﴿قالَ يا نُوحُ﴾ وأكَّدَ في نَفْيِ ما تَقَدَّمَ مِنهُ إثْباتَهُ فَقالَ: ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ [أيْ] المَحْكُومِ بِنَجاتِهِمْ لِإيمانِهِمْ وكُفْرِهِ، ولِهَذا عُلِّلَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ عَمَلٌ﴾ أيْ: ذُو عَمَلٍ، [ولَكِنَّهُ جَعَلَهُ نَفْسَ العَمَلِ في قِراءَةِ الجَماعَةِ مُبالَغَةً في ذَمِّهِ، وذَلِكَ لِأنَّ الجَواهِرَ مُتَساوِيَةُ الأقْدامِ في نَفْسِ الوُجُودِ لا تَشْرُفُ إلّا بِآثارِها، فَبَيَّنَ أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أثَرٌ صالِحٌ أصْلًا، ويُثْبِتُ قِراءَةَ يَعْقُوبَ والكِسائِيِّ بِالفِعْلِ أنَّ مَن باشَرَ السُّوءَ مُطْلَقَ مُباشَرَةٍ وجَبَتِ البَراءَةُ مِنهُ، ولا سِيَّما لِلْأمْرِ فَلا يُواصَلُ إلّا بِإذْنٍ، وعَبَّرَ بِالعَمَلِ دُونَ الفِعْلِ لِزَعْمِهِ أنَّ أعْمالَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلى العِلْمِ، وأكَّدَهُ لِما لا يُخَصُّ مِن سُؤالِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ هَذا] (p-٢٩٥)﴿غَيْرُ صالِحٍ﴾ بِعِلْمِي، وقَدْ حَكَمْتُ في هَذا الأمْرِ أنِّي لا أُنْجِي مِنهُ إلّا مَنِ اتَّصَفَ بِالصَّلاحِ وأنا عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، وأنْتَ يَخْفى عَلَيْكَ كَثِيرٌ مِنَ الأُمُورِ فَرُبَّما ظَنَنْتَ الإيمانَ بِمَن لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ لِبِنائِكَ الأمْرَ عَلى ما نَراهُ مِن ظاهِرِهِ؛ وقَدْ نَقَلَ الرُّمّانِيُّ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ كانَ يُنافِقُ بِإظْهارِ الإيمانِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُوافِقَ في الدِّينِ ألْصَقُ ما يَكُونُ وإنْ كانَ في غايَةِ البُعْدِ في النَّسَبِ، [والمُخالِفَ فِيهِ أبْعَدُ ما يَكُونُ وإنْ كانَ في غايَةِ القُرْبِ في النَّسَبِ].
ولَمّا تَسَبَّبَ عَنْ هَذا الجَوابِ أنَّ تَرْكَ السُّؤالِ كانَ أوْلى، ذَكَرَ أمْرًا كُلِّيًّا يَنْدَرِجُ فِيهِ فَقالَ: ﴿فَلا تَسْألْنِي﴾ أيْ: بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ السُّؤالِ ﴿ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ فَلا تَعْلَمُ أصَوابٌ السُّؤالُ فِيهِ أمْ لا، لِأنَّ اللّائِقَ بِأمْثالِكَ مِن أُولِي القُرْبِ بِناءُ أُمُورِهِمْ عَلى التَّحْقِيقِ وانْتِظارُ الإعْلامِ مِنّا، انْظُرْ إلى قَوْلِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في حَدِيثِ الشَّفاعَةِ في الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ««وإنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِها»». ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ تِلْكَ النَّفْسَ كانَتْ كافِرَةً مِن آلِ فِرْعَوْنَ ﴿إنِّي أعِظُكَ﴾ بِمَواعِظِي كَراهِيَةَ ﴿أنْ تَكُونَ﴾ أيْ: كَوْنًا تَتَخَلَّقُ بِهِ ﴿مِنَ الجاهِلِينَ﴾ أيْ: في عِدادِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالظَّنِّ لِأنَّهم لا سَبِيلَ لَهم إلى الوُقُوفِ عَلى حَقائِقِ الأُمُورِ مِن قِبَلِنا فَتَسْألُ مِثْلَ ما يَسْألُونَ.
{"ayah":"قَالَ یَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیۡرُ صَـٰلِحࣲۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّیۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ"}