الباحث القرآني

﴿وكَذَلِكَ بَعَثْناهم لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهم قالَ قائِلٌ مِنهم كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكم أعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فابْعَثُوا أحَدَكم بِوَرِقِكم هَذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزْكى طَعامًا فَلْيَأْتِكم بِرِزْقٍ مِنهُ ولْيَتَلَطَّفْ ولا يُشْعِرَنَّ بِكم أحَدًا﴾ ﴿إنَّهم إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكم يَرْجُمُوكم أوْ يُعِيدُوكم في مِلَّتِهِمْ ولَنْ تُفْلِحُوا إذًا أبَدًا﴾ . الكافُ لِلتَّشْبِيهِ والإشارَةِ بِذَلِكَ. قِيلَ: إلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن ﴿فَضَرَبْنا عَلى آذانِهِمْ﴾ [الكهف: ١١] أيْ: مِثْلُ جَعْلِنا إنامَتَهم هَذِهِ المُدَّةَ الطَّوِيلَةَ آيَةً، جَعَلْنا بَعْثَهم آيَةً. قالَهُ الزَّجّاجُ وحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقالَ: وكَما أنَمْناهم تِلْكَ النَّوْمَةَ (كَذَلِكَ بَعَثْناهم) إذْكارًا بِقُدْرَتِهِ عَلى الإماتَةِ والبَعْثِ جَمِيعًا، لِيَسْألَ بَعْضُهم بَعْضًا ويَتَعَرَّفُوا حالَهم وما صَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ، فَيَعْتَبِرُوا ويَسْتَدِلُّوا عَلى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ، ويَزْدادُوا يَقِينًا ويَشْكُرُوا ما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ وكُرِّمُوا بِهِ. انْتَهى. وناسَبَ هَذا التَّشْبِيهُ قَوْلَهُ تَعالى حِينَ أوْرَدَ قِصَّتَهم أوَّلًا مُخْتَصَرَةً ﴿فَضَرَبْنا عَلى آذانِهِمْ في الكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْناهُمْ﴾ [الكهف: ١١] . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الإشارَةُ بِذَلِكَ إلى الأمْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ في جِهَتِهِمْ والعِبْرَةِ الَّتِي فَعَلَها فِيهِمْ، واللّامُ في (لِيَتَساءَلُوا) لامُ الصَّيْرُورَةِ؛ لِأنَّ بَعْثَهم لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِ تَساؤُلِهِمُ. انْتَهى. والقائِلُ. قِيلَ: كَبِيرُهم مُكَسْلِمِينا. وقِيلَ: صاحِبُ نَفَقَتِهِمْ تَمْلِيخا وكَمْ سُؤالٌ عَنِ العَدَدِ، والمَعْنى كَمْ يَوْمًا أقَمْتُمْ نائِمِينَ، والظّاهِرُ صُدُورُ الشَّكِّ مِنَ المَسْئُولِينَ. وقِيلَ: (أوْ) لِلتَّفْصِيلِ. قالَ بَعْضُهم: ﴿لَبِثْنا يَوْمًا﴾ . وقالَ بَعْضُهم: ﴿بَعْضَ يَوْمٍ﴾ والسّائِلُ أحَسَّ في خاطِرِهِ طُولَ نَوْمِهِمْ، ولِذَلِكَ سَألَ. قِيلَ: نامُوا أوَّلَ النَّهارِ واسْتَيْقَظُوا آخِرَ النَّهارِ، وجَوابُهم هَذا مَبْنِيٌّ عَلى غَلَبَةِ الظَّنِّ، والقَوْلُ بِالظَّنِّ الغالِبِ لا يُعَدَّ كَذِبًا، ولَمّا عَرَضَ لَهُمُ الشَّكُّ في الإخْبارِ رَدُّوا عِلْمَ لُبْثِهِمْ إلى اللَّهِ تَعالى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿قالُوا رَبُّكم أعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ﴾ إنْكارٌ عَلَيْهِمْ مِن بَعْضِهِمْ وأنَّ اللَّهَ تَعالى أعْلَمُ بِمُدَّةٍ لُبْثِهِمْ كانَ هَؤُلاءِ قَدْ عَلِمُوا بِالأدِلَّةِ أوْ بِإلْهامٍ مِنَ اللَّهِ أنَّ المُدَّةَ مُتَطاوِلَةٌ، وأنَّ مِقْدارَها مُبْهَمٌ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. انْتَهى. ولَمّا انْتَبَهُوا مِن نَوْمِهِمْ أخَذَهم ما يَأْخُذُ مَن نامَ طَوِيلًا مِنَ الحاجَةِ إلى الطَّعامِ، واتَّصَلَ (فابْعَثُوا) بِحَدِيثِ التَّساؤُلِ، كَأنَّهم قالُوا خُذُوا فِيما يَهُمُّكم، ودَعُوا عِلْمَ ذَلِكَ إلى اللَّهِ. والمَبْعُوثُ قِيلَ: هو تَمْلِيخا، وكانُوا قَدِ اسْتَصْحَبُوا حِينَ خَرَجُوا فارِّينَ دَراهِمَ لِنَفَقَتِهِمْ وكانَتْ حاضِرَةً عِنْدَهم، فَلِهَذا أشارُوا إلَيْها بِقَوْلِهِمْ (هَذِهِ) . وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ وأبُو بَكْرٍ والحَسَنُ والأعْمَشُ واليَزِيدِيُّ ويَعْقُوبُ في رِوايَةٍ، وخَلَفٌ وأبُو عُبَيْدٍ وابْنُ سَعْدانَ (بِوَرْقِكم) بِإسْكانِ الرّاءِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِكَسْرِها، وقَرَأ أبُو رَجاءٍ بِكَسْرِ الواوِ وإسْكانِ الرّاءِ وإدْغامِ القافِ في الكافِ، وكَذا إسْماعِيلُ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وعَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ أيْضًا (p-١١١)كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ كَسَرَ الرّاءَ؛ لِيَصِحَّ الإدْغامُ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ (بِوَرِقِكم) بِكَسْرِ الرّاءِ وإدْغامِ القافِ في الكافِ. انْتَهى، وهو مُخالِفٌ لِما نَقَلَ النّاسُ عَنْهُ. وحَكى الزَّجّاجُ قِراءَةً بِكَسْرِ الواوِ وسُكُونِ الرّاءِ دُونَ إدْغامٍ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ بَوارِقِكم عَلى وزْنِ فاعِلٍ جَعَلَهُ اسْمَ جَمْعٍ كَباقِرٍ وجائِلٍ. و(المَدِينَةِ) هي مَدِينَتُهُمُ الَّتِي خَرَجُوا مِنها، وقِيلَ: وتُسَمّى الآنَ طَرْسُوسُ وكانَ اسْمُها عِنْدَ خُرُوجِهِمْ أفْسُوسَ. (فَلْيَنْظُرْ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن نَظَرِ العَيْنِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن نَظَرِ القَلْبِ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفَلْيَنْظُرْ مُعَلَّقٌ عَنْها الفِعْلُ. و(أيُّها) اسْتِفْهامٌ مُبْتَدَأٌ و(أزْكى) خَبَرُهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (أيُّها) مَوْصُولًا مَبْنِيًّا مَفْعُولًا لِيَنْظُرَ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، و(أزْكى) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. و(أزْكى) قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وعَطاءٌ: أحَلُّ ذَبِيحَةٍ وأطْهَرُ؛ لِأنَّ عامَّةَ بَلْدَتِهِمْ كانُوا كُفّارًا يَذْبَحُونَ لِلطَّواغِيتِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أحَلُّ طَعامًا. قالَ الضَّحّاكُ: وكانَ أكْثَرُ أمْوالِهِمْ غُصُوبًا. وقالَ مُجاهِدٌ: قالُوا لَهُ لا تَبْتَعْ طَعامًا فِيهِ ظُلْمٌ. وقالَ عِكْرِمَةُ: أكْثَرُ. وقالَ قَتادَةُ: أجْوَدُ. وقالَ ابْنُ السّائِبِ ومُقاتِلٌ: أطْيَبُ. وقالَ يَمانُ بْنُ رَيّانَ: أرْخَصُ. وقِيلَ: أكْثَرُ بَرَكَةً ورِيعًا. وقِيلَ: هو الأُرْزُ. وقِيلَ: التَّمْرُ. وقِيلَ: الزَّبِيبُ. وقِيلَ: في الكَلامِ حَذْفٌ أيْ: أيْ أهْلُها ﴿أزْكى طَعامًا﴾ فَيَكُونُ ضَمِيرُ المُؤَنَّثِ عائِدًا عَلى (المَدِينَةِ) وإذا لَمْ يَكُنْ حَذْفٌ فَيَكُونُ عائِدُهُ عَلى ما يُفْهَمُ مِن سِياقِ الكَلامِ، كَأنَّهُ قِيلَ: أيُّ المَآكِلِ. وفِي قَوْلِهِ: ﴿فابْعَثُوا أحَدَكم بِوَرِقِكُمْ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ حَمْلَ النَّفَقَةِ وما يَصْلُحُ لِلْمُسافِرِ هو رَأْيُ المُتَوَكِّلِينَ عَلى اللَّهِ دُونَ المُتَوَكِّلِينَ عَلى الإنْفاقاتِ وعَلى ما في أوْعِيَةِ النّاسِ. وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ما لِهَذا السَّفَرِ يَعْنِي سَفَرَ الحَجِّ إلّا شَيْئانِ شَدُّ الهِمْيانِ، والتَّوَكُّلُ عَلى الرَّحْمَنِ. (ولْيَتَلَطَّفْ) في اخْتِفائِهِ وتَحَيُّلِهِ مَدْخَلًا ومَخْرَجًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولْيَتَكَلَّفِ اللُّطْفَ والنِّيقَةَ فِيما يُباشِرُهُ مِن أمْرِ المُبايَعَةِ حَتّى لا يُغْبَنَ، أوْ في أمْرِ التَّخَفِّي حَتّى لا يُعْرَفَ. انْتَهى. والوَجْهُ الثّانِي هو الظّاهِرُ. وقَرَأ الحَسَنُ: (ولِيَتَلَطَّفْ) بِكَسْرِ لامِ الأمْرِ، وعَنْ قُتَيْبَةَ المَيّالِ (ولْيُتَلَطَّفْ) بِضَمِّ الياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. (ولا يُشْعِرَنَّ) أيْ: لا يَفْعَلُ ما يُؤَدِّي مِن غَيْرِ قَصْدٍ مِنهُ إلى الشُّعُورِ بِنا، سُمِّيَ ذَلِكَ إشْعارًا مِنهُ بِهِمْ؛ لِأنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ. وقَرَأ أبُو صالِحٍ ويَزِيدُ بْنُ القَعْقاعِ وقُتَيْبَةُ ﴿ولا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ﴾ أحَدٌ بِبِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ، ورَفْعِ أحَدٍ. والضَّمِيرُ في (إنَّهم) عائِدٌ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى مِن كُفّارِ تِلْكَ المَدِينَةِ. وقِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى (أحَدًا) لِأنَّ لَفْظَهُ لِلْعُمُومِ فَيَجُوزُ أنْ يُجْمَعَ الضَّمِيرُ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَما مِنكم مِن أحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧] فَفي حاجِزِينَ ضَمِيرُ جَمْعٍ عائِدٌ عَلى أحَدٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ في (إنَّهم) راجِعٌ إلى الأهْلِ المُقَدَّرِ في (أيُّها) والظُّهُورُ هُنا الِاطِّلاعُ عَلَيْهِمْ، والعِلْمُ بِمَكانِهِمْ. وقِيلَ: العُلُوُّ والغَلَبَةُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ (يُظْهَرُوا) بِضَمِّ الياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والظّاهِرُ الرَّجْمُ بِالحِجارَةِ وكانَ المَلِكُ عازِمًا عَلى قَتْلِهِمْ لَوْ ظَفَرَ بِهِمْ، والرَّجْمُ كانَ عادَةً فِيما سَلَفَ لِمَن خالَفَ مِنَ النّاسِ إذْ هي أشَفى ولَهم فِيها مُشارَكَةٌ. وقالَ حَجّاجٌ: مَعْناهُ بِالقَوْلِ يُرِيدُ السَّبَّ، وقالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ ﴿أوْ يُعِيدُوكُمْ﴾ يُدْخِلُوكم فِيها مُكْرَهِينَ، ولا يَلْزَمُ مِنَ العَوْدِ إلى الشَّيْءِ التَّلَبُّسُ بِهِ قَبْلَ إذْ يُطْلَقُ، ويُرادُ بِهِ الصَّيْرُورَةُ ﴿ولَنْ تُفْلِحُوا﴾ إنْ دَخَلْتُمْ في دِينِهِمْ و(إذًا) حَرْفُ جَزاءٍ وجَوابٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها وكَثِيرًا ما يَتَّضِحُ تَقْدِيرُ شَرْطٍ وجَزاءٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب