الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿وإذا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأَمْرِ مِنهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إلاَّ قَلِيلًا ﴾ [النساء: ٨٣].
نزَلَتِ الآيةُ في المُنافِقينَ الذين يُظْهِرُونَ الطاعةَ لرسولِ اللهِ ﷺ عندَ حضورِه، ويَعْصُونَهُ في غيابِه، كما قال تعالى قبلَ ذلك: ﴿ويَقُولُونَ طاعَةٌ فَإذا بَرَزُوا مِن عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾ [النساء: ٨١].
الصدقُ مع الأمير في الظاهِرِ والباطِنِ:
ومَن أظهَرَ للأميرِ خلافَ ما يُخفِيهِ، فقد وقَعَ في شُعْبةٍ مِن النِّفاقِ، لأنّ هذا يُفسِدُهُ ويُفسِدُ البلدَ التي يتولاَّها، ولا يجوزُ للناسِ والعلماءِ خاصَّةً أنْ يُظهِرُوا للسُّلْطانِ ما يُفهَمُ منه الانقيادُ له والرِّضا عنه وعلى فِعْلِهِ، وإقرارُهُ عليه، وهم يضمرون خلافَ ذلك، لأنّ هذا في الدِّينِ نِفاقٌ، وفي السياسةِ خديعةٌ، وهو يُخالِفُ النصيحةَ في الدِّينِ، كما في حديثِ تَمِيمٍ الدّارِيِّ في «الصحيحِ»، قال ﷺ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ)، قُلْنا: لِمَن؟ قالَ: (لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسُولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ)[[أخرجه مسلم (٥٥) (١/٧٤).]].
ومَن عَجَزَ عن النصيحةِ، فلا يَقْرَبِ السُّلْطانَ ولا يُجالِسْهُ، لأنّ مُجالَسَةَ العالِمِ له مع عدمِ نُصْحِهِ إقرارٌ، خاصَّةً عندَ تَكْرارِها ودوامِها، ومِن أكثَرِ ما يُفسِدُ على الناصِحِينَ العلماءُ الذين يُكْثِرونَ الدخولَ على السُّلْطانِ مع سكوتِهم، فإنْ نُصِحَ السُّلْطانُ مِن غيرِهم، استحضَرَ إقرارَ الساكِتِينَ، وحَمَلَ نُصْحَ المُصلِحِينَ على مُنازَعةِ الأمرِ والتربُّصِ والفِتْنةِ.
ويَعظُمُ شرُّ الساكِتِينَ على الباطلِ إنْ مَدَحُوا السُّلْطانَ على الخيرِ، وسَكَتُوا عن الشرِّ، وظَنُّوا أنّ سكوتَهم على الشرِّ ليس إقرارًا، وأنّ مَدْحَهم له على الخيرِ حقٌّ، وإنّما يُفتَنُ السُّلْطانُ الذي يُمدَحُ ولا يُنصَحُ ولو كان المدحُ بحقٍّ.
وأشدُّ ذلك: أنْ يَمْدَحَ العالِمُ الحاكمَ على الشرِّ قولًا وفعلًا، وهذا مِن تزيين الباطلِ في صورةِ الحقِّ، وهو مِن أفعالِ المنافقين، لا العلماءِ الراسخين ولا الفاقهين.
وإنّما حَرُمَ على العالِمِ والجاهلِ مُجالَسَةُ الحاكِمِ والإظهارُ له خلافَ ما يُبطِنُه، كما في حالِ المُنافِقينَ في قولِهِ: ﴿ويَقُولُونَ طاعَةٌ فَإذا بَرَزُوا مِن عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾ [النساء: ٨١]، لأنّ الحاكِمَ يَسُوسُ الأُمَّةَ بالأمرِ والنهيِ، وإظهارُ الطاعةِ له وإخفاءُ زَلَّتِهِ عنه وكُرْهِ الرعيَّةِ له: يجعَلُهُ يَجْسُرُ على بعضِ الأوامرِ والنَّواهِي في السياسةِ والجِهادِ والأموالِ، ويَظُنُّ أنّه ثابتٌ بثباتِ المَحْكُومِينَ معه الذين يُنافِقُهُ علماؤُها، فإنْ أمَرَهم بأمرٍ أو نَهاهُم عن أمرٍ لا يُطِيقُونَهُ، فلرُبَّما فاجَؤُوهُ بالعِصْيانِ والتمرُّدِ والخروجِ، ولكنْ لو عَلِمَ منهم مقامَهُ فيهم في ميزانِ الحقِّ والباطلِ، عَرَفَ قَدْرَ ثباتِهِ فيهم وطاعتِهِمْ له، فأصلَحَ نفسَهُ واستصلَحَ غيرَهُ، ولم يأمُرْ بما لا يُطاقُ، ولم يَجسُرْ على فعلِ ما لا يُتابَعُ عليه، لأنّه يَعرِفُ ضَعْفَ ولاءِ رعيَّتِه، وإنْ عَرَفَ سببَ ضعفِ ولائِهِمُ، استصلَحَهُ وقَوَّمَهُ، لتَقْوى شوكتُهُ فيهم بوَلاءِ رعيَّتِهِ له، وقد روى الطَّبَرانيُّ، مِن حديثِ مجاهدٍ: أنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، فَقالَ لَهُ: كَيْفَ أنْتُمْ وأَبُو أُنَيْسٍ ـ يَعْنِي: الضَّحّاكَ بْنَ قَيْسٍ ـ؟ قالَ: نَحْنُ وهُوَ إذا لَقِيناهُ، قُلْنا لَهُ ما تُحِبُّ، وإذا ولَّيْنا عَنْهُ قُلْنا غَيْرَ ذَلِكَ، قالَ: ذَلِكَ ما كُنّا نَعُدُّ ونَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ النِّفاقِ[[أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (١٣٤٨٩) (١٢/٤٠٣).]].
وقد كان الضحّاكُ بنُ قَيْسٍ أبو أُنَيْسٍ واليًا على الكوفةِ ودِمَشْقَ، وأكثرُ ثورةِ الشعوبِ على الحُكّامِ بسببِ تصنُّعِ علمائِهِم وعُرَفائِهِم ونُقَبائِهِم مع الحُكّامِ، فيُبْدُونَ لهم مِن الرضا خلافَ ما يُخْفُونَ مِن السُّخْطِ، ومِن الحُبِّ خلافَ ما يُخْفُونَ مِن الكُرْهِ، ومِن الطاعةِ خلافَ ما يُخْفُونَ مِن المعصيةِ، حتى يَحمِلَ ذلك الحُكّامَ على الثقةِ بأنفُسِهِمْ وتوهُّمِ التمكُّنِ، فيأمُرُونَ ويَنْهَوْنَ وربَّما يَظلِمونَ ويَبْغُونَ، حتى يَرَوْا مِن العامَّةِ حقيقةَ ما يُخفِيهِ عنهم بطانتُهم.
وقد كان الصحابةُ ـ عليهم رِضوانُ اللهِ ـ يَنْهَوْنَ عن نِفاقِ السُّلْطانِ، ومَن عَجَزَ عن النُّصْحِ فلا يُجالِسْ، حتى لا يكونَ شريكًا في خديعةِ السُّلْطانِ والرعيَّةِ، وقد روى نافعٌ: أنَّ ابْنَ عُمَر قالَ لِقَوْمٍ يَأْتُونَ السُّلْطانَ: ماذا رَأَيْتُمْ مِن مُنْكَرٍ مِنهُ غَيَّرْتُمُوهُ، أوْ مِن مَعْرُوفٍ أمَرْتُمُوهُ بِهِ؟ قالُوا: لا، ولكن إذا قالَ شَيْئًا، قُلْنا: صَدَقَ، وإذا خَرَجْنا مِن عِنْدِهِ، قُلْنا ما نَعْلَمُ، قالَ:كُنّا نَعُدُّ هَذا نِفاقًا، أوْ مِنَ النِّفاقِ[[أخرجه البزار في «مسنده» (٥٨٦٨) (١٢/١٩٧).]].
تدبُّرُ القرآنِ وأَثَرُهُ على النفاقِ:
ثمَّ بيَّنَ اللهُ بعدَ ذلك سبَبَ ضَلالِ المُنافِقِينَ وانحرافِهِمْ، وأنّه بسببِ عدمِ تدبُّرِهِمْ للقرآنِ، فقال: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ﴾ [النساء: ٨٢]، والمُنافِقُ لضعفِ تصديقِهِ لا يتدبَّرُ القرآنَ ولا يتأمَّلُهُ، بل يأخُذُهُ على ظاهرِهِ ولا يَنْشَطُ لِمَعانِيهِ وحِكَمِه وعِلَلِه، والمُنافِقونَ على مَراتِبَ، فبحسَبِ قوةِ نِفاقِهِمْ وضعفِهِ تكونُ قوةُ أخذِهِمْ للحقِّ مِن صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وذِكْرٍ، بل حتى شربُ زمزمَ لا يتضلَّعُونَ منه، لضَعْفِ اليقينِ بما جاء بالوحيِ عنه، وإنْ زاد النِّفاقُ وضعُفَ اليقينُ، ضعُف الأخذُ حتى يكونَ التركُ التامُّ مع انعدامِ اليقينِ، واختلافُ الإنسانِ في ظاهرِهِ وعَلانِيَتِهِ بمقدارِ يقينِهِ ونِفاقِه، حتى يستويَ عندَ تامِّ اليقينِ والتصديقِ الغيبُ والشهادةُ، والسِّرُّ والعلانيةُ، ورؤيةُ الناسِ وعدمُهم، لأنّ المراقبةَ للهِ لا لهم، وهذا الإحسانُ، والإحسانُ نفسُهُ يَضْعُفُ ويَقْوى.
وقولُه تعالى: ﴿وإذا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ﴾، يعني: أنّهم يُعْلِنُونَ أخبارَ الأُمَّةِ وأسرارَها، ولا يُفرِّقونَ بينَ ما يُعلَنُ وما لا يُعلَنُ، لأنّ كلَّ واحدٍ منهم يهتمُّ بأمرِ نفسِهِ لِيُصلِحَها، فهمُّهُ سلامتُها وغُنْمُها، ولا يَعنِيهِ أمرُ الأُمَّةِ المنوطُ بأُولي الأمرِ العارِفينَ بمصالحِها، وهم العلماءُ.
وسببُ نزولِ هذه الآيةِ: أنّ الناسَ أذاعُوا أنّ النبيَّ طلَّقَ نساءَهُ، ولم يكنْ كذلك، ولم يَسْتَبِينُوا ولم يَترَيَّثُوا ولم يُحِيلُوا الخبرَ والعِلمَ إلى مَن يَعلَمُ، فكثُرَ اللَّغَطُ والقيلُ والقالُ، ففي «الصحيحِ»، مِن حديثِ عمرَ، قال: كانَتْ عائِشَةُ بِنْتُ أبِي بَكْرٍ وحَفْصَةُ تَظاهَرانِ عَلى سائِرِ نِساءِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أطَلَّقْتَهُنَّ؟ قالَ: (لا)، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي دَخَلْتُ المَسْجِدَ والمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالحَصى، يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ نِساءَهُ! أفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قالَ: (نَعَمْ، إنْ شِئْتَ)، فَلَمْ أزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتّى تَحَسَّرَ الغَضَبُ عَنْ وجْهِهِ، وحَتّى كَشَرَ فَضَحِكَ، وكانَ مِن أحْسَنِ النّاسِ ثَغْرًا، ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ ونَزَلْتُ، فَنَزَلْتُ أتَشَبَّثُ بِالجِذْعِ، ونَزَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَأَنَّما يَمْشِي عَلى الأَرْضِ ما يَمَسُّهُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّما كُنْتَ فِي الغُرْفَةِ تِسْعَةً وعِشْرِينَ؟ قالَ: (إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وعِشْرِينَ)، فَقُمْتُ عَلى بابِ المَسْجِدِ، فَنادَيْتُ بِأَعْلى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللهِ ﷺ نِساءَهُ! ونَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: ﴿وإذا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأَمْرِ مِنهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ﴾، فَكُنْتُ أنا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الأَمْرَ، وأَنْزَلَ اللهُ عزّ وجل آيَةَ التَّخْيِيرِ[[أخرجه مسلم (١٤٧٩) (٢/١١٠٥).]].
أوصافُ العالِمِ الذي يقضي في النوازل:
والمرادُ بأُولي الأمرِ: هم أهلُ العِلْمِ به، فاللهُ أمَرَ بإحالةِ الأمرِ إلى العلماءِ مِن الناسِ، لِيَعْلَمَهُ مَن يَقدِرُ على استنباطِ الحُكْمِ منهم، فما كلُّ عالمٍ قادرًا على استنباطِ الحُكْمِ مِن كلِّ دليلٍ لكلِّ نازلةٍ، ولذا قال تعالى: ﴿أُولِي الأَمْرِ مِنهُمْ﴾، يعني: مِن المؤمِنِينَ، ثمَّ قال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ﴾، يعني: مِن العلماءِ، فالعلماءُ يتفاوَتونَ في الاستنباطِ بحسَبِ معرفتِهِمْ بالأدلَّةِ والنوازِلِ والعِلَلِ المُناسِبةِ بينَها وبينَ الأدلةِ، وأفضلُ الناسِ العلماءُ، وأفضلُ العلماءِ أوْسَعُهُمُ استنباطًا وأدقُّهُمْ صوابًا واتِّباعًا، ولا يَقضي العالِمُ في النوازِلِ إلاَّ مَن عَرَفَ أشياءَ ثلاثةً:
أولًا: الدليلُ، وكلَّما كان العالمُ أكثَرَ استيعابًا للأدلَّةِ، كان أقرَبَ للصوابِ، ويَقِلُّ صوابُهُ بمقدارِ ضَعْفِهِ في استيعابِ الأدلَّة، فربَّما عرَفَ دليلًا وجَهِلَ ما هو ألصَقُ بالمسألةِ المنظورةِ منه، فيَضعُفُ تنزيلُهُ، لبُعْدِ الدليلِ عن النازِلةِ، وبمقدارِ بُعْدِ الدليلِ يكونُ ضعفُ الاستدلالِ.
ثانيًا: النازِلةُ، فمَن عرَفَ النازِلةَ وعايَنَها، كان أبصَرَ بها وبالحُكْمِ المُناسِبِ لها، ومَن كان بعيدًا عنها، ضَعُفَ نظرُهُ فيها، وكلَّما كان العالِمُ بالنوازِلِ أعلَمَ، وبالحوادثِ أخْبَرَ، فهو بمعرِفةِ ما يُناسِبُها مِن الأدلَّةِ أدَقُّ وأصوَبُ، وهذا يكونُ في العلماءِ الذين قرَؤُوا التاريخَ، وخَبَرُوا النوازلَ، وعرَفُوا ما شابَهَها، ويكونُ في الشيوخِ أكثَرَ مِن الشبابِ، ولذا قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ: «رأيُ الشيخِ خيرٌ مِن مَشْهَدِ الغلامِ»[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (١٠/١١٣).]].
وذلك أنّ الغلامَ قد يشهدُ نازِلةً ولم يَعرِفْ نظيرَها، والشيخُ شَهِدَ نظائرَ أو سَمِعَ بنظائرَ ولو لم يَشْهَدْها، فالعِلْمُ بالخبرِ إذا كَثُرَ كان كالمشاهدةِ وأشَدَّ.
ثالثًا: التعليلُ المشتَرَكُ بينَ النازلةِ ودليلِها المناسِبِ لها، فمَن لم يَعرِفْ عِلَلَ الحوادثِ والرابطَ بينَها وبينَ أدلَّةِ النقلِ والعقلِ، أخطَأَ في تنزيلِ الأدلَّةِ على النوازِلِ، فربَّما الجهلُ بالتعليلِ يُخطِئُ معه العالِمُ في النازلةِ، إذْ يكونُ المُناسِبُ لها الشِّدَّةَ فيستعمِلُ اللِّينَ، وربَّما العكسُ.
معنى أُولي الأمرِ في الآية:
ويَعْضُدُ أنّ المرادَ بأُولي الأمرِ هنا: العلماءُ: أمورٌ، منها:
أولًا: أنّ اللهَ ذكَرَ هذه الآيةَ بعدَ ذِكْرِهِ لعِصْيانِ المُنافِقِينَ للنبيِّ ﷺ عندَ غيابِهم عنه، وإظهارِ طاعتِهِ في الشهادةِ، فهم المقصُودونَ هنا في هذه الآيةِ بِرَدِّ الأمرِ، والنبيُّ هو المقصودُ برَدِّ الأمرِ إليه، ويَتْبَعُهُ في حُكْمِهِ مَن ورِثَ الأمرَ منه، وهم العلماءُ، كما قال ﷺ: (إنَّ العُلَماءَ ورَثَةُ الأَنْبِياءِ)[[أخرجه أبو داود (٣٦٤١) (٣/٣١٧)، والترمذي (٢٦٨٢) (٥/٤٨)، وابن ماجه (٢٢٣) (١/٨١).]].
ثـانيًـا: أنّ اللَّهَ قال: ﴿أُولِي الأَمْرِ مِنهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ﴾، ولا يَستنبِطُ إلاَّ عالِمٌ، فالاستنباطُ هو استخراجُ الصالحِ للنازِلةِ مِن الدليلِ العامِّ، وهذا لا يكونُ إلاَّ مِن عالِمٍ بالدليلِ، بصيرٍ بالتعليل.
ثـالثًـا: أنّ اللهَ ذكَرَ العِلْمَ في الآيةِ، فقال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ﴾، ولم يَقُلْ: لأمَرَ به، أو نَهى عنه، لأنّ الأمرَ والنهيَ قد يكونُ عن عِلْمٍ، وقد يكونُ عن جهلٍ، ولكنَّه قال: ﴿لَعَلِمَهُ﴾، يعني: عَلِمَ العالمُ ما يصلُحُ للنازِلةِ مِن الأمرِ: إعلانَها أو إسرارَها، وصِفةَ تدبيرِها، وعمَلَ الناسِ بها، وموقفَهم منها، وهذا لا يكونُ إلا لوليِّ الأمرِ العالِمِ، لا الآمِرِ بلا عِلْمٍ.
رابعًا: أنّ اللَّهَ قال بعدَ ذلك: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إلاَّ قَلِيلًا ﴾، ولا يَقِي مِن سبيلِ الشيطانِ ويَجلِبُ رحمةَ اللهِ إلاَّ العِلْمُ والعَملُ به.
وقد نصَّ على أنّ المرادَ بأُولي الأمرِ في هذه الآيةِ: العلماءُ: جماعةٌ، كقتادةَ وخصيفٍ وغيرِهما[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠١٥).]]، وتقدَّمَ الكلامُ على معنى أُولِي الأمرِ بالقرآنِ في مواضِعَ.
التحذيرُ من إشاعةِ الأخبارِ:
وإنّما نَهى اللهُ عن إذاعةِ الأخبارِ قبلَ عَرْضِها على أهلِ المعرِفةِ بها، لأنّ الأخبارَ المُرسَلةَ يَعْتَرِيها الكذبُ والإرجافُ، فقد تكونُ حقًّا ولا يجوزُ إذاعتُها، لأنّ فيها هتكًا لذنبٍ مستورٍ وعورةٍ مُغطّاةٍ، وقد يكونُ في إظهارِها إرجافٌ وتثبيطٌ للمؤمِنِين، فأهلُ المعرفةِ يَستَوْثِقونَ مِن الأخبارِ، ويَعرِفونَ صحيحَها مِن ضعيفِها والصالحَ منها للإذاعة وغيرَ الصالِحِ، ولذا قال اللَّهُ: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ﴾.
قال مجاهدُ بنُ جَبْرٍ: قولُهم: ماذا كان؟ وما سمعتُم؟ يعني: أنّ العالمَ يَستخبِرُ ويستفهِمُ ليستوثِقَ مِن صحةِ الأخبارِ، رواهُ ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ، أخرَجَهُ ابن جريرٍ، وابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٢٥٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠١٦).]].
وبمعناهُ قال أبو العاليةِ وقتادةُ والسُّدِّيُّ[[المرجعان السابقان.]].
ومِن معاني الاستنباطِ: الاستخراجُ، كاستخراجِ الماءِ بالدَّلْوِ مِن البئرِ، وبنحوِه قال أبو عُبَيْدَةَ[[ينظر: «مجاز القرآن» لأبي عبيدة مَعْمَر بن المثنّى (١/١٣٤)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٨٠٧).]].
وقولُه تعالى: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ﴾، يعني: لولا ما تفضَّلَ اللهُ به عليكم مِن وحْيٍ وبصيرةٍ، لَسَلَكَتْ بكم نفوسُكُمْ سبيلَ الشيطانِ، وفي هذا: أنّ العلماءَ رحمةٌ للأُمَّةِ، وهم أعظَمُ أعداءِ الشيطانِ، وأشَدُّ العَثَراتِ في الطريقِ إليه.
فضلُ علمِ الرجالِ وأخبارِهِمْ:
وفي هذا: أنّ عِلْمَ فحصِ الأخبارِ والتوثُّقِ منها ومعرفةِ الرِّجالِ وأحوالِهم وجَرْحِهم وتعديلِهم ـ: مِن فضلِ اللهِ ورحمتِه، فلولاهُ لم يكنْ للصادقِ فضلٌ على الكاذبِ، ولكان أمرُ الأُمَّةِ في دِينِها ودُنياها في فتنةٍ وشرٍّ.
والعالِمُ يَرُدُّ مُتشابِهَ الأخبارِ إلى مُحْكَمِها، وهي في أخبارِ الوحيِ أشَدُّ احتياطًا واحترازًا، فلا يُعارِضُ بعضَها ببعضٍ، ولا يَضرِبُ بعضَها ببعضٍ، فيَجمَعُ بينَها، وإنْ تحيَّرَ، سلَّمَ العلمَ إلى عالِمِهِ، ولم يَجسُرْ بهواهُ، كما قال تعالى: ﴿والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ [آل عمران: ٧].
وفي «المُسنَدِ»، مِن حديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّه، قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ذاتَ يَوْمٍ والنّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي القَدَرِ، قالَ: وكَأَنَّما تَفَقَّأَ فِي وجْهِهِ حَبُّ الرُّمّانِ مِنَ الغَضَبِ، قالَ: فَقالَ لَهُمْ: (ما لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟! بِهَذا هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ)[[أخرجه أحمد (٦٦٦٨) (٢/١٧٨).]].
وفي لفظٍ آخَرَ في «المسنَدِ»، قال: (مَهْلًا يا قَوْمُ! بِهَذا أُهْلِكَتِ الأُمَمُ مِن قَبْلِكُمْ، بِاخْتِلافِهِمْ عَلى أنْبِيائِهِمْ، وضَرْبِهِمُ الكُتُبَ بَعْضَها بِبَعْضٍ، إنَّ القُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَما عَرَفْتُمْ مِنهُ، فاعْمَلُوا بِهِ، وما جَهِلْتُمْ مِنهُ، فَرُدُّوهُ إلى عالِمِهِ) [[أخرجه أحمد (٦٧٠٢) (٢/١٨١).]].
التحدثُ بكلِّ مسموعٍ:
وفي إطلاقِ اللِّسانِ بالأخبارِ آثامٌ لا تُحصى، لفتنةِ الناسِ بعضِهِمْ ببعضٍ، وبثِّ الخوفِ أو الجُبْنِ أو التسبُّبِ في رُكُونِهِمْ إلى الدُّنيا والافتتانِ بها، ففي «السُّننِ»، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ ﷺ، قال: (كَفى بِالمَرْءِ إثْمًا أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ) [[أخرجه أبو داود (٤٩٩٢) (٤/٢٩٨).]]، وأخرَجَهُ مسلمٌ في مقدِّمةِ «صحيحِه»[[«صحيح مسلم» ـ المقدمة (١/١٠).]].
وفي هذه الآيةِ: إشارةٌ إلى أنّ المُنافِقَ همُّهُ سلامةُ نفسِهِ ومالِهِ وأهلِهِ، ولا يَعْنِيهِ مِن الأخبارِ ما يُضِرُّ بالأُمَّةِ ويُفسِدُها، فإنّ الآيةَ في سياقِ الأخبارِ المتعلِّقةِ بمصالِحِ الأُمَّةِ ومَضارِّها، فمِن علامةِ المؤمنِ: اهتمامُهُ بأمرِ أمَّتِهِ ولو تضرَّرَ في نفسِه لأجلِها، ومِن علامةِ المنافِقِ: اهتمامُهُ بأمرِ نفسِهِ ولو تضرَّرَتْ أُمَّتُهُ لأجلِها.
والخطابُ في هذه الآيةِ: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ﴾ لأهلِ الإيمانِ كما هو ظاهرٌ، قال ابنُ عبّاسٍ: «فانقطَعَ الكلامُ، فهو في أولِ الآيةِ يُخبِرُ عن المُنافِقينَ»، رواهُ عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ، أخرَجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠١٧).]].
وقولُه: ﴿لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إلاَّ قَلِيلًا ﴾، يعني بالقليلِ: أهلَ الإيمانِ، كما رواهُ عليٌّ، عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٢٦٣)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٨٠٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠١٧).]].
{"ayah":"وَإِذَا جَاۤءَهُمۡ أَمۡرࣱ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُوا۟ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰۤ أُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِینَ یَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنَ إِلَّا قَلِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق