قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ وأنْتَ أحْكَمُ الحاكِمِينَ﴾ ﴿قالَ يانُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾
وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿رَبِّ إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي﴾ فَقَدْ ذَكَرْنا الخِلافَ في أنَّهُ هَلْ كانَ ابْنًا لَهُ أمْ لا، فَلا نُعِيدُهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أنَّهُ قالَ: ﴿يانُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أنَّهُ كانَ ابْنًا لَهُ، وجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِ دِينِكَ.
والثّانِي: المُرادُ أنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ الَّذِينَ وعَدْتُكَ أنْ أُنَجِّيَهم مَعَكَ، والقَوْلانِ مُتَقارِبانِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ العِبْرَةَ بِقَرابَةِ الدِّينِ لا بِقَرابَةِ النَّسَبِ، فَإنَّ في هَذِهِ الصُّورَةِ كانَتْ قَرابَةُ النَّسَبِ حاصِلَةً مِن أقْوى الوُجُوهِ، ولَكِنْ لَمّا انْتَفَتْ قَرابَةُ الدِّينِ لا جَرَمَ نَفاهُ اللَّهُ تَعالى بِأبْلَغِ الألْفاظِ وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ﴾ قَرَأ الكِسائِيُّ: ”عَمِلَ“ عَلى صِيغَةِ الفِعْلِ الماضِي، و”غَيْرَ“ بِالنَّصْبِ، والمَعْنى: أنَّ ابْنَكَ عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ صالِحٍ - يَعْنِي أشْرَكَ وكَذَّبَ، وكَلِمَةُ ”غَيْرَ“ نَصْبٌ؛ لِأنَّها نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وقَرَأ الباقُونَ: عَمَلٌ بِالرَّفْعِ والتَّنْوِينِ، وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ”إنَّهُ“ عائِدٌ إلى السُّؤالِ، يَعْنِي أنَّ هَذا السُّؤالَ عَمَلٌ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ﴾ غَيْرُ صالِحٍ؛ لِأنَّ طَلَبَ نَجاةِ الكافِرِ بَعْدَ أنْ سَبَقَ الحُكْمُ الجَزْمُ بِأنَّهُ لا يُنَجِّي أحَدًا مِنهم - سُؤالٌ باطِلٌ.
الثّانِي: أنْ يَكُونَ هَذا الضَّمِيرُ عائِدًا إلى الِابْنِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَفي وصْفِهِ بِكَوْنِهِ عَمَلًا غَيْرَ صالِحٍ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ الرَّجُلَ إذا كَثُرَ عَمَلُهُ وإحْسانُهُ يُقالُ لَهُ: إنَّهُ عِلْمٌ وكَرَمٌ وُجُودٌ، فَكَذا هَهُنا لَمّا كَثُرَ إقْدامُ ابْنِ نُوحٍ عَلى الأعْمالِ الباطِلَةِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ (p-٤)فِي نَفْسِهِ عَمَلٌ باطِلٌ.
الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ ذُو عَمَلٍ باطِلٍ، فَحُذِفَ المُضافُ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ.
الثّالِثُ: قالَ بَعْضُهم: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ﴾ أيْ إنَّهُ ولَدُ زِنًا، وهَذا القَوْلُ باطِلٌ قَطْعًا.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن قَدَحَ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِن وُجُوهٍ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ قِراءَةَ ”عَمَلٌ“ بِالرَّفْعِ والتَّنْوِينِ قِراءَةٌ مُتَواتِرَةٌ، فَهي مُحْكَمَةٌ، وهَذا يَقْتَضِي عَوْدَ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ﴾ إمّا إلى ابْنِ نُوحٍ، وإمّا إلى ذَلِكَ السُّؤالِ، فالقَوْلُ بِأنَّهُ عائِدٌ إلى ابْنِ نُوحٍ لا يَتِمُّ إلّا بِإضْمارٍ، وهو خِلافُ الظّاهِرِ، ولا يَجُوزُ المَصِيرُ إلَيْهِ إلّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، ولا ضَرُورَةَ هَهُنا؛ لِأنّا إذا حَكَمْنا بِعَوْدِ الضَّمِيرِ إلى السُّؤالِ المُتَقَدِّمِ، فَقَدِ اسْتَغْنَيْنا عَنْ هَذا الضَّمِيرِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا الضَّمِيرَ عائِدٌ إلى هَذا السُّؤالِ، فَكانَ التَّقْدِيرُ أنَّ هَذا السُّؤالَ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، أيْ قَوْلُكَ: إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي - لِطَلَبِ نَجاتِهِ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا السُّؤالَ كانَ ذَنْبًا ومَعْصِيَةً.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلا تَسْألْنِي﴾ نَهْيٌ لَهُ عَنِ السُّؤالِ، والمَذْكُورُ السّابِقُ هو قَوْلُهُ: ﴿إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي﴾ فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ تَعالى نَهاهُ عَنْ ذَلِكَ السُّؤالِ، فَكانَ ذَلِكَ السُّؤالُ ذَنْبًا ومَعْصِيَةً.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ السُّؤالَ كانَ قَدْ صَدَرَ لا عَنِ العِلْمِ، والقَوْلُ بِغَيْرِ العِلْمِ ذَنْبٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٦٩ ] .
الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ السُّؤالَ كانَ مَحْضَ الجَهْلِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى غايَةِ التَّقْرِيعِ ونِهايَةِ الزَّجْرِ، وأيْضًا جَعْلُ الجَهْلِ كِنايَةً عَنِ الذَّنْبِ مَشْهُورٌ في القُرْآنِ، قالَ تَعالى: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ﴾ [النِّساءِ: ١٧ ] وقالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ .
الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلامُ - اعْتَرَفَ بِإقْدامِهِ عَلى الذَّنْبِ والمَعْصِيَةِ في هَذا المَقامِ، فَإنَّهُ قالَ: ﴿إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ واعْتِرافُهُ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ مُذْنِبًا.
الوَجْهُ السّادِسُ في التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الآيَةِ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ نُوحًا نادى رَبَّهُ لِطَلَبِ تَخْلِيصِ ولَدِهِ مِنَ الغَرَقِ، والآيَةُ المُتَقَدِّمَةُ وهي قَوْلُهُ: ﴿ونادى نُوحٌ ابْنَهُ﴾ [هُودٍ: ٤٢ ] وقالَ: ﴿يابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا﴾ [هُودٍ: ٤٢ ] تَدَلُّ عَلى أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - طَلَبَ مِنَ ابْنِهِ المُوافَقَةَ، فَنَقُولُ: إمّا أنْ يُقالَ: إنَّ طَلَبَ هَذا المَعْنى مِنَ اللَّهِ كانَ سابِقًا عَلى طَلَبِهِ مِنَ الوَلَدِ، أوْ كانَ بِالعَكْسِ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ طَلَبُ هَذا المَعْنى مِنَ اللَّهِ تَعالى سابِقًا عَلى طَلَبِهِ مِنَ الِابْنِ لَكانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ اللَّهِ أنَّهُ تَعالى لا يُخَلِّصُ ذَلِكَ الِابْنَ مِنَ الغَرَقِ، وأنَّهُ تَعالى نَهاهُ عَنْ ذَلِكَ الطَّلَبِ، وبَعْدَ هَذا كَيْفَ قالَ لَهُ: ﴿يابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا ولا تَكُنْ مَعَ الكافِرِينَ﴾ [هُودٍ: ٤٢ ] وأمّا إنْ قُلْنا: إنَّ هَذا الطَّلَبَ مِنَ الِابْنِ كانَ مُتَقَدِّمًا فَكانَ قَدْ سَمِعَ مِنَ الِابْنِ قَوْلَهُ: ﴿سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماءِ﴾ [هُودٍ: ٤٣ ] وظَهَرَ بِذَلِكَ كُفْرُهُ، فَكَيْفَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَخْلِيصَهُ ؟ وأيْضًا أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّ نُوحًا لَمّا طَلَبَ ذَلِكَ مِنهُ (p-٥)وامْتَنَعَ هو، صارَ مِنَ المُغْرَقِينَ، فَكَيْفَ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ تَخْلِيصَهُ مِنَ الغَرَقِ بَعْدَ أنْ صارَ مِنَ المُغْرَقِينَ ؟ فَهَذِهِ الآيَةُ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ السِّتَّةِ تَدَلُّ عَلى صُدُورِ المَعْصِيَةِ مِن نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا دَلَّتِ الدَّلائِلُ الكَثِيرَةُ عَلى وُجُوبِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِنَ المَعاصِي، وجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ عَلى تَرْكِ الأفْضَلِ والأكْمَلِ، وحَسَناتُ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ حَصَلَ هَذا العِتابُ والأمْرُ بِالِاسْتِغْفارِ، ولا يَدُلُّ عَلى سابِقَةِ الذَّنْبِ كَما قالَ: ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ﴾ ﴿ورَأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا﴾ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ﴾ [النَّصْرِ: ١ - ٣ ] ومَعْلُومٌ أنَّ مَجِيءَ نَصْرِ اللَّهِ والفَتْحِ ودُخُولَ النّاسِ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا لَيْسَتْ بِذَنْبٍ يُوجِبُ الِاسْتِغْفارَ، وقالَ تَعالى: ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [مُحَمَّدٍ: ١٩ ] ولَيْسَ جَمِيعُهم مُذْنِبِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الِاسْتِغْفارَ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ تَرْكِ الأفْضَلِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ نافِعٌ بِرِوايَةِ ورْشٍ وإسْماعِيلَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وإثْباتِ الياءِ ”تَسْألَنِّي“، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ ونافِعٌ بِرِوايَةِ قالُونَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وكَسْرِها مِن غَيْرِ إثْباتِ الياءِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِتَخْفِيفِ النُّونِ وكَسْرِها وحَذْفِ الياءِ ”تَسْألْنِ“، أمّا التَّشْدِيدُ فَلِلتَّأْكِيدِ، وأمّا إثْباتُ الياءِ فَعَلى الأصْلِ، وأمّا تَرْكُ التَّشْدِيدِ والحَذْفُ فَلِلتَّخْفِيفِ مِن غَيْرِ إخْلالٍ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا نَهاهُ عَنْ ذَلِكَ السُّؤالِ حَكى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ﴿قالَ رَبِّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ والمَعْنى أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ لَهُ: ﴿فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ فَقالَ عِنْدَ ذَلِكَ: قَبِلْتُ يا رَبِّ هَذا التَّكْلِيفَ، ولا أعُودُ إلَيْهِ، إلّا أنِّي لا أقْدِرُ عَلى الِاحْتِرازِ مِنهُ إلّا بِإعانَتِكَ وهِدايَتِكَ، فَلِهَذا بَدَأ أوَّلًا بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي أعُوذُ بِكَ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ إخْبارٌ عَمّا في المُسْتَقْبَلِ، أيْ لا أعُودُ إلى هَذا العَمَلِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالِاعْتِذارِ عَمّا مَضى فَقالَ: ﴿وإلّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ وحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ تَقْتَضِي أمْرَيْنِ:
أحَدُهُما: في المُسْتَقْبَلِ، وهو العَزْمُ عَلى التَّرْكِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ .
والثّانِي: في الماضِي وهو النَّدَمُ عَلى ما مَضى، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وإلّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ .
ونَخْتِمُ هَذا الكَلامَ بِالبَحْثِ عَنِ الزَّلَّةِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في هَذا المَقامِ، فَنَقُولُ: إنَّ أُمَّةَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانُوا عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: كافِرٌ يَظْهَرُ كُفْرُهُ، ومُؤْمِنٌ يُعْلَمُ إيمانُهُ، وجَمْعٌ مِنَ المُنافِقِينَ، وقَدْ كانَ حُكْمُ المُؤْمِنِينَ هو النَّجاةُ، وحُكْمُ الكافِرِينَ هو الغَرَقُ، وكانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا، وأمّا أهْلُ النِّفاقِ فَبَقِيَ حُكْمُهم مَخْفِيًّا، وكانَ ابْنُ نُوحٍ مِنهم، وكانَ يَجُوزُ فِيهِ كَوْنُهُ مُؤْمِنًا، وكانَتِ الشَّفَقَةُ المُفْرِطَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الأبِ في حَقِّ الِابْنِ تَحْمِلُهُ عَلى حَمْلِ أعْمالِهِ وأفْعالِهِ، لا عَلى كَوْنِهِ كافِرًا بَلْ عَلى الوُجُوهِ الصَّحِيحَةِ، فَلَمّا رَآهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ القَوْمِ طَلَبَ مِنهُ أنْ يَدْخُلَ السَّفِينَةَ، فَقالَ: ﴿سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماءِ﴾ [هُودٍ: ٤٣ ] وذَلِكَ لا يَدُلُّ عَلى كُفْرِهِ؛ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ أنَّ الصُّعُودَ عَلى الجَبَلِ يَجْرِي مَجْرى الرُّكُوبِ في السَّفِينَةِ في أنَّهُ يَصُونُهُ عَنِ الغَرَقِ، وقَوْلُ نُوحٍ: ﴿لا عاصِمَ اليَوْمَ مِن أمْرِ اللَّهِ إلّا مَن رَحِمَ﴾ [هُودٍ: ٤٣ ] لا يَدُلُّ إلّا عَلى أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يُقَرِّرُ عِنْدَ ابْنِهِ أنَّهُ لا يَنْفَعُهُ إلّا الإيمانُ والعَمَلُ الصّالِحُ، وهَذا أيْضًا لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَلِمَ مِنَ ابْنِهِ أنَّهُ كانَ كافِرًا، فَعِنْدَ هَذِهِ الحالَةِ كانَ قَدْ بَقِيَ في قَلْبِهِ ظَنُّ أنَّ ذَلِكَ الِابْنَ مُؤْمِنٌ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ (p-٦)تَعالى تَخْلِيصَهُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، إمّا بِأنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الدُّخُولِ في السَّفِينَةِ، وإمّا أنْ يَحْفَظَهُ عَلى قُلَّةِ جَبَلٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أخْبَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ مُنافِقٌ، وأنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِ دِينِهِ، فالزَّلَّةُ الصّادِرَةُ عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - هو أنَّهُ لَمْ يَسْتَقْصِ في تَعْرِيفِ ما يَدُلُّ عَلى نِفاقِهِ وكُفْرِهِ، بَلِ اجْتَهَدَ في ذَلِكَ، وكانَ يَظُنُّ أنَّهُ مُؤْمِنٌ، مَعَ أنَّهُ أخْطَأ في ذَلِكَ الِاجْتِهادِ؛ لِأنَّهُ كانَ كافِرًا، فَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إلّا الخَطَأُ في هَذا الِاجْتِهادِ، كَما قَرَّرْنا ذَلِكَ في أنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمْ تَصْدُرْ عَنْهُ تِلْكَ الزَّلَّةُ إلّا لِأنَّهُ أخْطَأ في هَذا الِاجْتِهادِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ الصّادِرَ عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ما كانَ مِن بابِ الكَبائِرِ، وإنَّما هو مِن بابِ الخَطَأِ في الِاجْتِهادِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":45,"ayahs":["وَنَادَىٰ نُوحࣱ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَـٰكِمِینَ","قَالَ یَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیۡرُ صَـٰلِحࣲۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّیۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ","قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِكَ أَنۡ أَسۡـَٔلَكَ مَا لَیۡسَ لِی بِهِۦ عِلۡمࣱۖ وَإِلَّا تَغۡفِرۡ لِی وَتَرۡحَمۡنِیۤ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ"],"ayah":"قَالَ یَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیۡرُ صَـٰلِحࣲۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّیۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ"}