِ النَّصارى: رَبُّنا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، والمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. وقالَ عَبَدَةُ الشَّمْسِ والقَمَرِ: رَبُّنا اللَّهُ وحْدَهُ، وهَؤُلاءِ أرْبابُنا، وقالَ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ: رَبُّنا اللَّهُ وحْدَهُ ولا شَرِيكَ مَعَهُ. واحْتَجَّتِ الكَرامِيَّةُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الإيمانَ عِبارَةٌ عَنِ الإقْرارِ بِاللِّسانِ فَقَطْ، لِأنَّهُ تَعالى حَكَمَ بِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ مَعَ أنَّهم مُشْرِكُونَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الإيمانَ عِبارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الإقْرارِ بِاللِّسانِ، وجَوابُهُ مَعْلُومٌ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿أفَأمِنُوا أنْ تَأْتِيَهم غاشِيَةٌ مِن عَذابِ اللَّهِ﴾ أيْ عُقُوبَةٌ تَغْشاهم وتَنْبَسِطُ عَلَيْهِمْ وتَغْمُرُهم ﴿أوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً﴾ أيْ فَجْأةً. و(بَغْتَةً) نُصِبَ عَلى الحالِ، يُقالُ: بَغَتَهُمُ الأمْرُ بَغْتًا وبَغْتَةً إذا فاجَأهم مِن حَيْثُ لَمْ يَتَوَقَّعُوا، وقَوْلُهُ: ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ كالتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ: ﴿بَغْتَةً﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب