الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) ﴾ قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأته عامة قرأة الحجاز من مكة والمدينة، وقرأةُ الكوفة: ﴿" أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ "﴾ ، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ على وجه الخطاب. * * * وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ بالياء كلتيهما، على وجه الخبر عن الغائب. * * * وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ ، على وجه الخبر عن الغائب، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ، بالتاء على وجه المخاطبة. * * * قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ:"أفغير دين الله تبغون" على وجه الخطاب"وإليه تُرجعون" بالتاء. لأن الآية التي قبلها خطابٌ لهم، فإتباعُ الخطاب نظيرَه، أولى من صرف الكلام إلى غير نظيره. وإن كان الوجه الآخر جائزًا، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل: من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانًا على الخطاب كله، وأحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، وأحيانًا بعضُه على الخطاب، وبعضُه على الغيبة، فقوله:"تبغون" و"إليه ترجعون" في هذه الآية، من ذلك. [[انظر ما سلف: ٤٦٤ والتعليق رقم: ٢، والمراجع هناك. وانظر فهرس مباحث العربية.]] * * * وتأويل الكلام: يا معشرَ أهل الكتاب ="أفغيرَ دين الله تبغون"، يقول: أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون، [[انظر تفسير"الدين" فيما سلف ١: ١١٥، ٢٢١ / ٣: ٥٧١ / ثم ٦: ٢٧٣، ٢٧٤ = ثم معنى"يبغي" فيما سلف ٣: ٥٠٨ / ٤: ١٦٣ / ثم ٦: ١٩٦، تعليق: ٣.]] ="وله أسلم من في السماوات والأرض"، يقول: وله خَشع من في السموات والأرض، فخضع له بالعبودة، [[في المطبوعة: "العبودية"، وأثبت ما في المخطوطة، كما سلف مرارًا. انظر قريبًا: ص: ٥٤٩ تعلق ٢، والمراجع هناك.]] وأقرّ له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية [[انظر تفسير"أسلم" فيما سلف ص: ٤٨٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.]] ="طوْعًا وكرهًا"، يقول أسلم لله طائعًا من كان إسلامه منهم له طائعًا، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين، فإنهم أسلموا لله طائعين ="وكرهًا"، من كان منهم كارهًا. [[انظر تفسير"الكره" فيما سلف ٤: ٢٩٧، ٢٩٨.]] * * * واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الإسلام وصفته. فقال بعضهم: إسلامه، إقراره بأنّ الله خالقه وربُّه، وإن أشرك معه في العبادة غيرَه. * ذكر من قال ذلك: ٧٣٤٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"وله أسلم من في السموات والأرض"، قال: هو كقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [سورة الزمر: ٣٨] . ٧٣٤٣ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد مثله. ٧٣٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:" وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه تُرجعون "، قال: كل آدميّ قد أقرّ على نفسه بأن الله ربّي وأنا عبده. فمن أشرَكَ في عبادته فهذا الذي أسلم كَرْهًا، ومن أخلص له العبودة، [[في المطبوعة: "العبودية"، وانظر التعليق السالف رقم ص: ٥٦٤، رقم: ٣.]] فهو الذي أسلم طوعًا. * * * وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم، كان حين أخذَ منه الميثاق فأقرَّ به. * ذكر من قال ذلك: ٧٣٤٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: حين أخذَ الميثاق. * * * وقال آخرون؛ عنى بإسلام الكاره منهم، سُجودَ ظله. * ذكر من قال ذلك: ٧٣٤٦ - حدثنا سوَّار بن عبد الله قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: الطائع المؤمن = و"كرهًا"، ظلّ الكافر. ٧٣٤٧ - حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"طوعًا وكرهًا"، قال: سجود المؤمن طائعًا، وسجود الكافر وهو كاره. ٧٣٤٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كَرْهًا"، قال: سجود المؤمن طائعًا، وسجود ظلّ الكافر وهو كاره. ٧٣٤٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: سجود وجهه طائعًا، وظله كارهًا. [[في المخطوطة والمطبوعة: "سجود وجهه وظله طائعًا"، وهو لا يستقيم، واستظهرت من أخبار مجاهد السالفة، أن هذا هو حق المعنى، وأنه أولى بالصواب.]] * * * وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله، واستقادته لأمره وإن أنكر ألوهته بلسانه. * ذكر من قال ذلك: ٧٣٥٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر:"وله أسلم من في السموات والأرض"، قال: استقاد كلهم له. [[الأثر: ٧٣٥٠-"جابر" هو: "جابر بن يزيد الجعفي". روى عن أبي الطفيل وأبي الضحى وعكرمة وعطاء وطاوس. روى عنه شعبة والثوري وإسرائيل وجماعة. و"عامر"، هو الشعبي. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "جابر بن عامر"، وليس في الرواة أحد بهذا الاسم.]] * * * وقال آخرون: عنى بذلك إسلام من أسلم من الناس كرْهًا، حَذَر السيف على نفسه. * ذكر من قال ذلك: ٧٣٥١ - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا" الآية كلها، فقال: أكره أقوامٌ على الإسلام، وجاء أقوامٌ طائعين. ٧٣٥٢ - حدثني الحسن بن قزعة الباهلي قال، حدثنا روح بن عطاء، عن مطر الورّاق في قول الله عز وجل:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون"، قال: الملائكة طوعًا، والأنصار طوعًا، وبنو سُلَيمُ وعبد القيس طوعًا، والناس كلهم كرهًا. * * * وقال آخرون معنى ذلك: أنّ أهل الإيمان أسلموا طوعًا، وأنّ الكافر أسلم في حال المعاينة، حينَ لا ينفعه إسلامٌ، كرهًا. * ذكر من قال ذلك: ٧٣٥٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أفغير دين الله تبغون"، الآية، فأما المؤمن فأسلم طائعًا فنفعه ذلك، وقُبِل منه، وأما الكافر فأسلم كارهًا حين لا ينفعه ذلك، ولا يقبل منه. ٧٣٥٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: أما المؤمن فأسلم طائعًا، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأسَ الله، ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [سورة غافر: ٨٥] . * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أيْ: عبادةُ الخلق لله عز وجل. [[في المطبوعة: "في عبادة الخلق"، وفي المخطوطة"أن عبادة الخلق"، وصوابه قراءتها ما أثبت.]] * ذكر من قال ذلك: ٧٣٥٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: عبادتهم لي أجمعين طوعًا وكرهًا، وهو قوله: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [سورة الرعد: ١٥] . * * * وأما قوله:"وإليه تُرجعون"، فإنه يعني:"وإليه"، يا معشر من يبتغي غيرَ الإسلام دينًا من اليهود والنصارى وسائر الناس ="ترجعون"، يقول: إليه تصيرون بعد مماتكم، فمجازيكم بأعمالكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءَته. * * * وهذا من الله عز وجل تحذيرٌ خلقَه أن يرجع إليه أحدٌ منهم فيصيرُ إليه بعد وفاته على غير ملة الإسلام.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب