الباحث القرآني

﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ﴾ قِيلَ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ كانُوا يَضْرِبُونَ في الأرْضِ فَيُصِيبُونَ الأمْوالَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ أيْضًا: هم أهْلُ مَكَّةَ. ورُوِيَ أنَّ ناسًا مِنَ المُؤْمِنِينَ كانُوا يَرَوْنَ ما كانُوا فِيهِ مِنَ الخِصْبِ والرَّخاءِ ولِينِ العَيْشِ، فَيَقُولُونَ: إنَّ أعْداءَ اللَّهِ فِيما نَرى مِنَ الخَيْرِ وقَدْ هَلَكْنا مِنَ الجُوعِ والجَهْدِ. وقالَ مُقاتِلٌ: في مُشْرِكِي العَرَبِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَفْظٌ عامٌّ، والكافُ لِلْخِطابِ. فَقِيلَ: لِكُلِّ سامِعٍ. وقِيلَ: هو خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، والمُرادُ أُمَّتُهُ. قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقالَ: نَزَلَتْ ﴿لا يَغُرُّنَّكَ﴾ في هَذِهِ الآيَةِ - مَنزِلَةَ (لا تَظُنَّ أنَّ حالَ الكُفّارِ حَسَنَةٌ فَتَهْتَمَّ لِذَلِكَ)، وذَلِكَ أنَّ المُغْتَرَّ فارِحٌ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَغْتَرُّ بِهِ. فالكُفّارُ مُغْتَرُّونَ بِتَقَلُّبِهِمْ، والمُؤْمِنُونَ مُهْتَمُّونَ بِهِ. لَكِنَّهُ رُبَّما يَقَعُ في نَفْسِ مُؤْمِنٍ أنَّ هَذا الإمْلاءَ لِلْكُفّارِ إنَّما هو خَيْرٌ لَهم، فَيَجِيءُ هَذا جُنُوحًا إلى حالِهِمْ، ونَوْعًا مِنَ الِاغْتِرارِ، ولِذَلِكَ حَسُنَتْ ﴿لا يَغُرَّنَّكَ﴾ . ونَظِيرُهُ قَوْلُ عُمَرَ لِحَفْصَةَ: (لا يَغُرَّنَّكِ أنْ كانَتْ جارَتُكِ أوْضَأ مِنكِ وأحَبَّ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ) المَعْنى: لا تَغْتَرِّي بِما يَتِمُّ لِتِلْكَ مِنَ الإدْلالِ فَتَقَعِي فِيهِ فَيُطَلِّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لا يَغُرَّنَّكَ الخِطابُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أوْ لِكُلِّ أحَدٍ. أيْ: لا تَنْظُرْ إلى ما هم عَلَيْهِ مِن سَعَةِ الرِّزْقِ، والمُضْطَرِبِ، ودَرْكِ العاجِلِ، وإصابَةِ حُظُوظِ الدُّنْيا، ولا تَغْتَرِرْ بِظاهِرِ ما تَرى مِن تَبَسُّطِهِمْ في الأرْضِ وتَصَرُّفِهِمْ في البِلادِ. فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ جازَ أنْ يَغْتَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ حَتّى يُنْهى عَنْهُ وعَنِ الِاغْتِرارِ بِهِ ؟ قُلْتُ: فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما أنَّ مَدَرَةَ القَوْمِ ومُقَدِّمَهم يُخاطَبُ بِشَيْءٍ فَيَقُومُ خِطابُهُ مَقامَ خِطابِهِمْ جَمِيعًا، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا يَغُرَّنَّكم. والثّانِي أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ غَيْرَ مَغْرُورٍ بِحالِهِمْ، فَأكَّدَ عَلَيْهِ ما كانَ وثَبَتَ عَلى التِزامِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَكُنْ مَعَ الكافِرِينَ﴾ [هود: ٤٢] (p-١٤٧)﴿ولا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ١٤] ﴿فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ﴾ [القلم: ٨] وهَذا في النَّهْيِ نَظِيرُ قَوْلِهِ في الأمْرِ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾ [النساء: ١٣٦] وقَدْ جُعِلَ النَّهْيُ في الظّاهِرِ لِلتَّقَلُّبِ، وهو في المَعْنى لِلْمُخاطَبِ. وهَذا مِن تَنْزِيلِ السَّبَبِ مَنزِلَةَ المُسَبَّبِ؛ لِأنَّ التَّقَلُّبَ لَوْ غَرَّهُ لاغْتَرَّ بِهِ، فَمَنَعَ السَّبَبَ لِيَمْتَنِعَ المُسَبَّبَ، انْتَهى كَلامُهُ. ومُلَخَّصُ الوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُما: أنْ يَكُونَ الخِطابُ لَهُ والمُرادُ أُمَّتُهُ، أوْ لَهُ عَلى جِهَةِ التَّأْكِيدِ والتَّنْبِيهِ، وإنْ كانَ مَعْصُومًا مِنَ الوُقُوعِ فِيهِ كَما قِيلَ: ؎قَدْ يُهَزُّ الحُسامُ وهْوَ حُسامٌ ويُجَبُّ الجَوادُ وهْوَ جَوادُ وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ ويَعْقُوبُ: ﴿لا يَغُرَّنْكَ﴾ و(لا يَصُدَّنْكَ) و(لا يَصُدَّنْكم) و(لا يَغُرَّنْكم) وشِبْهَهُ بِالنُّونِ الخَفِيفَةِ. وتَقَلُّبُهم: هو تَصَرُّفُهم في التِّجاراتِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والفَرّاءُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ، والزَّجّاجُ. أوْ ما يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ، ومُقاتِلٌ. أوْ تَصَرُّفُهم غَيْرَ مَأْخُوذِينَ بِذُنُوبِهِمْ، قالَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ. ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ﴾ أيْ ذَلِكَ التَّقَلُّبُ والتَّبَسُّطِ شَيْءٌ قَلِيلٌ مُتِّعُوا بِهِ، ثُمَّ مَأْواهم جَهَنَّمُ وبِئْسَ المِهادُ. وقِلَّتُهُ بِاعْتِبارِ انْقِضائِهِ وزَوالِهِ، ورُوِيَ: (ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكم إصْبَعَهُ في اليَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. ورُوِيَ: (ما مَثَلِي ومَثَلُ الدُّنْيا إلّا كَراكِبٍ قالَ في ظِلِّ شَجَرَةٍ في يَوْمٍ حارٍّ ثُمَّ راحَ وتَرَكَها) أوْ بِاعْتِبارِ ما فاتَهم مِن نَعِيمِ الآخِرَةِ، أوْ بِاعْتِبارِ ما أعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الثَّوابِ. ﴿ثُمَّ مَأْواهم جَهَنَّمُ﴾ ثُمَّ المَكانُ الَّذِي يَأْوُونَ إلَيْهِ إنَّما هو جَهَنَّمُ، وعَبَّرَ بِالمَأْوى إشْعارًا بِانْتِقالِهِمْ عَنِ الأماكِنِ الَّتِي تَقَلَّبُوا فِيها، وكَأنَّ البِلادَ الَّتِي تَقَلَّبُوا فِيها إنَّما كانَتْ لَهم أماكِنَ انْتِقالٍ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ، لا قَرارَ لَهم ولا خُلُودَ. ثُمَّ المَأْوى الَّذِي يَأْوُونَ إلَيْهِ ويَسْتَقِرُّونَ فِيهِ هو جَهَنَّمُ. ﴿وبِئْسَ المِهادُ﴾ أيْ وبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ. وقالَ الحُطَيْئَةُ: ؎أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثُمَّ آوِي ∗∗∗ إلى بَيْتٍ قَعِيدَتُهُ لَكاعِ ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهم لَهم جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها﴾ لَمّا تَضَمَّنَ ما تَقَدَّمَ أنَّ ذَلِكَ التَّقَلُّبَ والتَّصَرُّفَ في البِلادِ هو مَتاعٌ قَلِيلٌ، وأنَّهم يَأْوُونَ بَعْدُ إلى جَهَنَّمَ، فَدَلَّ عَلى قِلَّةِ ما مُتِّعُوا بِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مُنْقَضٍ بِانْقِضاءِ حَياتِهِمْ، ودَلَّ عَلى اسْتِقْرارِهِمْ في النّارِ، اسْتَدْرَكَ بِـ (لَكِنِ) - الإخْبارَ عَنِ المُتَّقِينَ بِمُقابِلِ ما أخْبَرَ بِهِ عَنِ الكافِرِينَ، وذَلِكَ شَيْئانِ: أحَدُهُما: مَكانُ اسْتِقْرارٍ وهي الجَنّاتُ، والثّانِي: ذِكْرُ الخُلُودِ فِيها وهو الإقامَةُ دائِمًا والتَّمَتُّعُ بِنَعِيمِها سَرْمَدًا. فَقابَلَ جَهَنَّمَ بِالجَنّاتِ، وقابَلَ قِلَّةَ مَتاعِهِمْ بِالخُلُودِ الَّذِي هو الدَّيْمُومَةُ في النَّعِيمِ، فَوَقَعَتْ (لَكِنْ) هُنا أحْسَنَ مَوْقِعٍ، لِأنَّهُ آلَ مَعْنى الجُمْلَتَيْنِ إلى تَكْذِيبِ الكُفّارِ وإلى تَنْعِيمِ المُتَّقِينَ، فَهي واقِعَةٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (لَكِنْ) خَفِيفَةَ النُّونِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ بِالتَّشْدِيدِ، ولَمْ يَظْهَرْ لَها عَمَلٌ؛ لِأنَّ اسْمَها مَبْنِيٌّ. ﴿نُزُلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ النُّزُلُ ما يُعَدُّ لِلنّازِلِ مِنَ الضِّيافَةِ والقَرى. ويَجُوزُ تَسْكِينُ زايِهِ، وبِهِ قَرَأ الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، ومَسْلَمَةُ بْنُ مُحارِبٍ، والأعْمَشُ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎وكُنّا إذا الجَبّارُ بِالجَيْشِ خافَنا ∗∗∗ جَعَلْنا القَنا والمُرْهَفاتِ لَهُ نُزْلا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: النُّزُلُ الثَّوابُ، وهي كَقَوْلِهِ: ﴿ثَوابًا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٩٥] وقالَ ابْنُ فارِسٍ: النُّزُلُ ما يُهَيَّأُ لِلنَّزِيلِ، والنَّزِيلُ الضَّيْفُ. وقِيلَ: النُّزُلُ الرِّزْقُ وما يُتَغَذّى بِهِ. ومِنهُ: ﴿فَنُزُلٌ مِن حَمِيمٍ﴾ [الواقعة: ٩٣] أيْ فَغِذاؤُهُ. ويُقالُ: أقَمْتُ لِلْقَوْمِ نُزُلَهم أيْ ما يَصْلُحُ أنْ يُنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الغِذاءِ، وجَمْعُهُ أنْزالٌ. وقالَ الهَرَوِيُّ: الأنْزالُ الَّتِي سُوِّيَتْ، ونُزِلَ عَلَيْها. ومَعْنى ﴿مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾: أيْ لا مِن عِنْدِ غَيْرِهِ، وسَمّاهُ نُزُلًا لِأنَّهُ ارْتَفَعَ عَنْهم تَكالِيفُ السَّعْيِ والكَسْبِ، فَهو شَيْءٌ مُهَيَّأٌ يُهَيَّأُ لَهم لا تَعَبَ عَلَيْهِمْ في تَحْصِيلِهِ هُناكَ، ولا مَشَقَّةَ. كالطَّعامِ المُهَيَّأِ لِلضَّيْفِ لَمْ يَتْعَبْ في تَحْصِيلِهِ، ولا في تَسْوِيَتِهِ ومُعالَجَتِهِ. وانْتِصابُ (نُزُلًا) قالُوا: إمّا عَلى الحالِ مِن (جَنّاتٍ) لِتَخَصُّصِها بِالوَصْفِ، والعامِلُ فِيها (p-١٤٨)العامِلُ في (لَهم) . وإمّا بِإضْمارِ فِعْلٍ، أيْ: جَعَلَها نُزُلًا. وإمّا عَلى المَصْدَرِ المُؤَكَّدِ فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَكْرِمَةً، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: رِزْقًا أوْ عَطاءً. وقالَ الفَرّاءُ: انْتَصَبَ عَلى التَّفْسِيرِ، كَما تَقُولُ: هو لَكَ هِبَةً وصَدَقَةً انْتَهى. وهَذا القَوْلُ راجِعٌ إلى الحالِ. ﴿وما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأبْرارِ﴾ ظاهِرُهُ حَوالَةُ الصِّلَةِ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿نُزُلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ . والمَعْنى: أنَّ الَّذِي أعَدَّهُ اللَّهُ لِلْأبْرارِ في الآخِرَةِ خَيْرٌ لَهم، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُفَضَّلُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأبْرارِ، أيْ: خَيْرٌ لَهم مِمّا هم فِيهِ في الدُّنْيا، وإلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وجاءَ (لَمَوْضِعُ سَوْطٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فِيها) ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلى الكُفّارِ، أيْ: خَيْرٌ لَهم مِمّا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الكُفّارُ مِنَ المَتاعِ الزّائِلِ. وقِيلَ: (خَيْرٌ) هُنا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، كَما أنَّها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أصْحابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان: ٢٤] والأظْهَرُ ما قَدَّمْناهُ. و﴿لِلْأبْرارِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ (خَيْرٌ)، والأبْرارُ هُمُ المُتَّقُونَ الَّذِينَ أخْبَرَ عَنْهم بِأنَّ لَهم جَنّاتٍ. وقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ. أيِ: الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ لِلْأبْرارِ خَيْرٌ لَهم، وهَذا ذُهُولٌ عَنْ قاعِدَةِ العَرَبِيَّةِ مِن أنَّ المَجْرُورَ إذْ ذاكَ يَتَعَلَّقُ بِما تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ الواقِعُ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، فَيَكُونُ المَجْرُورُ داخِلًا في حَيِّزِ الصِّلَةِ، ولا يُخْبَرُ عَنِ المَوْصُولِ إلّا بَعْدَ اسْتِيفائِهِ صِلَتَهُ ومُتَعَلَّقاتِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب