الباحث القرآني

﴿وقالَ الَّذِي نَجا مِنهُما وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أنا أُنَبِّئُكم بِتَأْوِيلِهِ فَأرْسِلُونِ﴾ ﴿يُوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ أفْتِنا في سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أرْجِعُ إلى النّاسِ لَعَلَّهم يَعْلَمُونَ﴾ ﴿قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأبًا فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ في سُنْبُلِهِ إلّا قَلِيلًا مِمّا تَأْكُلُونَ﴾ ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلّا قَلِيلًا مِمّا تُحْصِنُونَ﴾ ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ ﴿وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فاسْألْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللّاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٠] ﴿قالَ ما خَطْبُكُنَّ إذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قالَتِ امْرَأةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٥١] ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ [يوسف: ٥٢] ﴿وما أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ إلّا ما رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٣] ﴿وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أمِينٌ﴾ [يوسف: ٥٤] ﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٥] ﴿وكَذَلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَن نَشاءُ ولا نُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: ٥٦] ﴿ولَأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يوسف: ٥٧] ﴿وجاءَ إخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهم وهم لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ [يوسف: ٥٨] ﴿ولَمّا جَهَّزَهم بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأخٍ لَكم مِن أبِيكم ألا تَرَوْنَ أنِّي أُوفِي الكَيْلَ وأنا خَيْرُ المُنْزِلِينَ﴾ [يوسف: ٥٩] ﴿فَإنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكم عِنْدِي ولا تَقْرَبُونِ﴾ [يوسف: ٦٠] ﴿قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أباهُ وإنّا لَفاعِلُونَ﴾ [يوسف: ٦١] ﴿وقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهم في رِحالِهِمْ لَعَلَّهم يَعْرِفُونَها إذا انْقَلَبُوا إلى أهْلِهِمْ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [يوسف: ٦٢] ﴿فَلَمّا رَجَعُوا إلى أبِيهِمْ قالُوا يا أبانا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ فَأرْسِلْ مَعَنا أخانا نَكْتَلْ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [يوسف: ٦٣] ﴿قالَ هَلْ آمَنُكم عَلَيْهِ إلّا كَما أمِنتُكم عَلى أخِيهِ مِن قَبْلُ فاللَّهُ خَيْرٌ حافِظًا وهو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ [يوسف: ٦٤] ﴿ولَمّا فَتَحُوا مَتاعَهم وجَدُوا بِضاعَتَهم رُدَّتْ إلَيْهِمْ قالُوا يا أبانا ما نَبْغِي هَذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إلَيْنا ونَمِيرُ أهْلَنا ونَحْفَظُ أخانا ونَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ [يوسف: ٦٥] أمَهَ يَأْمَهُ أمَهًا وأمْهًا نَسِيَ، يُغاثُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ الغَوْثِ وهو الفَرَجُ، يُقالُ: أغاثَهُمُ اللَّهُ فَرَّجَ عَنْهم، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ الغَيْثِ تَقُولُ: غِيثَتِ البِلادُ إذا أُمْطِرَتْ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْرابِيَّةِ: غِثْنا ما شِئْنا، الخَطْبُ: الشَّأْنُ والأمْرُ الَّذِي فِيهِ خَطَرٌ، ويُجْمَعُ عَلى خُطُوبٍ قالَ: ؎وما المَرْءُ ما دامَتْ حُشاشَةُ نَفْسِهِ بِمُدْرِكِ أطْرافِ الخُطُوبِ ولا آلِ حَصْحَصَ تَبَيَّنَ بَعْدَ الخَفاءِ، قالَهُ الخَلِيلُ، وقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الحِصَّةِ حَصْحَصَ الحَقُّ بانَتْ حِصَّتُهُ مِن (p-٣١٤)حِصَّةِ الباطِلِ، وقِيلَ: ثَبَتَ واسْتَقَرَّ، ويَكُونُ مُتَعَدِّيًا مِن حَصْحَصَ البَعِيرُ ألْقى ثَفِناتِهِ لِلْإناخَةِ، قالَ: حَصْحَصَ في صُمِّ الصَّفا ثَفِناتِهِ، الجِهازُ: ما يَحْتاجُ إلَيْهِ المُسافِرُ مِن زادٍ ومَتاعٍ، وكُلُّ ما يُحْمَلُ، وجِهازُ العَرُوسِ ما يَكُونُ مَعَها مِنَ الأثاثِ والشُّورَةِ، وجِهازُ المَيِّتِ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ في دَفْنِهِ، الرَّحْلُ: ما عَلى ظَهْرِ المَرْكُوبِ مِن مَتاعِ الرّاكِبِ أوْ غَيْرِهِ، وجَمْعُهُ رِحالٌ في الكَثْرَةِ، وأرْحُلٌ في القِلَّةِ، مارَ يَمِيرُ، وأمارَ يَمِيرُ، إذا جَلَبَ الخَيْرَ وهي المِيرَةُ قالَ: ؎بَعَثْتُكَ مائِرًا فَمَكَثْتَ حَوْلًا ∗∗∗ مَتى يَأْتِي غِياثُكَ مَن تُغِيثُ البَعِيرُ في الأشْهَرِ الجَمَلُ مُقابِلُ النّاقَةِ، وقَدْ يُطْلَقُ عَلى النّاقَةِ، كَما يُطْلَقُ عَلى الجَمَلِ فَيَقُولُ: عَلى هَذا نِعْمَ البَعِيرُ الجَمَلُ لِعُمُومِهِ، ويَمْتَنِعُ عَلى الأشْهَرِ لِتَرادُفِهِ، وفي لُغَةٍ تُكْسَرُ باؤُهُ، ويُجْمَعُ في القِلَّةِ عَلى أبْعِرَةٍ، وفي الكَثْرَةِ عَلى بِعِرانٍ. * * * ﴿وقالَ الَّذِي نَجا مِنهُما وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أنا أُنَبِّئُكم بِتَأْوِيلِهِ فَأرْسِلُونِ﴾ ﴿يُوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ أفْتِنا في سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أرْجِعُ إلى النّاسِ لَعَلَّهم يَعْلَمُونَ﴾ ﴿قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأبًا فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ في سُنْبُلِهِ إلّا قَلِيلًا مِمّا تَأْكُلُونَ﴾ ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلّا قَلِيلًا مِمّا تُحْصِنُونَ﴾ ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ لَمّا اسْتَثْنى المَلِكُ في رُؤْياهُ وأعْضَلَ عَلى المَلَأِ تَأْوِيلَها، تَذَكَّرَ النّاجِي مِنَ القَتْلِ وهو ساقِي المَلِكِ يُوسُفَ، وتَأْوِيلَ رُؤْياهُ ورُؤْيا صاحِبِهِ، وطَلَبَهُ إلَيْهِ لِيَذْكُرَهُ عِنْدَ المَلِكِ، (وادَّكَرَ) أيْ: تَذَكَّرَ ما سَبَقَ لَهُ مَعَ يُوسُفَ (بَعْدَ أُمَّةٍ) أيْ: مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: (وادَّكَرَ) حالِيَّةٌ، وأصْلُهُ: واذْتَكَرَ أُبْدِلَتِ التّاءُ دالًا وأُدْغِمَتِ الذّالُ فِيها فَصارَ ادَّكَرَ، وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ، وقَرَأ الحَسَنُ: واذَّكَرَ بِإبْدالِ التّاءِ ذالًا، وإدْغامُ الذّالِ فِيها، وقَرَأ الأشْهَبُ العُقَيْلِيُّ: (بَعْدَ إمَّةٍ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ أيْ: بَعْدَ نِعْمَةٍ أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِالنَّجاةِ مِنَ القَتْلِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ نِعْمَةٍ أنْعَمَ اللَّهُ بِها عَلى يُوسُفَ في تَقْرِيبِ إطْلاقِهِ، والأُمَّةُ النِّعْمَةُ قالَ: ؎ألا لا أرى ذا إمَّةٍ أصْبَحَتْ بِهِ فَتَتْرُكُهُ الأيّامُ وهي كَما هِيا قالَ الأعْلَمُ: الأُمَّةُ النِّعْمَةُ والحالُ الحَسَنَةُ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والضَّحّاكُ وقَتادَةُ وأبُو رَجاءٍ وشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ الضُّبَعِيُّ ورَبِيعَةُ بْنُ عَمْرٍو: (بَعْدَ أمَهِ) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ والمِيمُ مُخَفَّفَةٌ وهاءٌ، وكَذَلِكَ قَرَأ ابْنُ عُمَرَ ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ، واخْتَلَفَ عَنْهم، وقَرَأ عِكْرِمَةُ وأيْضًا مُجاهِدٌ وشُبَيْلُ بْنُ عَزْرَةَ: (بَعْدَ أُمْهِ) بِسُكُونِ المِيمِ، مَصْدَرُ أمَهَ عَلى غَيْرِ قِياسٍ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَن قَرَأ بِسُكُونِ المِيمِ فَقَدْ أخْطَأ، انْتَهى. وهَذا عَلى عادَتِهِ في نِسْبَتِهِ الخَطَأ إلى الفَرّاءِ، ﴿أنا أُنَبِّئُكم بِتَأْوِيلِهِ﴾ أيْ: أُخْبِرُكم بِهِ عَمَّنْ عِنْدَهُ عِلْمُهُ لا مِن جِهَتِي، وقَرَأ الحَسَنُ: (أنا أتِيكُمُ) مُضارِعُ أتى مِنَ الإتْيانِ، وكَذا في الإمامِ، وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: (فَأرْسِلُونِ) أيِ: ابْعَثُونِي إلَيْهِ لِأسْألَهُ، ومُرُونِي بِاسْتِعْبارِهِ، اسْتَأْذَنَ في المُضِيِّ إلى يُوسُفَ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ في السِّجْنِ في غَيْرِ (p-٣١٥)مَدِينَةِ المَلِكِ، وقِيلَ: كانَ فِيها، ويَرْسُمُ النّاسُ اليَوْمَ سِجْنَ يُوسُفَ في مَوْضِعٍ عَلى النِّيلِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الفُسْطاطِ ثَمانِيَةَ أمْيالٍ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ، التَّقْدِيرُ: فَأرْسِلُوهُ إلى يُوسُفَ فَأتاهُ فَقالَ: و(الصَّدِّيقُ) بِناءُ مُبالِغَةٍ كالشَّرِّيبِ والسِّكِّيرِ، وكانَ قَدْ صَحِبَهُ زَمانًا وجَرَّبَ صِدْقَهُ في غَيْرِ ما شَيْءٍ كَتَأْوِيلِ رُؤْياهُ ورُؤْيا صاحِبِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿لَعَلِّي أرْجِعُ إلى النّاسِ﴾ أيْ: بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّؤْيا، واحْتَرَزَ بِلَفْظَةِ (لَعَلِّي) لِأنَّهُ لَيْسَ عَلى يَقِينٍ مِنَ الرُّجُوعِ إلَيْهِمْ؛ إذْ مِنَ الجائِزِ أنْ يَخْتَرِمَ دُونَ بُلُوغِهِ إلَيْهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّهم يَعْلَمُونَ﴾ كالتَّعْلِيلِ لِرُجُوعِهِ إلَيْهِمْ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيا، وقِيلَ: لَعَلَّهم يَعْلَمُونَ فَضْلَكَ ومَكانَكَ مِنَ العِلْمِ، فَيَطْلُبُونَكَ ويُخَلِّصُونَكَ مِن مِحْنَتِكَ، فَتَكُونُ لَعَلَّ كالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: (أفْتِنا) . قالَ: (تَزْرَعُونَ) إلى آخِرِهِ، تَضَمَّنَ هَذا الكَلامُ مِن يُوسُفَ ثَلاثَةَ أنْواعٍ مِنَ القَوْلِ؛ أحَدُها: تَعْبِيرٌ بِالمَعْنى لا بِاللَّفْظِ. والثّانِي: عَرْضُ رَأْيٍ وأمَرَ بِهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَذَرُوهُ في سُنْبُلِهِ﴾ . والثّالِثُ: الإعْلامُ بِالغَيْبِ في أمْرِ العامِ الثّامِنِ، قالَهُ قَتادَةُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْتَمِلُ هَذا أنْ لا يَكُونَ غَيْبًا، بَلْ عِلْمُ العِبارَةِ أعْطى انْقِطاعَ الخَوْفِ بَعْدَ سَبْعٍ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ الأخْصَبُ، انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأبًا﴾ خَبَرًا، أخْبَرَ أنَّهم تَتَوالى لَهم هَذِهِ السُّنُونَ لا يَنْقَطِعُ فِيها زَرْعُهم لِلرَّيِّ الَّذِي يُوجَدُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (تَزْرَعُونَ) خَبَرٌ في مَعْنى الأمْرِ كَقَوْلِهِ: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ﴾ [الصف: ١١] وإنَّما يَخْرُجُ الأمْرُ في صُورَةِ الخَبَرِ لِلْمُبالَغَةِ في إيجابِ إنْجازِ المَأْمُورِ بِهِ، فَيُجْعَلُ كَأنَّهُ وُجِدَ فَهو يُخْبِرُ عَنْهُ، والدَّلِيلُ عَلى كَوْنِهِ في مَعْنى الأمْنِ، قَوْلُهُ: ﴿فَذَرُوهُ في سُنْبُلِهِ﴾ انْتَهى، ولا يَدُلُّ الأمْرُ بِتَرْكِهِ في سُنْبُلِهِ عَلى أنَّ (تَزْرَعُونَ) في مَعْنى ازْرَعُوا، بَلْ (تَزْرَعُونَ) إخْبارُ غَيْبٍ بِما يَكُونُ مِنهم مَن تَوالِي الزَّرْعِ سَبْعَ سِنِينَ، وأمّا قَوْلُهُ: (فَذَرُوهُ) فَهو أمْرُ إشارَةٍ بِما يَنْبَغِي أنْ يَفْعَلُوهُ، ومَعْنى (دَأبًا): مُلازَمَةً، كَعادَتِكم في المُزارَعَةِ، وقَرَأ حَفْصٌ: (دَأبًا) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، والجُمْهُورُ بِإسْكانِها، وهُما مَصْدَرانِ لِدَأبَ، وانْتِصابُهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مِن لَفْظِهِ أيْ: تَدابُونَ دَأبًا، فَهو مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ، وعِنْدَ المُبَرِّدِ بِـ (تَزْرَعُونَ) بِمَعْنى تَدْأبُونَ، وهي عِنْدَهُ مِثْلُ قَعَدَ القُرْفُصاءَ، وقِيلَ: مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ؛ أيْ: دائِبِينَ، أوْ ذَوِي دَأْبٍ حالًا مِن ضَمِيرِ تَزْرَعُونَ. و”ما“ في قَوْلِهِ: ﴿فَما حَصَدْتُمْ﴾ شَرْطِيَّةٌ أوْ مَوْصُولَةٌ بِـ ﴿ذَرُوهُ في سُنْبُلِهِ﴾ إشارَةً بِرَأْيِ نافِعٍ بِحَسَبِ طَعامِ مِصْرَ وحِنْطَتِها الَّتِي لا تَبْقى عامَيْنِ بِوَجْهٍ إلّا بِحِيلَةِ إبْقائِها في السُّنْبُلِ، فَإذا بَقِيَتْ فِيها انْحَفَظَتْ، والمَعْنى: اتْرُكُوا الزَّرْعَ في السُّنْبُلِ إلّا ما لا غِنى عَنْهُ لِلْأكْلِ، فَيَجْتَمِعُ الطَّعامُ ويَتَرَكَّبُ ويُؤْكَلُ الأقْدَمُ فالأقْدَمُ، فَإذا جاءَتِ السُّنُونَ الجَدْبَةُ تُقُوِّتَ الأقْدَمُ فالأقْدَمُ مِن ذَلِكَ المُدَّخَرِ، وقَرَأ السُّلَمِيُّ: (مِمّا يَأْكُلُونَ) بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ أيْ: يَأْكُلُ النّاسُ، وحَذَفَ المُمَيَّزَ في قَوْلِهِ: ﴿سَبْعٌ شِدادٌ﴾ أيْ: سَبْعُ سِنِينَ شِدادٌ، لِدَلالَةِ قَوْلِهِ: (سَبْعُ سِنِينَ) عَلَيْهِ، وأسْنَدَ الأكْلَ الَّذِي في قَوْلِهِ: (يَأْكُلْنَ) عَلى سَبِيلِ المَجازِ مِن حَيْثُ أنَّهُ يُؤْكَلُ فِيهِما كَما قالَ: (والنَّهارَ مُبْصِرًا) ومَعْنى (تُحْصِنُونَ) تُحْرِزُونَ وتُخْبِئُونَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الحِصْنِ وهو الحِرْزُ والمَلْجَأُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والجُمْهُورُ، يُغاثُ مِنَ الغَيْثِ، وقِيلَ: مِنَ الغَوْثِ، وهو الفَرَجُ، فَفي الأوَّلِ بُنِيَ مِن ثُلاثِيٍّ، وفي الثّانِي مِن رُباعِيٍّ، تَقُولُ: غاثَنا اللَّهُ مِنَ الغَيْثِ، وأغاثَنا مِنَ الغَوْثِ، وقَرَأ الأخَوانِ: (تَعْصِرُونَ) بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ مِن عَصْرِ النَّباتِ كالعِنَبِ والقَصَبِ والزَّيْتُونِ والسِّمْسِمِ والفِجْلِ وجَمِيعِ ما يُعْصَرُ، ومِصْرُ بَلَدُ عَصِيرٍ لِأشْياءَ كَثِيرَةٍ والحَلْبُ مِنهُ؛ لِأنَّهُ عَصْرٌ لِلضُّرُوعِ، ورُوِيَ أنَّهم لَمْ يَعْصِرُوا شَيْئًا مُدَّةَ الجَدْبِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ، مَأْخُوذٌ مِنَ العُصْرَةِ، والعَصْرُ وهو المُنَجِّي، ومِنهُ قَوْلُ أبِي زُبَيْدٍ في عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ؎صادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ∗∗∗ ولَقَدْ كانَ عُصْرَةَ المَنجُودِ (p-٣١٦)فالمَعْنى: يَنْجُونَ بِالعُصْرَةِ، وقَرَأ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ والأعْرَجُ وعِيسى البَصْرَةِ (يُعْصَرُونَ) بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الصّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وعَنْ عِيسى أيْضًا: (تُعْصَرُونَ) بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ومَعْناهُ: يَنْجُونَ مِن عَصْرِهِ إذا أنْجاهُ، وهو مُناسِبٌ لِقَوْلِهِ: يُغاثُ النّاسُ، وقالَ ابْنُ المُسْتَنِيرِ: مَعْناهُ يُمْطَرُونَ، مِن أعْصَرَتِ السَّحابَةُ ماءَها عَلَيْهِمْ، فَجُعِلُوا مُعْصِرِينَ مَجازًا بِإسْنادِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ، وهو لِلْماءِ الَّذِي يُمْطَرُونَ بِهِ، وحَكى النَّقّاشُ أنَّهُ قُرِئَ (يُعَصِّرُونَ) بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الصّادِ وشَدِّها مِن عَصَّرَ مُشَدَّدًا لِلتَّكْثِيرِ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (وفِيهِ تِعِصِّرُونَ) بِكَسْرِ التّاءِ والعَيْنِ والصّادِ وشَدِّها، وأصْلُهُ تَعْتَصِرُونَ، فَأدْغَمَ التّاءَ في الصّادِ ونَقَلَ حَرَكَتَها إلى العَيْنِ، وأتْبَعَ حَرَكَةَ التّاءِ لِحَرَكَةِ العَيْنِ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مِنِ اعْتَصَرَ العِنَبَ ونَحْوِهِ، ومِنِ اعْتَصَرَ بِمَعْنى نَجا، قالَ الشّاعِرُ: ؎لَوْ بِغَيْرِ الماءِ حَلْقِي شَرِقٌ ∗∗∗ كُنْتُ كالغَصّانِ بِالماءِ اعْتِصارِي أيْ: نَجاتِي، تَأوَّلَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - البَقَراتِ السِّمانَ والسُّنْبُلاتِ الخُضْرَ بِسِنِينَ مُخْصِبَةٍ، والعِجافَ واليابِساتِ بِسِنِينَ مُجْدِبَةٍ، ثُمَّ بَشَّرَهم بَعْدَ الفَراغِ مِن تَأْوِيلِ الرُّؤْيا بِمَجِيءِ العامِ الثّامِنِ مُبارَكًا خَصِيبًا كَثِيرَ الخَيْرِ غَزِيرَ النِّعَمِ، وذَلِكَ مِن جِهَةِ الوَحْيِ، وعَنْ قَتادَةَ: زادَهُ اللَّهُ عِلْمَ سَنَةٍ، والَّذِي مِن جِهَةِ الوَحْيِ هو التَّفْضِيلُ بِحالِ العامِ بِأنَّهُ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ، (وفِيهِ يَعْصِرُونَ)، وإلّا فَمَعْلُومٌ بِانْتِهاءِ السَّبْعِ الشِّدادِ مَجِيءُ الخِصْبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب