الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿قالُوا رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزْكى طَعامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنهُ ولْيَتَلَطَّفْ ولا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَدًا ۝﴾ [الكهف: ١٩]. قامَ أهلُ الكهفِ بإرسالِ واحدٍ منهم بما معهم مِن دراهمَ ليشترِيَ مِن المدينةِ زادًا طيِّبًا، وأن يكونَ ذلك مع حذرٍ وتلطُّفٍ، لأنّهم يَذْكُرونَ قومَهم على كفرٍ فيَخشَوْنَ منهم، ولذا قالوا: ﴿وكَذَلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزْكى طَعامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنهُ ولْيَتَلَطَّفْ ولا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَدًا ۝إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ولَنْ تُفْلِحُوا إذًا أبَدًا ۝﴾ [الكهف: ١٩ ـ ٢٠]. وقد استجابَ هؤلاءِ الفتيةُ للحقِّ، وإن كان شيوخُ المدينةِ وكبارُهم لم يُؤمِنوا، مع أنّ الكبارَ أكملُ عقولًا ولكنَّهم أشَدُّ عنادًا وأنَفَةً، ولهذا يُقبِلُ الفِتْيانُ على الحقِّ أسرَعَ وأشَدَّ مِن الشيوخِ، وهذا مع أكثرِ الأنبياءِ، وقد قال اللهُ عمَّن آمَنَ مع موسى: ﴿فَما آمَنَ لِمُوسى إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِن قَوْمِهِ﴾ [يونس: ٨٣]، يعني: فِتْيانَهم. مشروعيَّةُ الوَكالةِ والنِّيابةِ: وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على جوازِ الوَكالةِ، وهو أن ينوبَ أحدٌ عن أحدٍ فيما يُريدُهُ منه، ومِن معنى الوكالةِ: قولُهُ تعالى: ﴿والعامِلِينَ عَلَيْها﴾ [التوبة: ٦٠]، فإنّها تتضمَّنُ نيابةً ووكالةً، وقريبٌ منها قولُهُ: ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَرْضِ﴾ [يوسف: ٥٥]، وقولُهُ: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا﴾ [يوسف: ٩٣]، وقولُهُ تعالى: ﴿فابْعَثُوا حَكَمًا مِن أهْلِهِ﴾ [النساء: ٣٥]. والأصلُ في الوكالةِ: الجوازُ بلا خلافٍ، كما حكاهُ ابنُ عبدِ البَرِّ[[«التمهيد» (٢ /١٠٨).]]، وابنُ قُدامةَ[[«المغني» (٧ /١٩٧).]]، وذلك لظاهِرِ القرآنِ والسُّنَّةِ، وقد أنابَ النبيُّ ﷺ عن نفسِهِ ووكَّل غيرَهُ عنها، في بيعٍ وشراءٍ ونكاحٍ وقضاءِ دَيْنٍ، ومِن ذلك ما رواهُ الشيخانِ، مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: كانَ لِرَجُلٍ عَلى النَّبِيِّ ﷺ سِنٌّ مِنَ الإبِلِ، فَجاءَهُ يَتَقاضاهُ، فَقالَ: (أعْطُوهُ)، فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إلاَّ سِنًّا فَوْقَها، فَقالَ: (أعْطُوهُ)، فَقالَ: أوْفَيْتَنِي أوْفى اللهُ بِكَ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إنَّ خِيارَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضاءً)[[أخرجه البخاري (٢٣٠٥)، ومسلم (١٦٠١).]]. وقد وكَّل النبيُّ ﷺ عُرْوةَ البارِقيَّ ليشترِيَ شاةً بدِينارٍ، فاشتَرى شاتَيْنِ بدينارٍ، وباع واحدةً بدينارٍ، وجاء إلى النبيِّ ﷺ بدينارٍ وشاةٍ[[أخرجه البخاري (٣٦٤٢).]]. وكان أبو رافعٍ وكيلًا بينَ النبيِّ ﷺ وميمونةَ حينَ تزوَّجَها[[أخرجه أحمد (٦ /٣٩٢)، والترمذي (٨٤١)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٥٣٨١).]]، ووكَّل عمرَو بنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ في نِكاحِ أمِّ حَبِيبةَ رَمْلةَ بنتِ أبي سُفْيانَ[[أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤ /٢٢)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٧ /١٣٩).]]. وقد وكَّل النبيُّ ﷺ في إثباتِ الحدودِ واستيفائِها، كما أرسَلَ أُنَيْسًا، فقال له: (واغْدُ يا أُنَيْسُ إلى امْرَأَةِ هَذا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها)[[أخرجه البخاري (٢٣١٤)، ومسلم (١٦٩٧).]]. والجمهورُ: على جوازِ ذلك في الحدودِ إثباتًا واستيفاءً، خلافًا لأبي حنيفةَ، فقد فرَّق بينَ الإثباتِ والاستيفاءِ، وقصةُ أُنيسٍ فيهما جميعًا. وأرسَلَ أقوامًا مِن أصحابِهِ بكُتُبِهِ إلى الملوكِ والرؤساءِ، وجَلْبِ الزكاةِ، وإبلاغِ القبائلِ أمرَهُ ونهيَهُ. ولا تصحُّ الوكالةُ إلاَّ بصيغةٍ صحيحةٍ صريحةٍ تتضمَّنُ الإيجابَ والقَبولَ بينَ الطرَفَيْنِ، وأن يكونَ الموكَّلُ فيه مملوكًا للموكِّلِ، فلا تُقبَلُ الوكالةُ ممَّن لا يَملِكُ التصرُّفَ فيه، فإنّه إنْ لم يصحَّ منه، فلا يصحُّ مِن غيرِهِ وكالةً عنه. وتصحُّ الوكالةُ العامَّةُ مِن غيرِ تعيينِ شيءٍ معيَّنٍ ولا وصفِهِ، كالوكالةِ في البيعِ والشراءِ كافَّةً في قولِ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ، خلافًا للحنابلةِ والشافعيَّةِ الذين منَعُوا مِن التوكيلِ العامِّ، لأنّه يتضمَّنُ جهالةً فاحِشةً تُضِرُّ بالناسِ. ويجوزُ توكيلُ جماعةٍ على أمرٍ واحدٍ، ولا ينفرِدُ الواحدُ منهم بالأمرِ عن غيرِهِ حتى يَتَّفِقوا فيه، لعمومِ الأدلَّةِ، وهذا قولُ جمهورِ الفقهاءِ. وقد ذهَبَ الحنفيَّةُ إلى أنّه ينفرِدُ كلُّ واحدٍ عن الباقِينَ ولو كانتِ الوكالةُ للجميعِ. ولا يَملِكُ الوكيلُ توكيلَ غيرِهِ إلاَّ أنْ يشاءَ الموكِّلُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب