الباحث القرآني

فيه خمس وعشرون مسا له: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٢ ص ١٩١.]] فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَخَتَمَ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي آيَاتِهِ، إِذْ لَا تصدر إلا عن حي قيوم قدير قدوس سَلَامٍ غَنِيٍّ عَنِ الْعَالَمِينَ، حَتَّى يَكُونَ إِيمَانُهُمْ مُسْتَنِدًا إِلَى الْيَقِينِ لَا إِلَى التَّقْلِيدِ. (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي تَأَمُّلِ الدَّلَائِلِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ قَامَ يُصَلِّي، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فرءاه يَبْكِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ! فَقَالَ: (يَا بِلَالُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا وَلَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةً "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ"- ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنِ انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى وَجْهِهِ، وَيَسْتَفْتِحَ قِيَامَهُ بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ ﷺ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَسَيَأْتِي، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ التَّفَكُّرِ وَالْعَمَلِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْعَمَلِ عَلَى ١٧ خط حذف شده است. مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ "آلِ عِمْرَانَ" كُلَّ لَيْلَةٍ، خَرَّجَهُ أَبُو نَصْرٍ الْوَائِلِيُّ السِّجِسْتَانِيُّ الْحَافِظُ فِي كِتَابِ "الْإِبَانَةِ" مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ الْمَخْزُومِيِّ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ [[راجع ص ٢ من هذا الجزء.]] السُّورَةِ عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ﴾ ذَكَرَ تَعَالَى ثلاث هيئات لا يخلوا ابْنُ آدَمَ مِنْهَا فِي غَالِبِ أَمْرِهِ، فَكَأَنَّهَا تَحْصُرُ زَمَانَهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ عَلَى الْخَلَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا، فَأَجَازَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ، وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ. قَالَ النَّخَعِيُّ: لَا بَأْسَ بِذِكْرِ. اللَّهِ فِي الْخَلَاءِ فَإِنَّهُ يَصْعَدُ. الْمَعْنَى: تَصْعَدُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مَكْتُوبًا فِي صُحُفِهِمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. دَلِيلُهُ قول تَعَالَى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨] [[راجع ج ١٧ ص ٨.]]. وقال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ﴾ [الانفطار: ١١ - ١٠] [[راجع ج ١٩ ص ٢٤٥.]]. ولان اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ عِبَادَهُ بِالذِّكْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَقَالَ: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾ [الأحزاب: ٤١] [[راجع ج ١٤ ص ١٩٧.]] وقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢] [[راجع ج ٢ ص ١٧١.]] وَقَالَ: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٣] [[راجع ج ١٠ ص ٣٩٥.]] فَعَمَّ. فَذَاكِرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَالَاتِهِ مُثَابٌ مَأْجُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (يَا رَبِّ أَقَرِيبٌ أَنْتَ فَأُنَاجِيَكَ أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيَكَ قَالَ: يَا مُوسَى أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنَّا نَكُونُ مِنَ الْحَالِ عَلَى حَالٍ نُجِلُّكَ وَنُعَظِّمُكَ أَنْ نَذْكُرَكَ قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْجَنَابَةُ وَالْغَائِطُ قَالَ: يَا مُوسَى اذْكُرْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ (. وَكَرَاهِيَةُ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ إِمَّا لِتَنْزِيهِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَوَاضِعِ الْمَرْغُوبِ عَنْ ذِكْرِهِ فِيهَا كَكَرَاهِيَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْحَمَّامِ، وَإِمَّا إِبْقَاءً عَلَى الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ عَلَى أَنْ يُحِلَّهُمْ مَوْضِعَ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ لِكِتَابَةِ مَا يَلْفِظُ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَ (قِياماً وَقُعُوداً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) فِي موضع الحال، أي ومضطجعين ومثله قول تَعَالَى: ﴿دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً﴾ [يونس: ١٢] [[راجع ج ٨ ص ٣١٧.]] عَلَى الْعَكْسِ، أَيْ دَعَانَا مُضْطَجِعًا عَلَى جَنْبِهِ. وذهب، جماعة من المفسرين منهم الحسن وغير إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ "يَذْكُرُونَ اللَّهَ" إِلَى آخِرِهِ، إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، أَيْ لَا يُضَيِّعُونَهَا، فَفِي حَالِ الْعُذْرِ يُصَلُّونَهَا قُعُودًا أَوْ على جنوبهم. وهي مثل قول تَعَالَى: ﴿فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء: ١٠٣] [[راجع ج ٥ ص ٣٧٣.]] فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى، مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ فِي الصَّلَاةِ فَفِقْهُهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُصَلِّي قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِهِ، كَمَا ثبت عن عمران ابن حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ بِي الْبَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ) رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. وَقَدْ كَانَ ﷺ يُصَلِّي قَاعِدًا قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ فِي النَّافِلَةِ، عَلَى مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا. قَالَ أبو عبد الرحمن [[أبو عبد الرحمن: كنية النسائي.]]: لا أعلم أحد رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرَ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ [[الحفري (بفتح المهملة والفاء) نسبة إلى موضع بالكوفة واسمه عمر بن سعد بن عبيد.]] وَهُوَ ثِقَةٌ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا خَطَأً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ وَالْقَاعِدِ وَهَيْئَتِهَا، فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ فِي قيامه، وقال الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ تَهَيَّأَ لِلسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمُتَنَفِّلُ. وَنَحْوَهُ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ: يَجْلِسُ فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا كَجُلُوسِ التَّشَهُّدِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالْأَوَّلُ الْمَشْهُورُ [[في ى: المذهب. وذلك في الهامش تصحيحا.]] وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: يَجْلِسُ كَجُلُوسِ التَّشَهُّدِ، وَكَذَلِكَ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ. الْخَامِسَةُ- قَالَ [[في هـ.]]: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقُعُودَ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ أَوْ ظَهْرِهِ عَلَى التَّخْيِيرِ، هَذَا مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَكْسُهُ، يُصَلِّي عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْأَيْسَرِ، وَإِلَّا فَعَلَى الظَّهْرِ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُصَلِّي عَلَى الْأَيْمَنِ كَمَا يُجْعَلُ فِي لَحْدِهِ، وَإِلَّا فَعَلَى ظَهْرِهِ وَإِلَّا فَعَلَى الْأَيْسَرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا صَلَّى مُضْطَجِعًا تَكُونُ رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ. وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: يُصَلِّي عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. السَّادِسَةُ- فَإِنْ قَوِيَ لِخِفَّةِ الْمَرَضِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنَّهُ يَقُومُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَزُفَرَ وَالطَّبَرِيِّ. وقال أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ يَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ صَلَّى مُضْطَجِعًا رَكْعَةً ثُمَّ صَحَّ: أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِهَا، وَلَوْ كَانَ قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ ثُمَّ صَحَّ بَنَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَبْنِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَائِمًا ثُمَّ صَارَ إِلَى حَدِّ الْإِيمَاءِ فَلْيَبْنِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الرُّكُوعَ وَلَا السُّجُودَ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ وَالْجُلُوسَ: إِنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا وَيُومِئُ إِلَى الرُّكُوعِ، فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ جَلَسَ وَأَوْمَأَ إِلَى السُّجُودِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ، أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يُصَلِّي قَاعِدًا. السَّابِعَةُ- وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّاقِدِ الصَّحِيحِ فَرُوِيَ عَنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِهِ، وَهِيَ "صَلَاةُ الرَّاقِدِ مِثْلُ نِصْفِ صَلَاةِ الْقَاعِدِ". قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يُجِيزُونَ النَّافِلَ مُضْطَجِعًا، وَهُوَ حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِهِ إلا حسين المعلم وهو حسين ابن ذَكْوَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى حُسَيْنٍ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ اخْتِلَافًا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَنْهُ، وَإِنْ صَحَّ فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ أَجَازَ النَّافِلَةَ مُضْطَجِعًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ أَوْ عَلَى الْقِيَامِ فَوَجْهُهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَهِيَ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهَةِ النَّافِلَةِ رَاقِدًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ أَوِ الْقِيَامِ، فَحَدِيثُ حُسَيْنٍ هَذَا إِمَّا غَلَطٌ وَإِمَّا مَنْسُوخٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالآية الذين يستدلون بخلق السموات وَالْأَرْضِ عَلَى أَنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُغَيِّرٍ، وَذَلِكَ الْمُغَيِّرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَبْعَثَ الرُّسُلَ، فَإِنْ بَعَثَ رَسُولًا وَدَلَّ عَلَى صِدْقِهِ بِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عُذْرٌ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ قد بينا معنى "يَذْكُرُونَ" وَهُوَ إِمَّا ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ وَإِمَّا الصَّلَاةُ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا، فَعَطَفَ تَعَالَى عِبَادَةً أُخْرَى عَلَى إِحْدَاهُمَا [[في اوج وب وهـ وى وط: بعبادة أخرى وهى الفكر.]] بِعِبَادَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ التَّفَكُّرُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَخْلُوقَاتِهِ وَالْعِبَرِ الَّذِي بَثَّ [[كذا في هـ وب ود وج وى. وفى أوح: نبه، وفى ز: ثبت.]]، لِيَكُونَ ذَلِكَ أزيد بَصَائِرِهِمْ: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ على أنه واحد وَقِيلَ: "يَتَفَكَّرُونَ" عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: يَكُونُ مُنْقَطِعًا، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. وَالْفِكْرَةُ: تَرَدُّدُ الْقَلْبِ فِي الشَّيْءِ، يُقَالُ: تَفَكَّرَ، وَرَجُلٌ فَكِيرٌ كَثِيرٌ الْفِكْرِ، وَمَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى قَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي اللَّهِ فَقَالَ: (تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ فَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ قَدْرَهُ) وَإِنَّمَا التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ وَانْبِسَاطُ الذِّهْنِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ: "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ". وَحُكِيَ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَأَى الْكَوَاكِبَ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَبُولُ الدَّمَ مِنْ طُولِ حُزْنِهِ وَفِكْرَتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِهِ إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَى النُّجُومِ وَإِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ لَكِ رَبًّا وَخَالِقًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فَغَفَرَ لَهُ) وَقَالَ ﷺ: (لَا عِبَادَةَ كَتَفَكُّرٍ). وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: (تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ). وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِهِ التَّفَكُّرَ. قِيلَ له: أفترى التفكر عمل مِنَ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ الْيَقِينُ. وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَةً، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ الْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَالتَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ، وَقَالَهُ ابْنُ الْعَبَّاسِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْفِكْرَةُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ يَنْظُرُ فِيهَا إِلَى حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ. وَمِمَّا يَتَفَكَّرُ فِيهِ مَخَاوِفُ الْآخِرَةِ مِنَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَالنَّارِ وَعَذَابِهَا. وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ قَدَحَ الْمَاءِ لِيَتَوَضَّأَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَعِنْدَهُ ضَيْفٌ، فَرَآهُ لَمَّا أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي أُذُنِ الْقَدَحِ أَقَامَ لِذَلِكَ مُتَفَكِّرًا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ قَالَ: إِنِّي لَمَّا طَرَحْتُ أُصْبُعِي فِي أُذُنِ الْقَدَحِ تَفَكَّرْتُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ [المؤمن: ٧١] [[راجع ج ١٥ ص ٣٣٢.]] تَفَكَّرْتُ، فِي حَالِي وَكَيْفَ أَتَلَقَّى الْغُلَّ إِنْ طُرِحَ فِي عُنُقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا زِلْتُ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحْتُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: "وَهَذَا نِهَايَةُ الْخَوْفِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَلَيْسَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمُ الْحُجَّةُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ، وَقِرَاءَةُ عِلْمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَانِي سنة رسول الله ﷺ لِمَنْ يَفْهَمُ وَيُرْجَى نَفْعُهُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ أَيُّ الْعَمَلَيْنِ أَفْضَلُ: التَّفَكُّرُ أَمِ الصَّلَاةُ، فَذَهَبَ الصُّوفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّفَكُّرَ أَفْضَلُ، فَإِنَّهُ يُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ وَهُوَ أَفْضَلُ، الْمَقَامَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحَثِّ عَلَيْهَا وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ، وَفِيهِ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَاتِ العشر الحواتم مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَقَامَ إِلَى شَنٍّ [[الشن: القربة.]] مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا ثُمَّ صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، الْحَدِيثَ. فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى جَمْعِهِ بَيْنَ التَّفَكُّرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ ثُمَّ إِقْبَالِهِ عَلَى صَلَاتِهِ بَعْدَهُ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ هِيَ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا. فَأَمَّا طَرِيقَةُ الصُّوفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ مِنْهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَشَهْرًا مُفَكِّرًا لَا يَفْتُرُ، فَطَرِيقَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِالْبَشَرِ، وَلَا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى السُّنَنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ قَالَ: كُنْتُ بَائِتًا فِي مَسْجِدِ الْأَقْدَامِ [[مسجد الاقدام: مسجد كان بجهة مصر العتيقة قريبا من سقاية ابن طولون. راجع المقريزي ج ٢ ص ٤٤٥ طبع بولاق.]] بِمِصْرَ فَصَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ فَرَأَيْتُ رَجُلًا قَدِ اضْطَجَعَ فِي كِسَاءٍ لَهُ مُسَجًّى بِكِسَائِهِ حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَلَّيْنَا نَحْنُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَصَلَّى مَعَ النَّاسِ، فَاسْتَعْظَمْتُ جَرَاءَتَهُ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا فَرَغَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ فَتَبِعْتُهُ لِأَعِظَهُ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ سَمِعْتُهُ يُنْشِدُ شِعْرًا: مُسَجَّى الْجِسْمِ غَائِبٌ حَاضِرْ ... مُنْتَبِهُ الْقَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ مُنْقَبِضٌ فِي الْغُيُوبِ مُنْبَسِطْ ... كَذَاكَ مَنْ كَانَ عَارِفًا ذَاكِرْ يَبِيتُ فِي لَيْلِهِ أَخَا فِكَرْ ... فَهْوَ مدى الليل نائم ماهر قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَعْبُدُ بِالْفِكْرَةِ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا﴾ أَيْ يَقُولُونَ: مَا خَلَقْتَهُ عَبَثًا وَهَزْلًا، بَلْ خَلَقْتَهُ دَلِيلًا عَلَى قُدْرَتِكَ وَحِكْمَتِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ الذَّاهِبُ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: أَلَا كل شي ما خلا الله باطل أَيْ زَائِلٌ. وَ "باطِلًا" نُصِبَ لِأَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ مَا خَلَقْتَهَا لِلْبَاطِلِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَيَكُونُ خَلَقَ بِمَعْنَى جَعَلَ. (سُبْحانَكَ) أَسْنَدَ النَّحَّاسُ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ مَعْنَى "سُبْحَانَ اللَّهِ" فَقَالَ: (تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ السُّوءِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "البقرة" [[راج ج ١ ص ٢٧٦.]] معناه مستوفى. و (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أَجِرْنَا مِنْ عَذَابِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ج ٢ ص ٤٣٣.]]. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ أَيْ أَذْلَلْتَهُ وَأَهَنْتَهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَيْ أَهْلَكْتَهُ، وَأَنْشَدَ: أَخْزَى الْإِلَهُ مِنَ الصَّلِيبِ عَبِيدَهُ ... وَاللَّابِسِينَ قَلَانِسَ الرُّهْبَانِ وَقِيلَ: فَضَحْتَهُ وَأَبْعَدْتَهُ، يُقَالُ: أَخْزَاهُ اللَّهُ: أَبْعَدَهُ وَمَقَتَهُ. وَالِاسْمُ الْخِزْيُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: خَزِيَ يَخْزَى خِزْيًا إِذَا وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَصْحَابُ الْوَعِيدِ وَقَالُوا: مَنْ أُدْخِلَ النَّارَ يَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَ مُؤْمِنًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ" فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] [[راجع ج ١٨ ص ٧٩١.]]. وَمَا قَالُوهُ مَرْدُودٌ، لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: "مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ" مَنْ تُخَلِّدْ فِي النَّارِ، قَالَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تُدْخِلُ مَقْلُوبُ تُخَلِّدُ، وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَ أَهْلُ حَرُورَاءَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي قَوْمٍ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، وَلِهَذَا قَالَ: (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أَيِ الْكُفَّارُ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْخِزْيُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْحَيَاءِ، يُقَالُ: خَزِيَ يَخْزَى خِزَايَةً إِذَا اسْتَحْيَا، فَهُوَ خَزْيَانُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ: خِزَايَةٌ أَدْرَكَتْهُ عِنْدَ [[في الديوان: بعد.]] جَوْلَتِهِ ... مِنْ جَانِبِ الْحَبْلِ مَخْلُوطًا بِهَا الْغَضَبُ فَخِزْيُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ اسْتِحْيَاؤُهُمْ فِي دُخُولِ النَّارِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا. وَالْخِزْيُ لِلْكَافِرِينَ هُوَ إِهْلَاكُهُمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَمُوتُونَ، فَافْتَرَقُوا. كَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ويأتي. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ﴾ أَيْ مُحَمَّدًا ﷺ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. دَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ إِذْ قَالُوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ [الجن: ٢ - ١] [[راجع ج ١٩ ص ٦.]]. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا لَقِيَ النَّبِيَّ ﷺ، وَهَذَا صحيح معنى. ولِلْإِيمانِ [[من هـ وج وط.]] مِنْ (أَنْ آمِنُوا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْخَفْضِ، أَيْ بِأَنْ آمِنُوا. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ سَمِعْنَا مُنَادِيًا لِلْإِيمَانِ يُنَادِي، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ [المجادلة: ٨] [[راجع ج ١٧ ص ٢٩٠.]]. وقوله: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها﴾ [الزلزلة: ٥] [[راجع ج ٢٠ ص ١٤٠.]] وقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا﴾ [الأعراف: ٤٣] [[راجع ج ٧ ص ٨٠٢.]] أَيْ إِلَى هَذَا، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ أَجْلٍ، أَيْ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا﴾ تَأْكِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي الدُّعَاءِ. وَمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ، فَإِنَّ الْغَفْرَ وَالْكَفْرَ: السَّتْرُ. (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أَيْ أَبْرَارًا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ في جملتهم. واحدهم وبر وَبَارٌّ وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ، فَكَأَنَّ الْبَرَّ مُتَّسِعٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمُتَّسِعَةٌ لَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ. الثالثة عشرة- قوله تعالى: (رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أَيْ على ألسنة رسلك، مثل "وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" [[راجع ج ٩ ص ٢٤٥.]]. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالزُّهْرِيُّ "رُسْلِكَ" بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنَ اسْتِغْفَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ دُعَاءِ نُوحٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَاسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ ﷺ لِأُمَّتِهِ. (وَلا تُخْزِنا) أَيْ لَا تُعَذِّبْنَا وَلَا تُهْلِكْنَا وَلَا تَفْضَحْنَا، وَلَا تُهِنَّا وَلَا تُبْعِدْنَا وَلَا تَمْقُتْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ). إِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِمْ ﴿رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران: ١٩٤] وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَعَدَ مَنْ آمَنَ بِالْجَنَّةِ، فَسَأَلُوا أَنْ يَكُونُوا ممن وعد بذلك دون الخزي: والعقاب. الثَّانِي- أَنَّهُمْ دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ عَلَى جِهَةِ الْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ، وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: ﴿قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء: ١١٢] [[على قراءة نافع راجع ج ١١ ص ٣٥١.]] وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ. الثَّالِثُ- سَأَلُوا أَنْ يُعْطَوْا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ النَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مُعَجَّلًا، لِأَنَّهَا حِكَايَةٌ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، فَسَأَلُوهُ ذَلِكَ إِعْزَازًا لِلدِّينِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أنس ابن مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزٌ لَهُ رَحْمَةً وَمَنْ وَعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ (. وَالْعَرَبُ تَذُمُّ بِالْمُخَالَفَةِ فِي الْوَعْدِ وَتَمْدَحُ بِذَلِكَ فِي الْوَعِيدِ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ [[هو عامر بن الطفيل، كما في اللسان.]]: وَلَا يَرْهَبُ ابْنُ الْعَمِّ مَا عِشْتُ صَوْلَتِي ... وَلَا أَخْتَفِي [[في هـ وى: أختبي.]] مِنْ خَشْيَةِ الْمُتَهَدِّدِ وَإِنِّي مَتَى [[كذا في جميع الأصول، والذي في اللسان: وإني إن، وفى التاج: وإني وإن.]] أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أَيْ أَجَابَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالُوا يَقُولُونَ رَبَّنَا رَبَّنَا حَتَّى اسْتَجَابَ لَهُمْ. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: مَنْ حَزَبَهُ [[حزبه الامر: إذا نزل به مهم أو أصابه غم.]] أَمْرٌ فَقَالَ خَمْسَ مَرَّاتٍ رَبَّنَا أنجاه لله مِمَّا يَخَافُ وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ. قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ- إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ﴾ [آل عمران: ١٩٤ - ١٩١]. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَنِّي﴾ أَيْ بِأَنِّي. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ "إِنِّي" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ فَقَالَ: إِنِّي. وَرَوَى الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ: ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَدَخَلَتْ "مِنْ" لِلتَّأْكِيدِ، لِأَنَّ قَبْلَهَا حَرْفَ نَفْيٍ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هِيَ لِلتَّفْسِيرِ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، لِأَنَّهَا دَخَلَتْ لِمَعْنًى لَا يَصْلُحُ الْكَلَامُ إِلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا تُحْذَفُ إِذَا كَانَ تَأْكِيدًا لِلْجَحْدِ. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ دِينُكُمْ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الثَّوَابِ وَالْأَحْكَامِ وَالنُّصْرَةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: رِجَالُكُمْ شَكْلُ نِسَائِكُمْ فِي الطَّاعَةِ، وَنِسَاؤُكُمْ شَكْلُ رِجَالِكُمْ فِي الطَّاعَةِ، نَظِيرُهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١] [[راجع ج ٨ ص ٢٠٢.]]. وَيُقَالُ: فُلَانٌ مِنِّي، أَيْ عَلَى مَذْهَبِي وَخُلُقِي. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَالَّذِينَ هاجَرُوا﴾ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ هَجَرُوا أَوْطَانَهُمْ وَسَارُوا إِلَى الْمَدِينَةِ. (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وجل. (قاتَلُوا) أَيْ وَقَاتَلُوا أَعْدَائِي. (وَقُتِلُوا) أَيْ فِي سَبِيلِي. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: "وَقَاتَلُوا وَقُتِّلُوا" عَلَى التَّكْثِيرِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ "وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا" لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارُ قَدْ، أَيْ قُتِلُوا وَقَدْ قَاتَلُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: تَصَابَى وَأَمْسَى عَلَاهُ الْكِبَرْ أَيْ وَقَدْ عَلَاهُ الْكِبَرُ. وَقِيلَ: أَيْ وَقَدْ قَاتَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، تَقُولُ الْعَرَبُ: قَتَلْنَا بَنِي تَمِيمٍ، وَإِنَّمَا قُتِلَ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَإِنْ تُقَاتِلُونَا نُقَتِّلْكُمُ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا" خَفِيفَةً بِغَيْرِ أَلِفٍ. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أَيْ لَأَسْتُرَنَّهَا عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا أُوَبِّخُهُمْ بِهَا وَلَا أُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا. (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَعْنَى "لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" لَأُثِيبَنَّهُمْ ثَوَابًا. الْكِسَائِيُّ: انْتَصَبَ عَلَى الْقَطْعِ. الْفَرَّاءُ: عَلَى التَّفْسِيرِ. (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أَيْ حُسْنُ الْجَزَاءِ، وَهُوَ مَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ [[في ز وهـ ود وج: جزاء.]] جَرَّاءِ عَمَلِهِ، مِنْ ثَابَ يَثُوبُ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ﴾ قِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَالْمُرَادُ الْأُمَّةُ. وَقِيلَ: لِلْجَمِيعِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَهُمْ تَجَائِرُ وَأَمْوَالٌ وَاضْطِرَابٌ فِي الْبِلَادِ، وَقَدْ هَلَكْنَا نَحْنُ مِنَ الْجُوعِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَيْ لَا يَغُرَّنَّكُمْ سَلَامَتُهُمْ بِتَقَلُّبِهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ. (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أَيْ تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ "يَغُرَّنْكَ" سَاكِنَةَ النُّونِ، وَأَنْشَدَ: لَا يَغُرَّنْكَ عِشَاءُ سَاكِنٍ ... قَدْ يوافي بالمنيات السحر وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ﴾ [المؤمن: ٤] [[راجع ج ١٥ ص ٢٨٦.]] وَالْمَتَاعُ: مَا يُعَجَّلُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِأَنَّهُ فَانٍ، وَكُلُّ فَانٍ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيلٌ. وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ الْفِهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ، فلينظر بماذا يَرْجِعُ (. قِيلَ:) يَرْجِعُ) بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ. (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أَيْ بِئْسَ مَا مَهَدُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِكُفْرِهِمْ، وَمَا مَهَدَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّارِ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا كَقَوْلِهِ: ﴿أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨] [[راجع ص ٢٨٦ من هذا الجزء.]] الآية. ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣] [[راجع ج ٧ ص ٣٢٩ وص ٢٣٧.]]. ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ﴾ [المؤمنون: ٥٥] [[راجع ج ١٢ ص ١٣٠.]]. ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٢] [[راجع ج ٧ ص ٣٢٩ وص ٢٣٧.]] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ. مُنْعَمٍ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّعْمَةِ الْخُلُوصُ مِنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَنِعَمُ الْكُفَّارِ. مَشُوبَةٌ بِالْآلَامِ وَالْعُقُوبَاتِ، فَصَارَ كَمَنْ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِهِ حَلَاوَةً مِنْ عَسَلٍ فِيهَا السُّمُّ، فَهُوَ وَإِنِ اسْتَلَذَّ آكِلُهُ لَا يُقَالُ: أَنْعَمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكَ رُوحِهِ. ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ سَيْفُ السُّنَّةِ وَلِسَانُ الْأُمَّةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. قَالُوا: وَأَصْلُ النِّعْمَةِ مِنَ النَّعْمَةِ بِفَتْحِ النُّونِ، وَهِيَ لِينُ الْعَيْشِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ﴾ [الدخان: ٢٧] [[راجع ج ١٦ ص ١٣٨.]]. يُقَالُ: دَقِيقٌ نَاعِمٌ، إِذَا بُولِغَ فِي طَحْنِهِ وَأُجِيدَ سَحْقُهُ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْكُفَّارِ أَنْ يَشْكُرُوهُ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَقَالَ: ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٧٤] [[راجع ج ٧ ص ٣٢٩ وص ٢٣٧.]]. ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٢] [[راجع ج ٢ ص ٢١٥.]] وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى نِعْمَةٍ. وَقَالَ: ﴿وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧] [[راجع ج ١٣ ص ٣١٤.]] وَهَذَا خِطَابٌ لِقَارُونَ. وَقَالَ: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾ [النحل: ١١٢] [[راجع ج ١٠ ص ١٩٣ وص ١٦٦.]] الْآيَةَ. فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ نعمة دنياوية فجحدوها. وقال: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها﴾ [النحل: ٨٣] [[راجع ج ١٠ ص ١٩٣ وص ١٦٦.]] وقال: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [فاطر: ٣] [[راجع ج ١٤ ص ٣٢١.]]. وهذا عام فِي الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ. فَأَمَّا إِذَا قَدَّمَ لِغَيْرِهِ طَعَامًا فِيهِ سُمٌّ فَقَدْ رَفَقَ بِهِ فِي الْحَالِ، إِذْ لَمْ يُجَرِّعْهُ السُّمَّ بَحْتًا، بَلْ دَسَّهُ فِي الْحَلَاوَةِ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنِّعَمُ ضَرْبَانِ: نِعَمُ نَفْعٍ وَنِعَمُ دَفْعٍ، فَنِعَمُ النَّفْعِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ فُنُونِ اللَّذَّاتِ، وَنِعَمُ الدَّفْعِ مَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْآفَاتِ. فَعَلَى هَذَا قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْكُفَّارِ نِعَمَ الدَّفْعِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ مَا زُوِيَ عَنْهُمْ مِنَ الْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ لَمْ يُنْعِمْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةَ دِينِهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ اسْتِدْرَاكٌ بَعْدَ كَلَامٍ تَقَدَّمَ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ، لِأَنَّ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ لَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ كَبِيرُ [[في ج وا: كثير.]] الِانْتِفَاعِ، لَكِنِ الْمُتَّقُونَ لَهُمُ الِانْتِفَاعُ الْكَبِيرُ [[في ج وا: كثير.]] وَالْخُلْدُ الدَّائِمُ. فَمَوْضِعُ "لكِنِ" رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ القعقاع "لكن" بتشديد النون. الموافية عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ نُزُلًا مِثْلُ ثَوَابًا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ يَكُونُ مَصْدَرًا. الْفَرَّاءُ: هُوَ مُفَسِّرٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ "نُزُلًا" بِتَخْفِيفِ الزَّاي اسْتِثْقَالًا لِضَمَّتَيْنِ، وَثَقَّلَهُ الْبَاقُونَ. وَالنُّزُلُ مَا يُهَيَّأُ لِلنَّزِيلِ، وَالنَّزِيلُ الضَّيْفُ. قَالَ الشَّاعِرُ: نَزِيلُ الْقَوْمِ أَعْظَمُهُمْ حُقُوقًا وَحَقُّ اللَّهِ فِي حَقِّ النَّزِيلِ وَالْجَمْعُ الْأَنْزَالُ. وَحَظٌّ نَزِيلٌ: مُجْتَمِعٌ. وَالنُّزُلُ [[النزل. بضم فسكون وبالتحريك.]]: أَيْضًا الرِّيعُ، يُقَالُ، طَعَامٌ النُّزُلِ وَالنُّزْلِ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قُلْتُ: وَلَعَلَّ النُّزُلَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي قِصَّةِ [[من ج وهـ وى ود. وفي ب وا: من حديث.]] الْحَبْرِ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ والسموات؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ) قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: (فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ) قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ (زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ) قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ فَقَالَ: (يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا) قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا) وذكر الحديث. قال أهل اللُّغَةِ: وَالتُّحْفَةُ مَا يُتْحَفُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْفَوَاكِهِ. وَالطُّرَفُ مَحَاسِنُهُ وَمَلَاطِفُهُ، وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي النُّزُلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَزِيَادَةُ الْكَبِدِ: قِطْعَةٌ مِنْهُ كَالْأُصْبُعِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: "نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ" أَيْ ثَوَابًا. وَقِيلَ رِزْقًا. (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أَيْ مِمَّا يَتَقَلَّبُ بِهِ الْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ الآية. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ نَعَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: (قُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمُ النَّجَاشِيِّ)، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَأْمُرُنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى عِلْجٍ مِنْ عُلُوجِ الْحَبَشَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ". قَالَ الضَّحَّاكُ: (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الْقُرْآنُ. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وفي التنزيل: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، [القصص: ٥٤] [[راجع ج ١٣ ص ٢٩٧.]]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ- فَذَكَرَ- رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ثُمَّ أَدْرَكَ النَّبِيَّ ﷺ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٢ ص ٨١.]] الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا عَامٌّ وَالنَّجَاشِيُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ، وهو بالعربية عطية. و (خاشِعِينَ) أَذِلَّةً، وَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضْمَرِ الَّذِي فِي "يُؤْمِنَّ". وَقِيلَ: مِنَ الضَّمِيرِ فِي "إِلَيْهِمْ" أَوْ فِي "إِلَيْكُمْ". وَمَا فِي الْآيَةِ بَيِّنٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ الآية. خَتَمَ تَعَالَى السُّورَةَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ مِنَ الْوُصَاةِ الَّتِي جَمَعَتِ الظُّهُورَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالْفَوْزَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَحَضَّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَنِ الشَّهَوَاتِ، وَالصَّبْرُ الْحَبْسُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" بَيَانُهُ [[راجع ج ٢ ص ١٧٤.]]. وَأَمَرَ بِالْمُصَابَرَةِ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُصَابَرَةُ الْأَعْدَاءِ، قَالَهُ زَيْدُ بن أسلم. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقِيلَ: إِدَامَةُ مُخَالَفَةِ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا فَهِيَ تَدْعُو وَهُوَ يَنْزِعُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْقُرَظِيُّ: صَابِرُوا الْوَعْدَ الَّذِي وُعِدْتُمْ أَيْ لَا تَيْأَسُوا وَانْتَظِرُوا الْفَرَجَ، قَالَ ﷺ: (انْتِظَارُ الْفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ). وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: فَلَمْ أَرَ حَيًّا صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا ... وَلَا كافحوا مثل الذين نكافح قوله "صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا" أَيْ صَابَرُوا الْعَدُوَّ فِي الْحَرْبِ وَلَمْ يَبْدُ مِنْهُمْ جُبْنٌ وَلَا خَوَرٌ. وَالْمُكَافَحَةُ: الْمُوَاجَهَةُ وَالْمُقَابَلَةُ فِي الْحَرْبِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ (وَرابِطُوا) فَقَالَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ: رابطوا أعدائكم بالخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداءكم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: ٦٠] [[راجع ج ٨ ص ٣٦.]] وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كتب أبو عبيدة ابن الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جموعا الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلُ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مَنْزِلِ شِدَّةٍ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ بَعْدَهَا فَرَجًا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحِهِ. وَاحْتَجَّ أَبُو سَلَمَةَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ) ثَلَاثًا، رَوَاهُ مَالِكٌ. قَالَ ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الربط [هُوَ] [[من ب وج وهـ وط.]] الْمُلَازَمَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَصْلُهَا مِنْ رَبْطِ الْخَيْلِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ مُلَازِمٍ لِثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْإِسْلَامِ [[في ب: المسلمين.]] مُرَابِطًا، فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا. وَاللَّفْظُ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّبْطِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ (فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ) إِنَّمَا هُوَ تَشْبِيهٌ بِالرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالرِّبَاطُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهَذَا [[في ب: هكذا.]] كَقَوْلِهِ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ) [[الصرعة بضم ففتح المبالغ في الصراع الذي لا يغلب.]] وَقَوْلِهِ (لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ) إِلَى غير ذلك. قُلْتُ: قَوْلُهُ "وَالرِّبَاطُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ" لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، فَإِنَّ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَثِقَاتُهَا قَدْ قَالَ: الرِّبَاطُ مُلَازَمَةُ الثُّغُورِ، وَمُوَاظَبَةُ الصَّلَاةِ أَيْضًا، فَقَدْ حَصَلَ أَنَّ انْتِظَارَ الصَّلَاةِ رِبَاطٌ لُغَوِيٌّ حَقِيقَةً، كَمَا قَالَ ﷺ. وَأَكْثَرُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الشَّيْبَانِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ: مَاءٌ مُتَرَابِطٌ أَيْ دَائِمٌ لَا يُنْزَحُ [[في الأصول: لا يبرح. والتصويب من اللسان.]]، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَعْدِيَةَ الرِّبَاطِ لُغَةً إِلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَإِنَّ الْمُرَابَطَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْعَقْدُ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى لَا يَنْحَلَّ، فَيَعُودَ إِلَى مَا كَانَ صَبَرَ عَنْهُ، فَيَحْبِسُ الْقَلْبَ عَلَى النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ وَالْجِسْمَ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ. وَمِنْ أَعْظَمِهَا وَأَهَمِّهَا ارْتِبَاطُ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّنْزِيلِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: ٦٠] عَلَى مَا يَأْتِي. وَارْتِبَاطُ النَّفْسِ عَلَى الصَّلَوَاتِ كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَعَلِيٌّ وَلَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- الْمُرَابِطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الَّذِي يَشْخَصُ إِلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ لِيُرَابِطَ فِيهِ مُدَّةً مَا، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ [وَرَوَاهُ] [[كذا في ز وب وج ود وهـ وى وط وابن عطية وفى اوح وداود.]]. وَأَمَّا سُكَّانُ الثُّغُورِ دَائِمًا بِأَهْلِيهِمُ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ وَيَكْتَسِبُونَ هُنَالِكَ، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين. قال ابن عطية. وقال ابن خويز منداد: وَلِلرِّبَاطِ حَالَتَانِ: حَالَةٌ يَكُونُ الثَّغْرُ مَأْمُونًا مَنِيعًا يَجُوزُ سُكْنَاهُ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ جَازَ أَنْ يُرَابِطَ فِيهِ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَلَا يَنْقُلُ إِلَيْهِ الْأَهْلَ وَالْوَلَدَ لِئَلَّا يَظْهَرَ الْعَدُوُّ فَيَسْبِيَ وَيَسْتَرِقَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- جَاءَ فِي فَضْلِ الرِّبَاطِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:) رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ ([[الفتان: الشيطان. ويروى بفتح الفاء وضمها. فمن رواه بالفتح فهو واحد، لأنه يفتن الناس عن الدين. ومن رواه بالضم فهو جمع فاتن، أي يعاون أحدهما الأخر على الذين يضلون الناس عن الحق ويفتنونهم.]]. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ في سننه عن فضالة ابن عُبَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ (. وَفِي هَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّبَاطَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَبْقَى ثَوَابُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ [[هذه رواية مسلم كما في كتاب الوصية. وكذا في ز وط وى وج وهـ. وفى رواية: (ابن آدم) والحديث رواه الترمذي وأبو داود وأبو داود والنسائي بلفظ: إلا من ثلاث صدقة الحديث، والبخاري في الأدب المفرد]] انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ الْجَارِيَةَ وَالْعِلْمَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ وَالْوَلَدَ الصَّالِحَ الذي يَدْعُو لِأَبَوَيْهِ يَنْقَطِعُ ذَلِكَ بِنَفَادِ الصَّدَقَاتِ وَذَهَابِ الْعِلْمِ وَمَوْتِ الْوَلَدِ. وَالرِّبَاطُ يُضَاعَفُ أَجْرُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنَّمَاءِ إِلَّا الْمُضَاعَفَةُ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى سَبَبٍ فَتَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِهِ، بَلْ هِيَ فَضْلٌ دَائِمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا لِأَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا لَا يُتَمَكَّنُ مِنْهَا إِلَّا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَدُوِّ وَالتَّحَرُّزِ مِنْهُ بِحِرَاسَةِ بَيْضَةِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا الْعَمَلُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ ثَوَابُهُ هُوَ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَجْرُ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ مِنَ الْفَتَّانِ وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنَ الْفَزَعِ (. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قَيْدٌ ثَانٍ وَهُوَ الْمَوْتُ حَالَةَ الرِّبَاطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: (مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ كَأَلْفِ لَيْلَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا). وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: (لَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا وَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ وأعظم أجرا- أَرَاهُ قَالَ: مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ سَنَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا فَإِنْ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِهِ سَالِمًا لم تكتب عليه سينه أَلْفَ سَنَةٍ وَتُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَيُجْرَى لَهُ أَجْرُ الرِّبَاطِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [[رواية ابن ماجة.]] . وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ رِبَاطَ يَوْمٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يُحَصِّلُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ مُرَابِطًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ رَجُلٍ وَقِيَامِهِ فِي أَهْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ السَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةِ يَوْمٍ [وَسِتُّونَ [[في ج.]] يَوْمًا] وَالْيَوْمُ كَأَلْفِ سَنَةٍ). قُلْتُ: وَجَاءَ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ رِبَاطٌ، فَقَدْ يَحْصُلُ لِمُنْتَظِرِ الصَّلَوَاتِ ذَلِكَ الْفَضْلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ ح [[جرت عادة المحدثين أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد "ح" وهى حاء مهملة مفردة. والمختار أنها مأخوذة من التحول لتحوله من إسناد إلى إسناد، وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها: "ح" ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حال بين الشيئين إذا حجز، لكونها حالت بين الإسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء، وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز إلى قوله: الحديث. وأن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث. ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرا وهى كثيرة في صحيح مسلم قليلة في صحيح البخاري. (راجع مقدمة النوري على صحيح مسلم).]] وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَزْدِيِّ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ الْمَغْرِبَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ فَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يَثُوبَ [[في ج: يتوجه.]] النَّاسُ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَجَاءَ وَقَدْ حَضَرَهُ النَّاسُ رَافِعًا أُصْبُعَهُ وَقَدْ عَقَدَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ إِلَى السَّمَاءِ فَحَسَرَ ثَوْبَهُ عَنْ رُكْبَتَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: (أَبْشِرُوا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ يَا مَلَائِكَتِي انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلَاءِ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى (. وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عبد الله: أن نوفا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو اجْتَمَعَا فَحَدَّثَ نَوْفٌ عَنِ التَّوْرَاةِ وَحَدَّثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي لم تؤمروا بِالْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ تَقْوَى. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لِتَكُونُوا عَلَى رَجَاءٍ مِنَ الْفَلَاحِ. وَقِيلَ: لَعَلَّ بِمَعْنَى لِكَيْ. وَالْفَلَاحُ الْبَقَاءُ، وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلُّهُ فِي "الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى [[راجع ج ١ ص ١٦٢، ١٨٢، ٢٢٧.]]، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. نُجِزَ تَفْسِيرُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ (جَامِعِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ) بحمد الله وعونه. صححه أبو إسحاق إبراهيم الطفيش تَمَّ الْجُزْءُ الرَّابِعُ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ يَتْلُوهُ إن شاء تعالى الجزء الخامس، وأقوله:" سورة النساء بعون الله وجميل توفيقه قد تم طبع الجزء الرابع من كتاب (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي الجزء الخامس
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب