الباحث القرآني

(p-٢٢٨)﴿وقِيلَ يا أرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ويا سَماءُ أقْلِعِي وغِيضَ الماءُ وقُضِيَ الأمْرُ واسْتَوَتْ عَلى الجُودِيِّ وقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ ﴿ونادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ وأنْتَ أحْكَمُ الحاكِمِينَ﴾ ﴿قالَ يانُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نادى الأرْضَ والسَّماءَ بِما يُنادى بِهِ الإنْسانُ المُمَيِّزُ عَلى لَفْظِ التَّخْصِيصِ والإقْبالِ عَلَيْهِما بِالخِطابِ مِن بَيْنِ سائِرِ المَخْلُوقاتِ وهو قَوْلُهُ: ﴿ياأرْضُ﴾ و(يا سَماءُ)، ثُمَّ أمَرَهُما بِما يُؤْمَرُ بِهِ أهْلُ التَّمْيِيزِ والعَقْلِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ابْلَعِي ماءَكِ﴾ و﴿أقْلِعِي﴾، مِنَ الدَّلالَةِ عَلى الِاقْتِدارِ العَظِيمِ، وأنَّ السَّماواتِ والأرْضَ وهَذِهِ الأجْرامَ العِظامَ مُنْقادَةٌ لِتَكْوِينِهِ فِيها ما يَشاءُ، غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ عَلَيْهِ كَأنَّهَمْ عُقَلاءُ مُمَيِّزُونَ، قَدْ عَرَفُوا عَظَمَتَهُ وجَلالَهُ وثَوابَهُ وعِقابَهُ وقُدْرَتَهُ عَلى كُلِّ مَقْدُورٍ، وتَبَيَّنُوا تَحَتُّمَ طاعَتِهِ عَلَيْهِمْ وانْقِيادِهِمْ لَهُ، وهم يَهابُونَهُ ويَفْزَعُونَ مِنَ التَّوَقُّفِ دُونَ الِامْتِثالِ لَهُ والنُّزُولِ عَنْ مَشِيئَتِهِ عَلى الفَوْرِ مِن غَيْرِ رَيْبٍ. فَكَما يَرِدُ عَلَيْهِمْ أمْرُهُ كانَ المَأْمُورُ بِهِ مَفْعُولًا لا حَبْسَ ولا بُطْءَ. وبَسَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ وذَيَّلَ في هَذا الكَلامِ الحَسَنِ، قالَ الحَسَنُ: يَدُلُّ عَلى عَظَمَةِ هَذِهِ الأجْسامِ، والحَقُّ تَعالى مُسْتَوْلٍ عَلَيْها مُتَصَرِّفٌ فِيها كَيْفَ يَشاءُ وأرادَ، فَصارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوفِ القُوَّةِ العَقْلِيَّةِ عَلى كَمالِ جَلالِ اللَّهِ تَعالى وعُلُوِّ قُدْرَتِهِ وهَيْبَتِهِ، انْتَهى. وبِناءُ الفِعْلِ في (وقِيلَ) وما بَعْدَها لِلْمَفْعُولِ أبْلَغُ في التَّعْظِيمِ والجَبَرُوتِ وأخْصَرُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَجِيءُ إخْبارِهِ عَلى الفِعْلِ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ لِلدَّلالَةِ عَلى الجَلالِ والكِبْرِياءِ، وأنَّ تِلْكَ الأُمُورَ العِظامَ لا تَكُونُ إلّا بِفِعْلِ فاعِلٍ قادِرٍ، وتَكْوِينِ مُكَوِّنٍ قاهِرٍ، وأنَّ فاعِلَ هَذِهِ الأفْعالِ فاعِلٌ واحِدٌ لا يُشارَكُ في أفْعالِهِ، فَلا يَذْهَبِ الوَهْمُ إلى أنْ يَقُولَ غَيْرُهُ ﴿ياأرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ويا سَماءُ أقْلِعِي﴾، ولا أنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ الأمْرَ الهائِلَ غَيْرُهُ، ولا أنْ تَسْتَوِيَ السَّفِينَةُ عَلى الجُودِيِّ وتَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ إلّا بِتَسْوِيَتِهِ وإقْرارِهِ، ولِما ذَكَرْناهُ مِنَ المَعانِي والنُّكَتِ. واسْتَفْصَحَ عُلَماءُ البَيانِ هَذِهِ الآيَةَ ورَقَّصُوا لَها رُءُوسَهم، لا لِتَجانُسِ الكَلِمَتَيْنِ وهُما قَوْلُهُ: ﴿ابْلَعِي﴾ و﴿أقْلِعِي﴾، وذَلِكَ وإنْ كانَ الكَلامُ لا يَخْلُو مِن حُسْنٍ، فَهو كَغَيْرِ المُلْتَفَتِ إلَيْهِ بِإزاءِ تِلْكَ المَحاسِنِ الَّتِي هي اللُّبُّ، وما عَداها قُشُورٌ، انْتَهى. وأكْثَرُهُ خَطابَةً، وهَذا النِّداءُ والخِطابُ بِالأمْرِ هو اسْتِعارَةٌ مَجازِيَّةٌ، وعَلى هَذا جُمْهُورُ الحُذّاقِ. وقِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أحْدَثَ فِيهِما إدْراكًا وفَهْمًا لِمَعانِي الخِطابِ. ورُوِيَ أنَّ أعْرابِيًا سَمِعَ هَذِهِ الآيَةَ فَقالَ: هَذا كَلامُ القادِرِينَ، وعارَضَ ابْنُ المُقَفَّعِ القُرْآنَ فَلَمّا وصَلَ إلى هَذِهِ الآيَةِ أمْسَكَ عَنِ المُعارَضَةِ وقالَ: هَذا كَلامٌ لا يَسْتَطِيعُ أحَدٌ مِنَ البَشَرِ أنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾: غَرِقَ مَن غَرِقَ ونَجا مَن نَجا. وقالَ مُجاهِدٌ: قُضِيَ الأمْرُ بِهَلاكِهِمْ، وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قُضِيَ الأمْرُ: فُرِغَ مِنهُ، وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: أُحْكِمَتْ هَلَكَةُ قَوْمِ نُوحٍ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أنْجَزَ ما وعَدَ اللَّهُ نُوحًا مِن هَلاكِ قَوْمِهِ. ﴿واسْتَوَتْ﴾ أيِ: اسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ عَلى الجُودِيِّ، واسْتِقْرارُها يَوْمَ عاشُوراءَ مِنَ المُحَرَّمِ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ. وقِيلَ: يَوْمُ (p-٢٢٩)الجُمُعَةِ، وقِيلَ: في ذِي الحِجَّةِ. وأقامَتْ عَلى الجُودِيِّ شَهْرًا، وهَبَطَ بِهِمْ يَوْمَ عاشُوراءَ. وذَكَرُوا أنَّ الجِبالَ تَطاوَلَتْ وتَخاشَعَ الجُودِيُّ. وحَدِيثُ بَعْثِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ الغُرابَ والحَمامَةَ لِيَأْتِياهُ بِخَبَرِ كَمالِ الغَرَقِ، اللَّهُ أعْلَمُ بِما كانَ مِن ذَلِكَ. وقَرَأ الأعْمَشُ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ﴿عَلى الجُودِيِّ﴾ بِسُكُونِ الياءِ مُخَفَّفَةً. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهُما لُغَتانِ، وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: هو تَخْفِيفُ ياءِ النَّسَبِ، وهَذا التَّخْفِيفُ بابُهُ الشِّعْرُ لِشُذُوذِهِ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وقِيلَ بُعْدًا﴾ مِن قَوْلِ اللَّهِ تَعالى كالأفْعالِ السّابِقَةِ، وبُنِيَ الجَمِيعُ لِلْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ بِالفاعِلِ، وقِيلَ: مِن قَوْلِ نُوحٍ والمُؤْمِنِينَ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ المَلائِكَةِ، قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِبارَةً عَنْ بُلُوغِ الأمْرِ ذَلِكَ المَبْلَغَ وإنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ قَوْلٌ مَحْسُوسٌ. ومَعْنى بُعْدًا: هَلاكًا يُقالُ: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا وبَعَدًا إذا هَلَكَ، واللّامُ في لِلْقَوْمِ مِن صِلَةِ المَصْدَرِ. وقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: (وقِيلَ)، والتَّقْدِيرُ: وقِيلَ لِأجْلِ الظّالِمِينَ، إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يُخاطَبَ الهالِكُ إلّا عَلى سَبِيلِ المَجازِ. ومَعْنى ﴿ونادى نُوحٌ رَبَّهُ﴾ أيْ: أرادَ أنْ يُنادِيَهُ، ولِذَلِكَ أدْخَلَ الفاءَ، إذْ لَوْ كانَ أرادَ حَقِيقَةَ النِّداءِ والإخْبارَ عَنْ وُقُوعِهِ مِنهُ لَمْ تَدْخُلِ الفاءُ في (فَقالَ) ولَسَقَطَتْ كَما لَمْ تَدْخُلْ في قَوْلِهِ: ﴿إذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ﴾ [مريم: ٣] والواوُ في هَذِهِ الجُمْلَةِ لا تُرَتِّبُ أيْضًا، وذَلِكَ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ كانَتْ أوَّلَ ما رَكِبَ نُوحٌ السَّفِينَةَ، ويَظْهَرُ مِن كَلامِ الطَّبَرِيِّ أنَّ ذَلِكَ مِن بَعْدِ غَرَقِ الِابْنِ. وفي قَوْلِهِ: ﴿إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي﴾ ظُهُورُ أنَّهُ ولَدُهُ لِصُلْبِهِ. ومَعْنى ﴿مِن أهْلِي﴾ أيِ: الَّذِي أُمِرْتُ أنْ أحْمِلَهم في السَّفِينَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿احْمِلْ فِيها مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلَكَ﴾ [هود: ٤٠] ولَمْ يَظُنَّ أنَّهُ داخِلٌ فِيمَنِ اسْتَثْناهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ مِنهم لِظَنِّهِ أنَّهُ مُؤْمِنٌ وعُمُومُ قَوْلِهِ: ﴿ومَن آمَنَ﴾ [هود: ٤٠] يَشْمَلُ مَن آمَنَ مِن أهْلِهِ ومِن غَيْرِ أهْلِهِ، وحَسُنَ الخِطابُ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ﴾ أيِ: الوَعْدُ الثّابِتُ الَّذِي لا شَكَّ في إنْجازِهِ والوَفاءِ بِهِ وقَدْ وعَدْتَنِي أنْ تُنَجِّيَ أهْلِي، وأنْتَ أعْلَمُ الحُكّامِ وأعْدَلُهم. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِنَ الحِكْمَةِ حاكِمٌ بِمَعْنى النِّسْبَةِ، كَما يُقالُ: دارِعٌ مِنَ الدِّرْعِ، وحائِضٌ وطالِقٌ عَلى مَذْهَبِ الخَلِيلِ، انْتَهى. ومَعْنى ﴿لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ أيِ: النّاجِينَ، أوِ الَّذِينَ عَمَّهُمُ الوَعْدُ. ومَن زَعَمَ أنَّهُ رَبِيبُهُ فَهو لَيْسَ مِن أهْلِهِ حَقِيقَةً، إذْ لا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ بِوِلادَةٍ، فَعَلى هَذا نَفى ما قُدِّرَ أنَّهُ داخِلٌ في قَوْلِهِ: (وأهْلَكَ)، ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفاءَ كَوْنِهِ لَيْسَ مِن أهْلِهِ بِأنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في إنَّهُ عائِدٌ عَلى ابْنِ نُوحٍ لا عَلى النِّداءِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: (ونادى) المُتَضَمِّنِ سُؤالَ رَبِّهِ، وجَعَلَهُ نَفْسَ العَمَلِ مُبالَغَةً في ذَمِّهِ كَما قالَ: فَإنَّما هي إقْبالٌ وإدْبارٌ، هَذا عَلى قِراءَةِ جُمْهُورِ السَّبْعَةِ. وقَرَأ الكِسائِيُّ: ﴿عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ﴾ جَعَلَهُ فِعْلًا ناصِبًا غَيْرَ صالِحٍ، وهي قِراءَةُ عَلِيٍّ وأنَسٍ وابْنِ عَبّاسٍ وعائِشَةَ، ورَوَتْها عائِشَةُ وأُمُّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وهَذا يُرَجِّحُ أنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلى ابْنِ نُوحٍ. قِيلَ: ويُرَجِّحُ كَوْنَ الضَّمِيرِ في (إنَّهُ) عائِدًا عَلى نِداءِ نُوحٍ المُتَضَمِّنِ السُّؤالَ أنَّ في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أنْ تَسْألَنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. وقِيلَ: يَعُودُ الضَّمِيرُ في هَذِهِ القِراءَةِ عَلى رُكُوبِ ولَدِ نُوحٍ مَعَهُمُ، الَّذِي تَضَمَّنَهُ سُؤالُ نُوحٍ، المَعْنى: أنَّ كَوْنَهُ مَعَ الكافِرِينَ وتَرْكَهُ الرُّكُوبَ مَعَ المُؤْمِنِينَ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، وكَوْنُ الضَّمِيرِ في (إنَّهُ) عائِدًا عَلى غَيْرِ ابْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ تَكَلُّفٌ وتَعَسُّفٌ لا يَلِيقُ بِالقُرْآنِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فَهَلّا قِيلَ إنَّهُ عَمَلٌ فاسِدٌ ؟ (قُلْتُ): لَمّا نَفاهُ مِن أهْلِهِ نَفى عَنْهُ صِفَتَهم بِكَلِمَةِ النَّفْيِ الَّتِي يُسْتَنْفى مَعَها لَفْظُ المَنفِيِّ، وأذِنَ بِذَلِكَ أنَّهُ إنَّما أنْجى مَن أنْجى مِن أهْلِهِ بِصَلاحِهِمْ، لا لِأنَّهم أهْلُكَ وأقارِبُكَ، وإنَّ هَذا لَمّا انْتَفى عَنْهُ الصَّلاحُ لَمْ تَنْفَعْهُ أُبُوَّتُكَ. وقَرَأ الصّاحِبانِ: (تَسْألَنِّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ مَكْسُورَةً، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهم أثْبَتُوا الباءَ بَعْدَ النُّونِ، وابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِها مَفْتُوحَةً وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ. وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ: (تَسالنِي) مِن غَيْرِ هَمْزٍ مِن سالَ يَسالُ وهُما يَتَساوَلانِ، وهي (p-٢٣٠)لُغَةٌ سائِرَةٌ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالهَمْزِ وإسْكانِ اللّامِ وكَسْرِ النُّونِ وتَخْفِيفِها، وأثْبَتَ الياءَ في الوَصْلِ ورْشٌ وأبُو عَمْرٍو، وحَذَفَها الباقُونَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلا تَلْتَمِسْ مُلْتَمَسًا أوِ التِماسًا، لا تَعْلَمُ أصَوابٌ هو أمْ غَيْرُ صَوابٍ حَتّى تَقِفَ عَلى كُنْهِهِ ؟ . وذِكْرُ المَسْألَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ النِّداءَ كانَ قَبْلَ أنْ يَغْرَقَ حِينَ خافَ عَلَيْهِ. (فَإنْ قُلْتَ): لِمَ سَمّى نِداءَهُ سُؤالًا ولا سُؤالَ فِيهِ ؟ (قُلْتُ): قَدْ تَضَمَّنَ دُعاؤُهُ مَعْنى السُّؤالِ وإنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، لِأنَّهُ إذا ذَكَرَ المَوْعِدَ بِنَجاةِ أهْلِهِ في وقْتِ مُشارَفَةِ الغَرَقِ فَقَدِ اسْتَنْجَزَ، وجَعَلَ سُؤالَ ما لا يُعْرَفُ كُنْهُهُ جَهْلًا وغَباوَةً، ووَعْظَهُ أنْ لا يَعُودَ إلَيْهِ وإلى أمْثالِهِ مِن أفْعالِ الجاهِلِينَ. (فَإنْ قُلْتَ) قَدْ وعَدَ اللَّهُ أنْ يُنْجِيَ أهْلَهُ، وما كانَ عِنْدَهُ أنَّ ابْنَهُ لَيْسَ مِنهم دِينًا، فَلَمّا أشْفى عَلى الغَرَقِ تَشابَهَ عَلَيْهِ الأمْرُ، لِأنَّ العِدَةَ قَدْ سَبَقَتْ لَهُ، وقَدْ عَرَفَ اللَّهَ حَكِيمًا لا يَجُوزُ عَلَيْهِ فِعْلُ القَبِيحِ وخَلْفُ المِيعادِ فَطَلَبَ إماطَةَ الشُّبْهَةِ، وطَلَبُ إماطَةِ الشُّبْهَةِ واجِبٌ، فَلِمَ زُجِرَ وجُعِلَ سُؤالُهُ جَهْلًا ؟ (قُلْتُ): إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَدَّمَ لَهُ الوَعْدَ بِإنْجاءِ أهْلِهِ، مَعَ اسْتِثْناءِ مَن عَلَيْهِ القَوْلُ مِنهم، فَكانَ عَلَيْهِ أنْ يَعْتَقِدَ أنَّ في جُمْلَةِ أهْلِهِ مَن هو مُسْتَوْجِبُ العَذابِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ صالِحٍ، وأنَّ كُلَّهم لَيْسُوا بِناجِينَ، وأنْ لا تُخالِجَهُ شُبْهَةٌ حِينَ شارَفَ ولَدُهُ عَلى الغَرَقِ في أنَّهُ مِنَ المُسْتَثْنِينَ لا مِنَ المُسْتَثْنى مِنهم، فَعُوتِبَ عَلى أنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ما يَجِبُ بِما يَجِبُ أنْ لا يَشْتِبَهَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أيْ: إذْ وعَدْتُكَ فاعْلَمْ يَقِينًا أنَّهُ لا خُلْفَ في الوَعْدِ، فَإذا رَأيْتَ ولَدَكَ لَمْ يُحْمَلْ فَكانَ الواجِبُ عَلَيْكَ أنْ تَقِفَ وتَعْلَمَ أنَّ ذَلِكَ لِحَقٍّ واجِبٍ عِنْدَ اللَّهِ، ولَكِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ حَمَلَتْهُ شَفَقَةُ البُنُوَّةِ وسَجِيَّةُ البَشَرِ عَلى التَّعَرُّضِ لِنَفَحاتِ الرَّحْمَةِ والتَّذْكِيرِ، وعَلى هَذا القَدْرِ وقَعَ عِقابُهُ، ولِذَلِكَ جاءَ بِتَلَطُّفٍ وتَرَجٍّ في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ . ويَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: ﴿فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أيْ: لا تَطْلُبْ مِنِّي أمْرًا لا تَعْلَمُ المَصْلَحَةَ فِيهِ عِلْمَ يَقِينٍ، ونَحا إلى هَذا أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ وقالَ: إنَّ (بِهِ) يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِلَفْظٍ عامٍّ كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎كَأنَّ جَزائِي بِالعَصا أنْ أُجْلَدا ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِهِ بِمَنزِلَةِ فِيهِ، فَتَتَعَلَّقُ الباءُ بِالمُسْتَقَرِّ. واخْتِلافُ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ إنَّما هو لَفْظِيٌّ، والمَعْنى في الآيَةِ واحِدَةٌ. وذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ تَأْوِيلًا في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ لا يُناسِبُ النُّبُوَّةَ تَرْكَناهُ، ويُوقَفُ عَلَيْهِ في تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وقِيلَ: سَألَ نُوحٌ رَبَّهُ حِينَ صارَ عَنْهُ ابْنُهُ بِمَعْزِلٍ، وقِيلَ: قَبْلَ أنْ عَرَفَ هَلاكَهُ، وقِيلَ: بَعْدَ أنْ عَرَفَ هَلاكَهُ سَألَ اللَّهَ لَهُ المَغْفِرَةَ ﴿أنْ أسْألَكَ﴾ مِن أنْ أطْلُبَ في المُسْتَقْبَلِ ما لا عِلْمَ لِي بِصِحَّتِهِ تَأْدِيبًا بِأدَبِكَ، واتِّعاظًا بِمَوْعِظَتِكَ، وهَذِهِ إنابَةٌ مِن نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وتَسْلِيمٌ لِأمْرِ اللَّهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والسُّؤالُ الَّذِي وقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ والِاسْتِعاذَةُ والِاسْتِغْفارُ مِنهُ هو سُؤالُ العَزْمِ الَّذِي مَعَهُ مُحاجَّةٌ وطَلِبَةٌ مُلِحَّةٌ فِيما قَدْ حُجِبَ وجْهُ الحِكْمَةِ فِيهِ. وأمّا السُّؤالُ في الأُمُورِ عَلى جِهَةِ التَّعَلُّمِ والِاسْتِرْشادِ فَغَيْرُ داخِلٍ في هَذا، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ يَعُمُّ النَّحْوَيْنِ مِنَ السُّؤالِ، ولِذَلِكَ نَبَّهْتُ عَلى أنَّ المُرادَ أحَدُهُما دُونَ الآخَرِ، و(الخاسِرُونَ) هُمُ: المَغْبُونُونَ حُظُوظَهم مِنَ الخَيْرِ، انْتَهى. ونَسَبَ نُوحٌ النَّقْصَ والذَّنْبَ إلى نَفْسِهِ تَأدُّبًا مَعَ رَبِّهِ فَقالَ: ﴿وإلّا تَغْفِرْ لِي﴾ أيْ: ما فَرَطَ مِن سُؤالِي وتَرْحَمْنِي بِفَضْلِكَ، وهَذا كَما قالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب