الباحث القرآني

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أيْ: مِن بَعْدِ السِّنِينَ المَوْصُوفَةِ بِما ذُكِرَ مِنَ الشِّدَّةِ وأكْلِ الغِلالِ المُدَّخَرِ ﴿عامٌ﴾ لَمْ يُعَبِّرْ عَنْهُ بِالسَّنَةِ؛ تَحاشِيًا عَنِ المَدْلُولِ الأصْلِيِّ لَها مِن عامِ القَحْطِ، وتَنْبِيهًا مِن أوَّلِ الأمْرِ عَلى اخْتِلافِ الحالِ بَيْنَهُ وبَيْنَ السَّوابِقِ ﴿فِيهِ يُغاثُ النّاسُ﴾ مِنَ الغَيْثِ، أيْ: يُمْطَرُونَ، يُقالُ: غِيثَتِ البِلادُ إذا مُطِرَتْ في وقْتِ الحاجَةِ، أوْ مِنَ الغَوْثِ يُقالُ: أغاثَنا اللَّهُ تَعالى أيْ: أمَدَّنا بِرَفْعِ المَكارِهِ حِينَ أظَلَّتْنا ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ أيْ: ما مِن شَأْنِهِ أنْ يُعْصَرَ مِنَ العِنَبِ والقَصَبِ والزَّيْتُونِ والسِّمْسِمِ ونَحْوِها مِنَ الفَواكِهِ لِكَثْرَتِها، والتَّعَرُّضُ لِذِكْرِ العَصْرِ - مَعَ جَوازِ الِاكْتِفاءِ عَنْهُ بِذِكْرِ الغَيْثِ المُسْتَلْزِمِ لَهُ عادَةً،كَما اكْتُفِيَ بِهِ عَنْ ذِكْرِ تَصَرُّفِهِمْ في الحُبُوبِ - إمّا لِأنَّ اسْتِلْزامَ الغَيْثِ لَهُ لَيْسَ كاسْتِلْزامِهِ لِلْحُبُوبِ، إذِ المُذْكَراتُ يَتَوَقَّفُ صَلاحُها عَلى مَبادٍ أُخْرى غَيْرِ المَطَرِ، وإمّا لِمُراعاةِ جانِبِ المُسْتَفْتِي بِاعْتِبارِ حالَتِهِ الخاصَّةِ بِهِ بِشارَةً لَهُ، وهي الَّتِي يَدُورُ عَلَيْها حُسْنُ مَوْقِعِ تَغْلِيبِهِ عَلى النّاسِ في القِراءَةِ بِالفَوْقانِيَّةِ. وَقِيلَ: مَعْنى يَعْصِرُونَ يَحْلِبُونَ الضُّرُوعَ، وتَكْرِيرُ فِيهِ إمّا لِلْإشْعارِ بِاخْتِلافِ أوْقاتِ ما يَقَعُ فِيهِ مِنَ الغَيْثِ والعَصْرِ زَمانًا - وهو ظاهِرٌ - وعُنْوانًا، فَإنَّ الغَيْثَ والغَوْثَ مِن فَضْلِ اللَّهِ تَعالى، والعَصْرَ مِن فِعْلِ النّاسِ، وإمّا لِأنَّ المَقامَ مَقامُ تَعْدادِ مَنافِعِ ذَلِكَ العامِ ولِأجْلِهِ قُدِّمَ في المَوْضِعَيْنِ عَلى الفِعْلَيْنِ، فَإنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ بَيانُ أنَّهُ يَقَعُ في ذَلِكَ العامِ هَذا النَّفْعُ وذاكَ النَّفْعُ لا بَيانُ أنَّهُما يَقَعانِ في ذَلِكَ العامِ كَما يُفِيدُهُ التَّأْخِيرُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِلْقَصْرِ، عَلى مَعْنى أنْ غَيْثَهم وعَصْرَهم في سائِرِ السِّنِينَ بِمَنزِلَةِ العَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إلى عامِهِمْ ذَلِكَ، وأنْ يَكُونَ ذَلِكَ في الأخِيرِ لِمَراعاةِ الفَواصِلِ وفي الأوَّلِ لِرِعايَةِ حالِهِ، وقُرِئَ (يُعْصَرُونَ) عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ مِن عَصَرَهُ إذا أنْجاهُ، وهو المُناسِبُ لِلْإغاثَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَبْنِيُّ لِلْفاعِلِ أيْضًا مِنهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وفِيهِ يُغِيثُونَ، أيْ: يُغِيثُهُمُ اللَّهُ ويُغِيثُ بَعْضُهم بَعْضًا، وقِيلَ: مَعْنى (يُعْصَرُونَ) يُمْطَرُونَ، مِن أعْصَرَتِ السَّحابَةُ، إمّا بِتَضْمِينِ أعْصَرَتْ مَعْنى مَطَرَتْ وتَعْدِيَتِهِ، وإمّا بِحَذْفِ الجارِّ وإيصالِ الفِعْلِ، عَلى أنَّ الأصْلَ: أعْصَرَتْ عَلَيْهِمْ. وَأحْكامُ هَذا العامِ المُبارَكِ لَيْسَتْ مُسْتَنْبَطَةً مِن رُؤْيا المَلِكِ، وإنَّما تَلَقّاها - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن جِهَةِ الوَحْيِ فَبَشَّرَهم بِها بَعْدَما أوَّلَ (p-284)الرُّؤْيا بِما أوَّلَ، وأمَرَهم بِالتَّدْبِيرِ اللّائِقِ في شَأْنِهِ إبانَةً لِعُلُوِّ كَعْبِهِ ورُسُوخِ قَدَمِهِ في الفَضْلِ، وأنَّهُ مُحِيطٌ بِما لَمْ يَخْطُرْ بِبالِ أحَدٍ فَضْلًا عَمّا يُرى صُورَتُهُ في المَنامِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ لِصاحِبَيْهِ عِنْدَ اسْتِفْتائِهِما في مَنامِهِما:﴿ (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إلا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ)﴾ وإتْمامًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ لَمْ يُشارِكُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في العِلْمِ بِوُقُوعِها أحَدٌ ولَوْ بِرُؤْيَةِ ما يَدُلُّ عَلَيْها في المَنامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب