الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ إسْماعِيلَ إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ وكانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾، أمَرَ اللَّهُ جَلَّ وعَلا نَبِيَّهُ ﷺ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنْ يَذْكُرَ في الكِتابِ وهو هَذا القُرْآنُ العَظِيمُ ) جَدَّهُ إسْماعِيلَ (، وأثْنى عَلَيْهِ - أعْنِي إسْماعِيلَ - بِأنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ وكانَ رَسُولًا نَبِيًّا، ومِمّا يُبَيِّنُ مِنَ القُرْآنِ شِدَّةَ صِدْقِهِ في وعْدِهِ: أنَّهُ وعَدَ أباهُ بِصَبْرِهِ لَهُ عَلى ذَبْحِهِ ثُمَّ وفّى بِهَذا الوَعْدِ، ومَن وفّى بِوَعْدِهِ في تَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ فَإنَّ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ الأدِلَّةِ عَلى عَظِيمِ صِدْقِهِ في وعْدِهِ، قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يابُنَيَّ إنِّي أرى في المَنامِ أنِّي أذْبَحُكَ فانْظُرْ ماذا تَرى قالَ ياأبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ فَهَذا وعْدُهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعالى وفاءَهُ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ الآيَةَ [الصافات: ١٠٣]، والتَّحْقِيقُ أنَّ الذَّبِيحَ هو إسْماعِيلُ، وقَدْ دَلَّتْ عَلى ذَلِكَ آيَتانِ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى دَلالَةً واضِحَةً لا لَبْسَ فِيها، وسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ غايَةَ الإيضاحِ في سُورَةِ ”الصّافّاتِ“، وثَناؤُهُ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَلى نَبِيِّهِ إسْماعِيلَ بِصِدْقِ الوَعْدِ يُفْهَمُ مِن دَلِيلِ خِطابِهِ أعْنِي مَفْهُومَ مُخالَفَتِهِ أنَّ إخْلافَ الوَعْدِ مَذْمُومٌ، وهَذا المَفْهُومُ قَدْ جاءَ مُبَيَّنًا في مَواضِعَ أُخَرَ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأعْقَبَهم نِفاقًا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أخْلَفُوا اللَّهَ ما وعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: ٧٧]، وقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢ - ٣]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، وفي الحَدِيثِ: «آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ» .
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَكانَ يَأْمُرُ أهْلَهُ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ﴾ [مريم: ٥٥]، قَدْ بُيِّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ أنَّ نَبِيَّنا ﷺ كانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِي أثْنى اللَّهُ بِهِ عَلى جَدِّهِ إسْماعِيلَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأْمُرْ أهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها﴾ الآيَةَ [طه: ١٣٢]، ومَعْلُومٌ أنَّهُ امْتَثَلَ (p-٤٣٨)هَذا الأمْرَ، وكَقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكم نارًا﴾ الآيَةَ [التحريم: ٦]، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ أمْرُهم أهْلِيهِمْ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
* * *
* مَسْألَةٌ
اخْتَلَفَ العُلَماءُ في لُزُومِ الوَفاءِ بِالعَهْدِ، فَقالَ بَعْضُهم: يَلْزَمُ الوَفاءُ بِهِ مُطْلَقًا، وقالَ بَعْضُهم: لا يَلْزَمُ مُطْلَقًا، وقالَ بَعْضُهم: إنْ أدْخَلَهُ بِالوَعْدِ في ورْطَةٍ لَزِمَ الوَفاءُ بِهِ، وإلّا فَلا، ومِثالُهُ ما لَوْ قالَ لَهُ: تَزَوَّجْ، فَقالَ لَهُ: لَيْسَ عِنْدِي ما أصْدُقُ بِهِ الزَّوْجَةَ، فَقالَ: تَزَوَّجْ والتَزِمْ لَها الصَّداقَ وأنا أدْفَعُهُ عَنْكَ، فَتَزَوَّجَ عَلى هَذا الأساسِ، فَإنَّهُ قَدْ أدْخَلَهُ بِوَعْدِهِ في ورْطَةِ التِزامِ الصَّداقِ، واحْتَجَّ مَن قالَ يَلْزَمُهُ، بِأدِلَّةٍ مِنها آياتٌ مِن كِتابِ اللَّهِ دَلَّتْ بِظَواهِرِ عُمُومِها عَلى ذَلِكَ وبِأحادِيثَ، فالآياتُ
• كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأوْفُوا بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٤]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ الآيَةَ [المائدة: ١]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ الآيَةَ [النحل: ٩١]،
• وقَوْلِهِ هُنا: ﴿إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ﴾ الآيَةَ [مريم: ٥٤]،
ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
والأحادِيثُ كَحَدِيثِ ”العِدَةُ دَيْنٌ“ فَجَعْلُها دَيْنًا دَلِيلٌ عَلى لُزُومِها، قالَ صاحِبُ كَشْفِ الخَفاءِ ومُزِيلِ الإلْباسِ عَمّا اشْتُهِرَ مِنَ الأحادِيثِ عَلى ألْسِنَةِ النّاسِ: «العِدَةُ دَيْنٌ»، رَواهُ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ والقُضاعِيُّ وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظٍ: قالَ: لا يَعِدْ أحَدُكم صَبِيَّهُ ثُمَّ لا يُنْجِزْ لَهُ، فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ”«العِدَةُ دَيْنٌ» ورَواهُ أبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: إذا وعَدَ أحَدُكم صَبِيَّهُ فَلْيُنْجِزْ لَهُ: فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وذَكَرَهُ بِلَفْظِ“ عَطِيَّةً ”وَرَواهُ البُخارِيُّ في الأدَبِ المُفْرَدِ مَوْقُوفًا، ورَواهُ الطَّبَرانِيُّ والدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «العِدَةُ دَيْنٌ، ويْلٌ لِمَن وعَدَ ثُمَّ أخْلَفَ، ويْلٌ لَهُ» .“ ثَلاثًا، ورَواهُ القُضاعِيُّ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ فَقَطْ، والدَّيْلَمِيُّ أيْضًا بِلَفْظِ: «الواعِدُ بِالعِدَةِ مِثْلُ الدَّيْنِ أوْ أشَدُّ» أيْ: وعْدُ الواعِدِ، وفي لَفْظٍ لَهُ «عِدَةُ المُؤْمِنِ دَيْنٌ، وعِدَةُ المُؤْمِنِ كالأخْذِ بِاليَدِ»، ولِلطَّبَرانِيِّ في الأوْسَطِ عَنْ قُباثِ بْنِ أشْيَمَ اللَّيْثِيِّ مَرْفُوعًا: «العِدَةُ عَطِيَّةٌ» .
وَلِلْخَرائِطِيِّ في المَكارِمِ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ مُرْسَلًا: «أنَّ امْرَأةً سَألَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ، فَقالَتْ: عِدْنِي، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”إنَّ العِدَةَ عَطِيَّةٌ»“، وهو في مَراسِيلِ أبِي داوُدَ، وكَذا في الصَّمْتِ لِابْنِ أبِي الدُّنْيا عَنِ الحَسَنِ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «العِدَةُ عَطِيَّةٌ»، وفي رِوايَةٍ لَهُما عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: «سَألَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ شَيْئًا، فَقالَ: ”ما عِنْدِي ما أُعْطِيكَ“» قالَ: في المَقاصِدِ بَعْدَ ذِكْرِ الحَدِيثِ وطُرُقِهِ: وقَدْ أفْرَدْتُهُ مَعَ (p-٤٣٩)ما يُلائِمُهُ بِجُزْءٍ. انْتَهى مِنهُ، وقَدْ عَلَّمَ في الجامِعِ الصَّغِيرِ عَلى هَذا الحَدِيثِ مِن رِوايَةِ عَلِيٍّ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ في مُسْنَدِ الفِرْدَوْسِ بِالضَّعْفِ.
وَقالَ شارِحُهُ المُناوِيُّ: وفِيهِ دارِمُ بْنُ قَبِيصَةَ، قالَ الذَّهَبِيُّ: لا يُعْرَفُ. اهـ. ولَكِنْ قَدْ مَرَّ لَكَ أنَّ طُرُقَهُ مُتَعَدِّدَةٌ، وقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ مِنَ الصَّحابَةِ كَما قَدَّمْنا رِوايَتَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وقُباثِ بْنِ أشْيَمَ الكِنانِيِّ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وسَيَأْتِي في هَذا المَبْحَثِ إنْ شاءَ اللَّهُ أحادِيثُ صَحِيحَةٌ، دالَّةٌ عَلى الوَفاءِ بِالوَعْدِ.
واحْتَجَّ مَن قالَ بِأنَّ الوَعْدَ لا يَلْزَمُ الوَفاءُ بِهِ بِالإجْماعِ عَلى أنَّ مَن وعَدَ رَجُلًا بِمالٍ إذا أفْلَسَ الواعِدُ لا يُضْرَبُ لِلْمَوْعُودِ بِالوَعْدِ مَعَ الغُرَماءِ، ولا يَكُونُ مِثْلَ دُيُونِهِمُ اللّازِمَةِ بِغَيْرِ الوَعْدِ، حَكى الإجْماعَ عَلى هَذا ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، وفِيهِ مُناقَشَةٌ، وحُجَّةُ مَن فَرَّقَ بَيْنَ إدْخالِهِ إيّاهُ في ورْطَةٍ بِالوَعْدِ فَيَلْزَمُ، وبَيْنَ عَدَمِ إدْخالِهِ إيّاهُ فِيها فَلا يَلْزَمُ، أنَّهُ إذا أدْخَلَهُ في ورْطَةٍ بِالوَعْدِ ثُمَّ رَجَعَ في الوَعْدِ وتَرَكَهُ في الوَرْطَةِ الَّتِي أدْخَلَهُ فِيها، فَقَدْ أضَرَّ بِهِ، ولَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أنْ يَضُرَّ بِأخِيهِ، لِلْحَدِيثِ «لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ» .
وَقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: قالَ مالِكٌ: إذا سَألَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أنْ يَهَبَ لَهُ الهِبَةَ، فَيَقُولُ لَهُ نَعَمْ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ ألّا يَفْعَلَ، فَما أرى يَلْزَمُهُ، قالَ مالِكٌ: ولَوْ كانَ ذَلِكَ في قَضاءِ دَيْنٍ فَسَألَهُ أنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ فَقالَ نَعَمْ، وثَمَّ رِجالٌ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ فَما أحَراهُ أنْ يَلْزَمَهُ إذا شَهِدَ عَلَيْهِ اثْنانِ.
وَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، والأوْزاعِيُّ، والشّافِعِيُّ وسائِرُ الفُقَهاءِ: إنَّ العِدَةَ لا يَلْزَمُ مِنها شَيْءٌ؛ لِأنَّها مَنافِعُ لَمْ يَقْبِضْها في العارِيَةِ لِأنَّها طارِئَةٌ، وفي غَيْرِ العارِيَةِ هي أشْخاصٌ وأعْيانٌ مَوْهُوبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَلِصاحِبِها الرُّجُوعُ فِيها، وفي البُخارِيِّ: ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ إسْماعِيلَ إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ﴾ [مريم: ٥٤]، وقَضى ابْنُ أشْوَعَ بِالوَعْدِ، وذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قالَ البُخارِيُّ: ورَأيْتُ إسْحاقَ بْنَ إبْراهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أشْوَعَ. انْتَهى كَلامُ القُرْطُبِيِّ، وكَلامُ البُخارِيِّ الَّذِي ذَكَرَ القُرْطُبِيُّ بَعْضَهُ، هو قَوْلُهُ في آخِرِ كِتابِ ”الشَّهاداتِ“: بابُ مَن أمَرَ بِإنْجازِ الوَعْدِ، وفَعَلَهُ الحَسَنُ ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ إسْماعِيلَ إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ﴾، وقَضى ابْنُ أشْوَعَ بِالوَعْدِ، وذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سُمْرَةَ وقالَ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ، وذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، قالَ وعَدَنِي فَوَفّى لِي، قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: ورَأيْتُ إسْحاقَ بْنَ إبْراهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أشْوَعَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنا (p-٤٤٠)إبْراهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أخْبَرَهُ قالَ أخْبَرَنِي أبُو سُفْيانَ أنَّ هِرَقْلَ قالَ لَهُ: سَألْتُكَ ماذا يَأْمُرُكم، فَزَعَمْتَ أنَّهُ أمَرَكم بِالصَّلاةِ والصِّدْقِ والعَفافِ والوَفاءِ بِالعَهْدِ وأداءِ الأمانَةِ، قالَ: وهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ.
حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أبِي سُهَيْلٍ نافِعِ بْنِ مالِكِ بْنِ أبِي عامِرٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ»، حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ مُوسى، أخْبَرَنا هِشامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: أخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قالَ: لَمّا ماتَ النَّبِيُّ ﷺ جاءَ أبا بَكْرٍ مالٌ مِن قِبَلِ العَلاءِ بْنِ الحَضْرَمِيِّ فَقالَ أبُو بَكْرٍ: مَن كانَ لَهُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ دَيْنٌ، أوْ كانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنا، قالَ جابِرٌ: فَقَلْتُ وعَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُعْطِيَنِي هَكَذا وهَكَذا وهَكَذا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ، قالَ جابِرٌ: فَعَدَّ في يَدِي خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ.
حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أخْبَرَنا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمانَ، حَدَّثَنا مَرْوانُ بْنُ شُجاعٍ عَنْ سالِمٍ الأفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قالَ: سَألَنِي يَهُودِيٌّ مِن أهْلِ الحِيرَةِ: أيُّ الأجَلَيْنِ قَضى مُوسى ؟ قُلْتُ: لا أدْرِي حَتّى أقْدَمَ عَلى حَبْرِ العَرَبِ فَأسْألَهُ، فَقَدِمْتُ فَسَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ، قالَ: قَضى أكْثَرَهُما وأطْيَبَهُما، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ إذا قالَ فَعَلَ. انْتَهى مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ، وقَوْلُهُ في تَرْجَمَةِ البابِ المَذْكُورِ ”وَفَعَلَهُ الحَسَنُ“ يَعْنِي الأمْرَ بِإنْجازِ الوَعْدِ، ووَجْهُ احْتِجاجِهِ بِآيَةِ: ﴿إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ﴾، أنَّ الثَّناءَ عَلَيْهِ بِصِدْقِ الوَعْدِ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ إخْلافَهُ مَذْمُومٌ فاعِلُهُ، فَلا يَجُوزُ، وابْنُ الأشْوَعِ المَذْكُورُ هو سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أشَوْعَ الهَمْدانِيُّ الكُوفِيُّ، كانَ قاضِيَ الكُوفَةِ في زَمانِ إمارَةِ خالِدٍ القَسْرِيِّ عَلى العِراقِ، وقَدْ وقَعَ بَيانُ رِوايَتِهِ المَذْكُورَةِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ في تَفْسِيرِ إسْحاقَ بْنِ راهَوَيْهِ، وهو إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ الَّذِي ذَكَرَ البُخارِيُّ أنَّهُ رَآهُ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أشْوَعَ، كَما قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“، والمُرادُ أنَّهُ كانَ يَحْتَجُّ بِهِ في القَوْلِ بِوُجُوبِ إنْجازِ الوَعْدِ، وصِهْرُ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي أثْنى عَلَيْهِ بِوَفائِهِ لَهُ بِالوَعْدِ هو أبُو العاصِ بْنُ الرَّبِيعِ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقَدْ أسَرَهُ المُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ كافِرًا، وقَدْ وعَدَهُ بِرَدِّ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ إلَيْهِ، ورَدَّها إلَيْهِ، خِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّ الصِّهْرَ المَذْكُورَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقَدْ ذَكَرَ البُخارِيُّ في البابِ المَذْكُورِ أرْبَعَةَ أحادِيثَ في كُلِّ واحِدٍ مِنها دَلِيلٌ عَلى الوَفاءِ بِإنْجازِ الوَعْدِ.
الأوَّلُ: حَدِيثُ أبِي سُفْيانَ بْنِ حَرْبٍ في قِصَّةِ هِرَقْلَ وهو طَرَفٌ مِن حَدِيثٍ صَحِيحٍ (p-٤٤١)مَشْهُورٍ، ووَجْهُ الدَّلالَةِ مِنهُ في قَوْلِهِ: «فَزَعَمْتَ أنَّهُ أمَرَكم بِالصَّلاةِ والصِّدْقِ والعَفافِ والوَفاءِ بِالعَهْدِ وأداءِ الأمانَةِ» فَإنَّ جَمِيعَ المَذْكُوراتِ في هَذا الحَدِيثِ مَعَ الوَفاءِ بِالعَهْدِ كُلُّها واجِبَةٌ، وهي الصَّلاةُ والصِّدْقُ والعَفافُ وأداءُ الأمانَةِ، وقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّ هَذِهِ الأُمُورَ صِفَةُ نَبِيٍّ والِاقْتِداءُ بِالأنْبِياءِ واجِبٌ.
الثّانِي: حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ في آيَةِ المُنافِقِ، ومَحِلُّ الدَّلِيلِ مِنهُ قَوْلُهُ «وَإذا وعَدَ أخْلَفَ» فَكَوْنُ إخْلافِ الوَعْدِ مِن عَلاماتِ المُنافِقِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُسْلِمَ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَتَّسِمَ بِسِماتِ المُنافِقِينَ.
الثّالِثُ: حَدِيثُ جابِرٍ في قِصَّتِهِ مَعَ أبِي بَكْرٍ، ووَجْهُ الدَّلالَةِ مِنهُ أنَّ أبا بَكْرٍ قالَ: مَن كانَ لَهُ عَلى النَّبِيِّ ﷺ دَيْنٌ أوْ كانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ. . . الحَدِيثَ، فَجَعَلَ العِدَةَ كالدَّيْنِ، وأنْجَزَ لِجابِرٍ ما وعَدَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ المالِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى الوُجُوبِ.
الرّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ في أيِّ الأجَلَيْنِ قَضى مُوسى، ووَجْهُ الدَّلالَةِ مِنهُ أنَّهُ قَضى أطْيَبَهُما وأكْثَرَهُما، وأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إذا قالَ فَعَلَ، فَعَلى المُؤْمِنِينَ الِاقْتِداءُ بِالرُّسُلِ، وأنْ يَفْعَلُوا إذا قالُوا، وفي الِاسْتِدْلالِ بِهَذِهِ الأحادِيثِ مُناقَشاتٌ مِنَ المُخالِفِينَ.
وَمِن أقْوى الأدِلَّةِ في الوَفاءِ بِالعَهْدِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣]؛ لِأنَّ المَقْتَ الكَبِيرَ مِنَ اللَّهِ عَلى عَدَمِ الوَفاءِ بِالقَوْلِ يَدُلُّ عَلى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ في عَدَمِ الوَفاءِ بِهِ، وقالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“ في الكَلامِ عَلى تَرْجَمَةِ البابِ المَذْكُورَةِ: قالَ المُهَلَّبُ: إنْجازُ الوَعْدِ مَأْمُورٌ بِهِ مَندُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ الجَمِيعِ ولَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِاتِّفاقِهِمْ عَلى أنَّ المَوْعُودَ لا يُضارَبُ بِما وُعِدَ بِهِ مَعَ الغُرَماءِ. اهـ.
وَنَقْلُ الإجْماعِ في ذَلِكَ مَرْدُودٌ، فَإنَّ الخِلافَ مَشْهُورٌ لَكِنَّ القائِلَ بِهِ قَلِيلٌ. وقالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ وابْنُ العَرَبِيِّ: أجَلُّ مَن قالَ بِهِ عُمَرُ بْنُ العَزِيزِ. انْتَهى مَحِلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ الحافِظِ في الفَتْحِ، وقالَ أيْضًا: وخَرَّجَ بَعْضُهُمُ الخِلافَ في هَذِهِ المَسْألَةِ عَلى الخِلافِ في الهِبَةِ، هَلْ تُمْلَكُ بِالقَبْضِ أوْ قَبْلَهُ.
فَإذا عَلِمْتَ أقْوالَ أهْلِ العِلْمِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، وما اسْتَدَلَّ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنهم فاعْلَمْ أنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِي في هَذِهِ المَسْألَةِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ: أنَّ إخْلافَ الوَعْدِ لا يَجُوزُ، لِكَوْنِهِ مِن عَلاماتِ المُنافِقِينَ، ولِأنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾، وظاهِرُ عُمُومِهِ يَشْمَلُ إخْلافَ الوَعْدِ، ولَكِنَّ الواعِدَ إذا امْتَنَعَ مِن إنْجازِ الوَعْدِ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ ولا يُلْزَمُ بِهِ جَبْرًا، بَلْ يُؤْمَرُ بِهِ ولا يُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ أكْثَرَ عُلَماءِ الأُمَّةِ عَلى أنَّهُ لا يُجْبَرُ عَلى الوَفاءِ بِهِ؛ لِأنَّهُ وعْدٌ بِمَعْرُوفٍ مَحْضٍ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ إِسۡمَـٰعِیلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولࣰا نَّبِیࣰّا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق