الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ﴾ ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهم جَهَنَّمُ وبِئْسَ المِهادُ﴾ ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهم لَهم جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلا مِن عِنْدِ اللهِ وما عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لِلأبْرارِ﴾ نَزَلَتْ "يَغُرَّنَّكَ" في هَذِهِ الآيَةِ، مَنزِلَةَ: لا تَظُنَّ أنَّ حالَ الكُفّارِ حَسَنَةٌ فَتَهْتَمَّ لِذَلِكَ، وذَلِكَ أنَّ المُغْتَرَّ فارِحٌ بِالشَيْءِ الَّذِي يَغْتَرُّ بِهِ، فالكُفّارُ مُغْتَرُّونَ بِتَقَلُّبِهِمْ، والمُؤْمِنُونَ مُهْتَمُّونَ بِهِ، لَكِنَّهُ رُبَّما يَقَعُ في نَفْسِ مُؤْمِنٍ أنَّ هَذا الإمْلاءَ لِلْكُفّارِ إنَّما هو لِخَيْرٍ لَهُمْ، فَيَجِيءُ هَذا جُنُوحًا إلى حالِهِمْ ونَوْعًا مِنَ الاغْتِرارِ فَلِذَلِكَ حَسُنَتْ "لا يَغُرَّنَّكَ". ونَظِيرُهُ قَوْلُ عُمَرَ لِحَفْصَةَ: "لا يَغُرَّنَّكِ أنْ كانَتْ جارَتُكِ أوضَأ مِنكِ وأحَبَّ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ. المَعْنى، لا تَغْتَرِّي بِما يَتِمُّ لِتِلْكَ مِنَ الإدْلالِ فَتَقَعِي فِيهِ فَيُطَلِّقُكِ النَبِيُّ ﷺ. والخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، والمُرادُ أُمَّتُهُ، ولِلْكُفّارِ في ذَلِكَ حَظٌّ، أيْ: لا يَغُرَّنَّهم تَقَلُّبُهم. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ ويَعْقُوبُ: "لا يَغُرَّنْكَ" بِسُكُونِ النُونِ خَفِيفَةً، وكَذَلِكَ (p-٤٥٤)"لا يَصُدَّنْكَ" و"لا يَصُدَّنْكُمْ" و"لا يَضُرَّنْكُمْ". وشَبَهَهُ. والتَقَلُّبُ: التَصَرُّفُ في التِجاراتِ والأرْباحِ والحُرُوبِ وسائِرِ الآمالِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عن قِلَّةِ ذَلِكَ المَتاعِ، لِأنَّهُ مُنْقَضٍ صائِرٌ إلى ذُلٍّ وقِلٍّ وعَذابٍ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ: "لَكِنَّ الَّذِينَ" بِشَدِّ النُونِ، وعَلى أنَّ "الَّذِينَ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ اسْمٌ لِـ "لَكِنَّ". و"نُزُلًا": مَعْناهُ تَكْرِمَةً ونَصْبُهُ عَلى المَصْدَرِ المُؤَكِّدِ. وقَرَأ الحَسَنُ: "نُزْلًا" ساكِنَةَ الزايِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلأبْرارِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: خَيْرٌ مِمّا هَؤُلاءِ فِيهِ مِنَ التَقَلُّبِ والتَنَعُّمِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: خَيْرٌ مِمّا هم فِيهِ في الدُنْيا. وإلى هَذا ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَإنَّهُ قالَ: ما مِن مُؤْمِنٍ ولا كافِرٍ إلّا والمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ، أمّا الكافِرُ فَلِئَلّا يَزْدادَ إثْمًا، وأمّا المُؤْمِنُ فَلِأنَّ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأبْرارِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ورُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "الدُنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ وجَنَّةُ الكافِرِ".» فَقالَ القاضِي ابْنُ الطَيِّبِ: هَذا إنَّما هو بِالإضافَةِ إلى ما يَصِيرُ إلَيْهِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما في الآخِرَةِ، فالدُنْيا عَلى المُؤْمِنِ المُنَعَّمِ سِجْنٌ بِالإضافَةِ إلى الجَنَّةِ، والدُنْيا لِلْكافِرِ الفَقِيرِ المُضَيَّقِ عَلَيْهِ في حالِهِ وصِحَّتِهِ جَنَّةٌ بِالإضافَةِ إلى جَهَنَّمَ. وقِيلَ: المَعْنى أنَّها سِجْنُ المُؤْمِنِ لِأنَّها مَوْضِعُ تَبِعَةٍ في الطاعاتِ وصَوْمِهِ وقِيامِهِ، فَهو فِيها كالمُعْنَتِ المُنَكَّلِ، ويَنْتَظِرُ الثَوابَ في الأُخْرى الَّتِي هي جَنَّتُهُ؛ والدُنْيا جَنَّةُ الكافِرِ لِأنَّها مَوْضِعُ ثَوابِهِ عَلى ما عَسى أنْ يَعْمَلَ مِن خَيْرٍ، ولَيْسَ يَنْتَظِرُ في الآخِرَةِ ثَوابًا، فَهَذِهِ جَنَّتُهُ، وهَذا القَوْلُ عِنْدِي كالتَفْسِيرِ والشَرْحِ لِلْأوَّلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب