الباحث القرآني
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ الآية [[جعلت هنا تفسير الآية (83) الذي كان مقدمًا في المخطوط على تفسير الآية (82).]] المفسرون وأرباب المعاني فوضى مختلفون في هذه الآية، ولا تكاد ترى لأحدهم متفق الصدر والعجز في معناها، وسأبين ما هو الأوفق والأليق إن شاء الله.
قال أبو بكر محمد بن القاسم [[ابن الأنباري.]]: نزلت هذه الآية في قوم كانوا يُرجفون بسرايا رسول الله ﷺ وُيخبرون بما وقع بها وبما أدركت ولحقت، قبل أن يُخبر به النبي ﷺ فيضعفون قلوب المؤمنين ويؤذون النبي ﷺ سبقهم إياه بالأخبار، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ أي أبدوه وأظهروه قبل إبداء الرسول إياه إلا قليلًا منهم ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ أي أولي أمر السرايا، حتى يكون النبي ﷺ والأمراء هم الذين يُخبرون به ﴿لَعَلِمَهُ﴾ كل طالب علمه، واستغنوا بذلك عن الإخبار بما يغم رسول الله ﷺ ويؤذي المسلمين [[لم أقف عليه عن ابن الأنباري.]].
وهذا الذي قاله أبو بكر معنى صحيح عليه كثير من المفسرين [[انظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 279، والطبري 5/ 182، "معاني الزجاج" 2/ 83، "بحر العلوم" 1/ 371، "الكشف والبيان" 4/ 93 أ، "زاد المسير" 2/ 145.]]، وأذكر من أقوالهم ما وافق هذا المعنى.
قال ابن عباس: هذا في الأخبار، إذا غزت السرية من المسلمين أخبروا الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمين من عدوهم كذا وكذا، فأفشوه بينهم [[أخرجه بمعناه من طريق العوفي ومن طريق ابن جريج الطبري 5/ 182 - 183، وانظر: "زاد المسير" 2/ 145، "الدر المنثور" 2/ 333 - 334.]].
وقال (السدي) [[الكلمة بين القوسين غير واضحة تمامًا في المخطوط، وما أثبته محتمل.]]: نزل هذا في أصحاب الأخبار والأراجيف كانوا إذا سمعوا من النبي خبرًا أفشوه حتى يبلغ العدو فيأخذ حذره، وكذلك كانوا يصنعون إذا كانوا غزاةً في السرايا [[أخرجه بمعناه الطبري 5/ 182 - 183، وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334.]].
وقال الكلبي: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ يعني المناِفقين ﴿أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ﴾ حديث فيه أمن ﴿أَوِ الْخَوْفِ﴾ يعني الهزيمة ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ أفشوه، ولو سكتوا عنه حتى يكون الرسول هو الذي يُفشيه، أو أولو الأمر مثل أبي بكر وعمر وعلي، ويقال أمراء السرايا ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ يتبعونه، ويقال: يطلبون علم ذلك [[بنحوه في "بحر العلوم" 1/ 371، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 91.]].
قال: وكان رسول الله ﷺ إذا بعث سرية فغلبت أو غُلبت تحدثوا بذلك وأفشوه، ولم يقفوا في ذلك حتى يكون رسول الله يخبرهم، فأنزل الله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ﴾. ونحو هذا قال مقاتل [[في "تفسيره" 1/ 393.]].
فهذه الأقوال التي ذكرنا توافق المعنى الذي ذكره أبو بكر وتقاربه.
فأما سوق الألفاظ على هذا التفسير، فقوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ يعني المنافقين في قول أكثرهم [[هذا قول ابن زيد والضحاك وغيرهما. انظر: الطبري 5/ 182 - 183، "بحر العلوم" 1/ 371، "الكشف والبيان" 4/ 92 أ، و"النكت والعيون" 1/ 511.]].
قال الزجاج: وكان ضعفة من المسلمين يُشيعون ذلك معهم من غير علم منهم بالضرر في ذلك [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 83.]]. وهذا قول الحسن أيضًا [["النكت والعيون" 1/ 511.]].
والسدي أبهم الأمر فقال: نزل في أصحاب الأخبار [[انظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334.]].
فاحتمل أن يكونوا من المنافقين وأن يكونوا من المسلمين.
ومعنى ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾ إذا وقع إليهم وانتهى إليهم هذا الخبر الذي هو أمر ﴿مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ من جهة استخبار وتجسس في معنى قول المفسرين إلا في قول السدي، فإنه قال: كانوا إذا سمعوا من النبي ﷺ خبرًا [[انظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334.]]. فعلى قوله يجيئهم الخبر بالسماع عن النبي ﷺ، وعلى قوله لا يجوز أن يكونوا كاذبين بأن كان ما وقع إليهم من الخبر كذبًا، فقد قال ابن عباس: أفشوه بينهم من غير أن يكون شيء من ذلك [[أخرجه الطبري 5/ 182 - 183 من طريق ابن جريج، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334.]].
وقوله: ﴿أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾. مضى فيه كلام المفسرين.
وقال الحسن: من السلم أو الحرب [[انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" للهواري 1/ 404.]].
وقوله تعالى: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾. الذيع أن يشيع الأمر [["تهذيب اللغة" 2/ 1262 (ذاع)، وانظر: "الصحاح" 3/ 1211 (ذيع).]]. قال الفراء: يقال: ذاع الشيء يذيع ذيعانًا وذيعًا وذيوعًا [[ليس في "معاني القرآن"، ويحتمل وجوده في كتابه "المصادر"، وهو مفقود.]].
وقال أبو زيد: أذعتُ الأمر وأذعت به [["تهذيب اللغة" 2/ 1262 (ذاع).]]. ونحو ذلك قال الكسائي وأبو عبيدة [["مجاز القرآن" 1/ 133، وانظر: الطبري 5/ 182 - 183.]] وأنشد.
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب [[البيت لأبي الأسود الدؤلي كما في "المجاز" 1/ 133، والطبري 5/ 182 - 183، وفي "معاني الزجاج" 2/ 83 دون نسبة.
قال أبو عبيدة عقبه: "يقال: أثقب نارك، أي أوقدها حتى تضيء" ويقصد أبو الأسود بهذا البيت صديقًا له أفشى له سرًا، والمعنى: أشاع هذا السر وأظهره حتى صار كالنار الموقدة في مكان عال يراها كل مار.]]
قال قتادة: ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ أظهروه [[أخرجه الطبري 5/ 182 - 183، لكن بلفظ: "سارعوا به وأفشوه".]].
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾.
أي ردوا الأمر من الأمن أو الخوف [[انظر: الطبري 5/ 182 - 183، و"زاد المسير" 2/ 146.]]. وتأويله: فوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر [[انظر: الطبري 5/ 182 - 183، و"معاني الزجاج" 2/ 83، و"الكشف والبيان" 4/ 92 أ.]].
وفي أولي الأمر قولان ذكرتهما [[كأن هذِه الكلمة في المخطوط: "ذكرهما".]] في حكايته قول الكلبي، أحدهما اختيار الزجاج؛ لأنه قال: إلى ذوي العلم والرأي منهم [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 83.]].
والثاني اختيار الفراء؛ لأنه قال: لو ردوه إلى أمراء السرايا [["معاني القرآن" 1/ 279.]].
وقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ﴾ يعني من هؤلاء المرجفين. وجعل أمراء السرايا وذوي العلم منهم من حيث الظاهر. وقد مضى مثل هذا في آيتين، وذكرنا الكلام هناك، إحدى الآيتين قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء:72] والثانية قوله معنى [[لعل الصواب: "تعالى".]] ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء:66].
وقوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.
معنى الاستنباط في اللغة الاستخراج، يقال: استنبط الفقيه، إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه. وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما يُحفر. يقال من ذلك: أنبط في غضراء [[الغضراء: "طينة خضراء علكة" "الصحاح" 2/ 770 (غضر).]] أي استنبط الماء في طين حر.
قال: والنبط [["النبط والنبيط: قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين، والجمع أنباط". "الصحاح" 3/ 1162 (نبط).]] إنما سموا نبطًا لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين. هذا كلام الزجاج [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 83، وانظر: الطبري 5/ 182 - 183، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 438، و"تهذيب اللغة" 4/ 3497، و"الصحاح" 3/ 1162 (نبط) و"زاد المسير" 2/ 147، و"اللسان" 7/ 4325 (نبط).]].
وقال الفراء: ينبطونه مثل يستنبطونه، ونبط الماء ينبط وينبط نبوطًا والأنباط الذين استنبطوا الماء من الأرض [[ليس في "معاني القرآن"، فيحتمل وجوده في كتابه المفقود: المصادر.]].
وقال ابن الأعرابي: يقال للرجل إذا كان يعدُ ولا يُنجز: فلان قريب الثرى بعيد النبط [["تهذيب اللغة" 4/ 3497 (نبط).]].
وقال غيره: يقال ذلك إذا وصف بالعز والمنعة، حتى لا يجد عدوه سبيلًا إلى أن يهضمه [["تهذيب اللغة" 4/ 3497 (نبط).]]. قال كعب بن سعد الغنوي [[هو كعب بن سعد بن عمرو بن عقبة الغنوي، شاعر جاهلي مجيد، وقيل: أدرك الإسلام، وهو من أصحاب المراثي. انظر: "طبقات الشعراء" ص 48، و"الأعلام" 5/ 227.]]:
قريب ثراه ما ينال عدوُّه ... له نبطًا أبي الهوان قطوبُ [[البيت في "تهذيب اللغة" 4/ 3497، و"الصحاح" 3/ 1162 (نبط) دون نسبة. ونسب لكعب في "أساس البلاغة" 2/ 416، و"اللسان" 7/ 4325 (نبط)، و"الصحاح" و"اللسان": "عند" بدل قوله: "أبي".
ومعنى: قريب ثراه: أي قريب خبره، انظر: "اللسان" 1/ 480 (ثرا).
وقطوب: من القطوب وهو كناية عن الغضب والعبوس. انظر: "اللسان" 6/ 3667 (قطب).]]
وأنشده الفراء في المصادر. هذا كلام أهل اللغة.
فأما قول أهل التأويل، فقال الضحاك: ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ يتبعونه [[أخرجه الطبري 5/ 182 بلفظ: "يتتبعونه" وذكره في "الكشف والبيان" 4/ 12 و"معالم التنزيل" 2/ 255.]].
وقال عكرمة: الذين يحرصون عليه ويسألون عنه [["الكشف والبيان" 4/ 92 أ، و"معالم التنزيل" 2/ 255.]].
وقال مجاهد: هو قولهم: ماذا كان؟، وماذا سمعتم [["تفسيره" 1/ 167، وأخرجه الطبري 5/ 182 - 183، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 334.]]؟.
وقال أبو العالية: يتحسسونه [[أخرجه الطبري 5/ 182 - 183، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 334.]].
وكل هذه أقوال في معاني الاستنباط.
وقال عطاء: يريد يستيقنونه ويعلمونه [[لم أقف عليه.]].
وهذا مرتب على الاستنباط، أي يعلمونه بعد الاستنباط الذي هو السبب المؤدي إلى العلم.
وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ من صلة الاستنباط، يقال: استنبطت من فلان أمرًا. والكناية تعود على المرجفين، وهي كقوله: ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ [[انظر: "معاني الزجاج" 2/ 83، و"إعراب القرآن" للنحاس 1/ 438.]].
والمعنى: لو سكتوا وفوضوا ذلك إلى (نبي، ذكرهم الله تعالى) [[هكذا في المخطوط وهو غير واضح.]] لعلم ذلك الخبر كل طالب من المسلمين من غير إذاعة المنافقين، ولم يكونوا قد آذوا رسول الله بإذاعة ما يكره إذاعته.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾.
قال ابن عباس: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن [["الكشف والبيان" 4/ 92 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 255، و"زاد المسير" 2/ 148.]].
وقال أبو روق: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلام ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ بالقرآن ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [[انظر: "معالم التنزيل" 2/ 255، و"زاد المسير" 2/ 148.]]
واختلفوا في وجه هذا الاستنباط:
فقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه: تَمَّ الكلام عند قوله ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ ثم استثنى القليل. قوله: ﴿أَذَاعُوا﴾ أي أذاعوا به إلا قليلًا، يعني بالقليل المؤمنين [[بنحوه في تفسير ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة وهو المراد بقول المؤلف: الوالبي. وأخرجه الطبري 5/ 183، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 334.]]. وهذا قول ابن زيد [[أخرجه الطبري 5/ 183، وانظر: "الدر المنثور" 2/ 334.]] والكسائي [[انظر: "معاني القرآن" للنحاس 2/ 142.]] والفراء [[في "معاني القرآن" 1/ 279. وهذا القول اختيار الطبري، انظر: "تفسير الطبري" 5/ 183، و"زاد المسير" 2/ 148.]].
وقال الحسن وقتادة: الاستثناء من قوله ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ أجود [[أخرجه بمعناه عن قتادة الطبري 5/ 183، وابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر: "الدر المنثور" 2/ 334.
وذكره عنهما الماوردي 1/ 511، وابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 148.]]؛ لأن ما علم بالاستنباط فليس الأكثر يعرفه، وإنما يستنبط القليل؛ لأن الفضائل والاستخراج في القليل من الناس [[هذا التعليل للنحويين، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 84.]].
قال الزجاج: وهذا في هذا الموضع غلط من النحويين؛ لأن هذا الاستنباط ليس من شيء [[في "معاني الزجاج" 2/ 84: "ليس بشيء" والصواب ما في المعاني، ويحتمل حصول تصحف هنا.]] يُستخرج بنظر وتفكر، وإنما هو استنباط خبر، فالأكثر يعرف الخبر إذا أخبر به، وإنما القليل ههنا المبالغ في البلادة، الذي لا يعلم ما يُخبر به. فاستثناء القليل من قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ صحيح [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 84 - بتصرف-.]].
وقال الفراء: استثناء (قليل) مما في ﴿أَذَاعُوا﴾ أوضح وأبين معنى؛ لأنهم لا يجتمعون في الإذاعة كما يجتمعون في الاستنباط ومعرفة الخبر المظهر لهم. هذا معنى قوله. ولفظه أنه يقول: الاستثناء من ﴿أَذَاعُوا﴾ أجود لوجهين: لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكون في بعض دون بعض، فلذلك استحببت [[عند الفراء: "استحسنت".]] الاستثناء من الإذاعة [["معاني القرآن" 1/ 279، 280، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 92 ب.]]؛ لأنه جعل القليل المستثنى البليد الذي لا يعلم ما يخبر به.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا ممن (عصم) [[هذِه الكلمة في المخطوط: "عظم" بالظاء، والتصويب من "الوسيط" 2/ 637.]] الله [[أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 637، ولم أقف عليه.]].
قال ابن الأنباري: قال أصحاب هذا القول: الذين وقع عليهم الاستثناء هم الذين اهتدوا بعقولهم لترك عبادة الأوثان والإشراك بالله عز وجل وأقاموا على التوحيد بغير رسول ولا كتاب، نحو زيد بن عمرو بن نفيل ورقة بن نوفل [[هو ورقة بن نوفل بن عبد العزى القرشي، من الحكماء، اعتزل عبادة الأصنام، ولم يأكل مما ذبح عليها، واعتنق النصرانية، وقد أدرك أوائل عصر النبوة وقصته في بدء الوحي مشهورة في البخاري وغيره، وقد آمن وعد من الصحابة.
انظر: "أسد الغابة" 5/ 447، و"الإصابة" 3/ 633، و"الأعلام" 8/ 114.]]، وطلاب الدين [[انظر: "معاني الزجاج" 2/ 84، و"النكت والعيون" 1/ 511، 512، و"الوسيط" 2/ 637، و"زاد المسير" 2/ 148.]]. قال: والقولان الأولان (أثبت) [[تكررت هذِه الكلمة في المخطوط.]] من هذا القول؛ لأن ورقة وزيدًا وغيرهما ممن ثبته [[هكذا في المخطوط، ولعل الصواب: "ثبت".]] بفضل الله ورحمته أدرك الدين (أدرك) [[هكذا هذِه الكلمة في المخطوط، ولعل الصواب: "أم لم يدركه".]] فنعمة الله لازمة له.
ونصر الزجاج هذا القول الثالث، وأجاب عن ترجيح ابن الأنباري القولين الأولين، فقال: قبل أن ينزل القرآن على النبي ﷺ وقبل أن يُبعث قد كان في الناس القليل ممن لم يشاهد القرآن ولا النبي ﷺ مؤمنًا، فإن قال قائل: إن من كان قبل ذلك مؤمنًا فبفضل الله ورحمته آمن، قيل: إن المقصود بالفضل والرحمة في هذا الموضع النبي ﷺ والقرآن، وإيمان هؤلاء القليل كان قبلهما [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 84.]].
فيصح الاستثناء إذا خصصت الفضل والرحمة بالنبي ﷺ والقرآن.
هذا الذي ذكرنا في هذا الآية قول أكثر المفسرين [[إلى هنا في المخطوط انتهى الكلام عن تفسير الآية 83، وأتى الناسخ بتفسير للآية 86 قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ الآية، وكان قد قدم في المخطوط تفسير للآية 83 من أثنائها، ويحتمل أنه بعد هذا الكلام مباشرة فجعلته بعده في الصفحة التالية.]].
وفي الآية قول آخر، وهو ما قال ابن عباس في رواية الضحاك في قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾ يعني المنافقين، كانوا إذا أمروا بالقتال لم يطيعوا الله فيما أمرهم به، وإن نهاهم عن محارمه لم ينتهوا، وإن أفضى الرسول إليهم سرًا أذاعوا عند العدو، فأنزل الله عز وجل ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ يعني أمورهم في الحلال والحرام، ﴿إِلَى الرَّسُولِ﴾ في التصديق به، ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾ يعني حملة الفقه والحكمة، ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ يعني الذين يفحصون عن العلم [[أخرج طرفه الطبري 5/ 183 من طريق العوفي عن ابن عباس، وابن أبي حاتم انظر: "الدر المنثور" 2/ 334.]].
فعلى هذا القول قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ معناه كما ذكرنا في القول الأول.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾. الكناية لا تعود إلى الأمر كما عادت إليه في القول الأول، لكنها عائدة إلى غير مذكور، وهو ما يعرض لهم من أمر يحتاجون فيه إلى بيان الرسول وأولي العلم من الصحابة، كأنه قيل: ولو ردوا ذلك الذي عرض لهم إلى الرسول وإلى حملة الفقه لعلموه وأخبروا بما فيه من الصواب [[انظر: الطبري 5/ 181 - 182.]].
والكناية عن غير مذكور كثيرة إذا كان في الكلام دليل على ما لم يذكر.
ونحو هذا قال الحسن وقتادة وابن جريج وابن أبي نجيح في ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾ أنهم أهل العلم والفقه [[أخرج الأثر عن ابن جريج وعن قتادة بمعناه الطبري 5/ 182، وذكره عن الحسن الهواري في "تفسيره" 1/ 403، وقد ذكره عن جميعهم الماوردي في "النكت والعيون" 1/ 511، وانظر: "زاد المسير" 2/ 147، و"الدر المنثور" 2/ 333.]]. وهذا اختيار ابن كيسان، فإنه يقول في قوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾: أي لو طلبوا علمه من الرسول وعلمائهم الراسخين في العلم، لعلموا صواب ذلك وخطأه [[لم أقف عليه.]].
وقوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ الاستنباط على هذا القول هو استخراج ما خفي من العلم، كما ذكره ابن عباس [[الأثر من طريق العوفي عن ابن عباس: " ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ يقول: لعلمه الذين يتحسسونه منهم" أخرجه الطبري 5/ 182.]].
وقال قتادة في قوله: ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ "أي يفصحون [[هكذا في المخطوط الصاد قبل الحاء، وقد أثبتها محمود شاكر عند الطبري: "يفحصون" بتقديم الحاء على الصاد، واعتبر ما في المخطوط تصحيفًا، وهذا وجيه. وهكذا في "الدر المنثور". انظر: الطبري 5/ 180، و"الدر المنثور" 2/ 333 - 334.]] عنه ويهمهم ذلك" [[أخرجه الطبري 5/ 180، وعبد بن حميد وابن المنذر. انظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334.]].
وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ على هذا القول للتبعيض، وليس صلة للاستنباط خاصٍ لبعضهم.
واستثناء قوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ من قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ صحيح سائغ حسن، ولا يرد عليه ما ورد من الاعتراض في القول الأول، ويكون أحسن من الاستثناء من ﴿أَذَاعُوا﴾ على هذا القول [[انظر: "معاني الزجاج" 2/ 84، و"معاني القرآن" للنحاس 2/ 142.]].
والذي ذهب إليه الحسن وقتادة من استثناء القليل من قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ [[قول الحسن ذكره الهواري في "تفسيره" 1/ 404.
أما قول قتادة فأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 166، والطبري 5/ 180، وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" 2/ 333 - 334 ، ونسبه لهما ابن الجوزي في "زاد المسير" 2/ 148.]] إنما قالا ذلك لأنهما ذهبا إلى هذا القول الثاني.
وهذا التفسير يدل على وجوب القول بالاجتهاد عند عدم النص؛ لأن الاستنباط ليس بتلاوة، بل هو اعتبار وقياس وحكم بالمعاني المودعة في النصوص (1).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ إلى آخرها. فيه تذكير للمؤمنين بنعمة الله عز وجل في لطفه لهم، حتى سَلِموا من النفاق وما ذُم به المنافقون.
وذكر صاحب النظم وجهًا آخر في الاستثناء، فزعم أن الاستثناء متصل بقوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ دون قوله: ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ﴾ على تأويل: ولولا فضل الله عليكم ورحمته إلا قليلًا ممن لم يُدخله في رحمته وفضله، فاتبعوا الشيطان، لاتبعتم أنتم الشيطان، فيكون الممتنع من اتباع الشيطان بفضله ورحمته، وغير الممتنع منه من لم يصبه فضل الله ورحمته، وهذا هو الصواب إن شاء الله انتهى كلامه.
فإن قيل على هذا: الذين اتبعوا الشيطان كانوا أكثر من الذين امتنعوا من اتباعه فكيف يجعلهم قليلًا؟ قيل: هذا خطاب للذين أظهروا الإيمان من المخلص والمنافق، والذين نافقوا واتبعوا الشيطان كانوا أقل من المخلصين، فلذلك جعلهم قليلًا.
{"ayah":"وَإِذَا جَاۤءَهُمۡ أَمۡرࣱ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُوا۟ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰۤ أُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِینَ یَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنَ إِلَّا قَلِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق