الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾ هَذَا مَثَلٌ لِمَنْ يَتَعَزَّزُ بِالدُّنْيَا وَيَسْتَنْكِفُ عَنْ مُجَالَسَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ". وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَتَعْيِينِهِمَا، فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي أَخَوَيْنِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَخْزُومِيَّيْنِ، أَحَدُهُمَا مُؤْمِنٌ وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، زَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ قَبْلَ النَّبِيِّ ﷺ. وَالْآخَرُ كَافِرٌ وَهُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَهُمَا الْأَخَوَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ "الصَّافَّاتِ" فِي قَوْلِهِ" قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [[راجع ج ١٥ ص ٨١ فما بعد.]] "، وَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ آلَافِ دينار، فأنفق أحدهما مال فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَلَبَ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا فَقَالَ مَا قَالَ ... ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ ﷺ وَأَهْلِ مَكَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ لِجَمِيعِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَجَمِيعِ مَنْ كَفَرَ. وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَأَصْحَابِهِ مَعَ سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَأَصْحَابِهِ، شَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِرَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنٌ وَاسْمُهُ يَهُوذَا، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمُهُ تمليخا. وَالْآخَرُ كَافِرٌ وَاسْمُهُ قَرْطُوشُ. وَهُمَا اللَّذَانِ وَصَفَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ. وَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ قَالَ: اسْمُ الْخَيِّرِ مِنْهُمَا تمليخا، وَالْآخَرُ قَرْطُوشُ، وَأَنَّهُمَا كَانَا شَرِيكَيْنِ ثُمَّ اقْتَسَمَا الْمَالَ فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَى الْمُؤْمِنُ مِنْهُمَا عَبِيدًا بِأَلْفٍ وَأَعْتَقَهُمْ، وَبِالْأَلْفِ الثَّانِيَةِ ثِيَابًا فَكَسَا الْعُرَاةَ، وَبِالْأَلْفِ الثَّالِثَةِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ الْجُوَّعَ، وَبَنَى أَيْضًا مَسَاجِدَ، وَفَعَلَ خَيْرًا. وَأَمَّا الْآخَرُ فَنَكَحَ بِمَالِهِ نِسَاءً ذَوَاتِ يَسَارٍ، وَاشْتَرَى دَوَابَّ وَبَقَرًا فَاسْتَنْتَجَهَا فَنَمَتْ لَهُ نَمَاءً مُفْرِطًا، وَاتَّجَرَ بِبَاقِيهَا فَرَبِحَ حَتَّى فَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ غِنًى، وَأَدْرَكَتِ الْأَوَّلَ الْحَاجَةُ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِمَ [[في ج وى: يستأجر.]] نَفْسَهُ فِي جَنَّةٍ يَخْدِمَهَا فَقَالَ: لَوْ ذَهَبْتُ لِشَرِيكِي وَصَاحِبِي فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَنِي فِي بَعْضِ جَنَّاتِهِ رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَصْلَحَ بِي فَجَاءَهُ فَلَمْ يَكَدْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ غِلَظِ الْحُجَّابِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَعَرَفَهُ وَسَأَلَهُ حَاجَتَهُ قَالَ لَهُ: أَلَمْ أَكُنْ قَاسَمْتُكَ الْمَالَ نِصْفَيْنِ! فَمَا صَنَعْتَ بِمَالِكَ؟. قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَا هو خير منه وأبقى. فقال. أينك لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَمَا أَرَاكَ إِلَّا سَفِيهًا، وَمَا جَزَاؤُكَ عِنْدِي عَلَى سفاهتك إلا الحرمان، أو ما تَرَى مَا صَنَعْتُ أَنَا بِمَالِي حَتَّى آلَ إِلَى مَا تَرَاهُ مِنَ الثَّرْوَةِ وَحُسْنِ الْحَالِ، وَذَلِكَ أَنِّي كَسَبْتُ وَسَفِهْتَ أَنْتَ، اخْرُجْ عَنِّي. ثُمَّ كَانَ مِنْ قِصَّةِ هَذَا الْغَنِيِّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِثَمَرِهِ وَذَهَابِهَا أَصْلًا بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْحُسْبَانِ. وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. قَالَ عَطَاءٌ: كَانَا شَرِيكَيْنِ لَهُمَا ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِينَارٍ. وَقِيلَ: وَرِثَاهُ مِنْ أَبِيهِمَا وَكَانَا أَخَوَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا أَرْضًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا قَدِ اشْتَرَى أَرْضًا بِأَلْفِ دِينَارٍ وَإِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ أَرْضًا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَهُ بَنَى دَارًا بِأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا بَنَى دَارًا بِأَلْفِ دِينَارٍ وَإِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق [بألف [[من ج وى]] دينار [، بِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ وَإِنِّي أَخْطُبُ إِلَيْكَ مِنْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ. ثُمَّ اشْتَرَى خَدَمًا وَمَتَاعًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَإِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ خَدَمًا وَمَتَاعًا مِنَ الْجَنَّةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ. ثُمَّ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ فَقَالَ: لَعَلَّ صَاحِبِي يَنَالُنِي مَعْرُوفُهُ فَأَتَاهُ فَقَالَ: ما فعل ما لك؟ فَأَخْبَرَهُ قِصَّتَهُ فَقَالَ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكَ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْتَ تَعْبُدُ إِلَهَ السَّمَاءِ، وَأَنَا لَا أَعْبُدُ إِلَّا صَنَمًا، فَقَالَ صَاحِبُهُ: وَاللَّهِ لَأَعِظَنَّهُ، فَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ وَخَوَّفَهُ. فَقَالَ: سِرْ بِنَا نَصْطَدِ السَّمَكَ، فَمَنْ صَادَ أَكْثَرَ فَهُوَ عَلَى حَقٍّ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي إِنَّ الدُّنْيَا أَحْقَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهَا ثَوَابًا لِمُحْسِنٍ أَوْ عِقَابًا لِكَافِرٍ. قَالَ: فَأَكْرَهَهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَابْتَلَاهُمَا اللَّهُ، فَجَعَلَ الْكَافِرُ يَرْمِي شَبَكَتَهُ وَيُسَمِّي بِاسْمِ صَنَمِهِ، فَتَطْلُعُ مُتَدَفِّقَةً سَمَكًا. وَجَعَلَ الْمُؤْمِنُ يَرْمِي شَبَكَتَهُ وَيُسَمِّي بِاسْمِ اللَّهِ فَلَا يطلع له فيها شي، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَرَى أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا نَصِيبًا وَمَنْزِلَةً وَنَفَرًا، كَذَلِكَ أَكُونُ أَفْضَلَ مِنْكَ فِي الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ بِزَعْمِكَ حَقًّا. قَالَ: فَضَجَّ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِمَا، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ أَنْ يَأْخُذَهُ فَيَذْهَبَ بِهِ إِلَى الْجِنَانِ فَيُرِيَهُ مَنَازِلَ الْمُؤْمِنِ فِيهَا، فَلَمَّا رَأَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ قَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَضُرُّهُ مَا نَالَهُ مِنَ الدُّنْيَا بَعْدَ مَا يَكُونُ مَصِيرُهُ إِلَى هَذَا، وَأَرَاهُ مَنَازِلَ الْكَافِرِ فِي جَهَنَّمَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَنْفَعُهُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَصِيرُهُ إِلَى هَذَا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَفَّى الْمُؤْمِنَ وَأَهْلَكَ الْكَافِرَ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُؤْمِنُ فِي الْجَنَّةِ وَرَأَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَتَسَاءَلُونَ، فَقَالَ: "إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ." يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [[راجع ج ١٥ ص ٨١ فما بعد.]] الْآيَةَ، فَنَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ إِلَى جَهَنَّمَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ، فَنَزَلَتْ "وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا". بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الْأَخَوَيْنِ فِي الدُّنْيَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَبَيَّنَ حَالَهُمَا فِي الْآخِرَةِ فِي سُورَةِ "الصَّافَّاتِ" فِي قول "إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ"- إِلَى قَوْلِهِ- "لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَاتِبُ فِي كِتَابِهِ فِي عَجَائِبَ الْبِلَادِ أَنَّ بُحَيْرَةَ تِنِّيسَ كَانَتْ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ، وَكَانَتَا لِأَخَوَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنَ الْآخَرِ فَأَنْفَقَ فِي طاعة الله حتى غيره الْآخَرُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا الْمُحَاوَرَةُ فَغَرَّقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي لَيْلَةٍ، وَإِيَّاهَا عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ بِخَبَرٍ عَنْ حَالٍ مُتَقَدِّمَةٍ، لِتَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا وَتَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ، وَجَعَلَهُ زَجْرًا وَإِنْذَارًا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ﴾ أَيْ أَطَفْنَاهُمَا مِنْ جَوَانِبِهِمَا بِنَخْلٍ. وَالْحِفَافُ الْجَانِبُ، وَجَمْعُهُ أَحِفَّةٌ، وَيُقَالُ: حَفَّ الْقَوْمُ بِفُلَانٍ يَحُفُّونَ حَفًّا، أَيْ طَافُوا بِهِ، وَمِنْهُ" حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [[راجع ج ١٥ ص ٨٤ ٢ فما بعد.]] " (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) أَيْ جَعَلْنَا حَوْلَ الْأَعْنَابِ النَّخْلَ، وَوَسَطَ الْأَعْنَابِ الزَّرْعَ. (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ) أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ، (آتَتْ أُكُلَها) تَامًّا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ آتنا. وَاخْتُلِفَ فِي لَفْظِ "كِلْتَا وَكِلَا" هَلْ هُوَ مُفْرَدٌ أَوْ مُثَنًّى، فَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: هُوَ مُفْرَدٌ، لِأَنَّ كِلَا وَكِلْتَا فِي تَوْكِيدِ الِاثْنَيْنِ نَظِيرُ "كُلٍّ" فِي الْمَجْمُوعِ، وَهُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ غَيْرُ مُثَنًّى، فَإِذَا وَلِيَ [[كذا في الأصول والصحاح للجوهري وقد نقله عنه صاحب اللسان. وكان الاولى أنى قال: "فإذا وليه اسم ظاهر ... ".]] اسْمًا ظَاهِرًا كَانَ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، تَقُولُ: رَأَيْتُ كِلَا الرَّجُلَيْنِ وَجَاءَنِي كِلَا الرَّجُلَيْنِ وَمَرَرْتُ بِكِلَا الرَّجُلَيْنِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِمُضْمَرٍ قُلِبَتِ الْأَلِفُ يَاءً فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ، تَقُولُ: رَأَيْتُ كِلَيْهِمَا وَمَرَرْتُ بِكِلَيْهِمَا، كَمَا تَقُولُ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مُثَنًّى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كُلٍّ فَخُفِّفَتِ اللَّامُ وَزِيدَتِ الْأَلِفُ لِلتَّثْنِيَةِ. وَكَذَلِكَ كِلْتَا لِلْمُؤَنَّثِ، وَلَا يَكُونَانِ إِلَّا مُضَافَيْنِ وَلَا يُتَكَلَّمُ بِوَاحِدٍ، وَلَوْ تُكَلِّمَ بِهِ لَقِيلَ: كِلْ وَكِلْتَ وَكِلَانِ وَكِلْتَانِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: فِي كِلْتَ رِجْلَيْهَا سُلَامَى [[السلامي كحبارى: عظام الأصابع في اليد والقدم.]] وَاحِدَهْ ... كِلْتَاهُمَا مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ أَرَادَ فِي إِحْدَى رِجْلَيْهَا فَأَفْرَدَ. وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُثَنًّى لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَلِفُهُ فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ يَاءٌ مَعَ الِاسْمِ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى "كِلَا" مُخَالِفٌ لِمَعْنَى "كُلِّ" لِأَنَّ "كِلَا" لِلْإِحَاطَةِ و "كلا" يدل على شي مخصوص، وأما هذا الشاعر فإنما حَذَفَ الْأَلِفَ لِلضَّرُورَةِ وَقَدَّرَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَمَا يَكُونُ ضَرُورَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً، فَثَبَتَ أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ كَمِعًى، إِلَّا أَنَّهُ وُضِعَ لِيَدُلَّ عَلَى التَّثْنِيَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ "نَحْنُ" اسْمٌ مُفْرَدٌ يَدُلُّ عَلَى اثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرٍ: كِلَا يَوْمَيْ أُمَامَةَ يَوْمُ صَدٍّ [[كذا في الأصول واللسان مادة "كلا". وفى ديوانه المطبوع: "يوم صدق". والبيت من قصيدة مطلعها: ألا حي المنازل والخيا ... ما وسكنا طال فيها ما أقاما]] ... وَإِنْ لَمْ نَأْتِهَا إِلَّا لِمَامَا فَأَخْبَرَ عَنْ "كِلَا" بِيَوْمٍ مُفْرَدٍ، كَمَا أَفْرَدَ الْخَبَرَ بِقَوْلِهِ "آتَتْ" وَلَوْ كَانَ مُثَنًّى لَقَالَ آتَتَا، وَيَوْمًا. وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الف "كِلْتَا"، فقال سيبويه: ألف "وكِلْتَا" لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنْ لَامِ الْفِعْلِ وَهِيَ وَاوٌ وَالْأَصْلُ كِلْوَا، وَإِنَّمَا أُبْدِلَتْ تَاءً لِأَنَّ فِي التَّاءِ عَلَمُ التَّأْنِيثِ، وَالْأَلِفُ "فِي" كِلْتَا" قَدْ تَصِيرُ يَاءً مَعَ الْمُضْمَرِ فَتَخْرُجُ عَنْ عَلَمِ التَّأْنِيثِ، فَصَارَ فِي إِبْدَالِ الْوَاوِ تَاءَ تَأْكِيدٌ لِلتَّأْنِيثِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الْجَرْمِيُّ: التَّاءُ مُلْحَقَةٌ وَالْأَلِفُ لَامُ الْفِعْلِ، وَتَقْدِيرُهَا عِنْدَهُ: فِعْتَلْ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا زَعَمَ، لَقَالُوا فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهَا كِلْتَوِيٌّ، فَلَمَّا قَالُوا كِلَوِيٌّ وَأَسْقَطُوا التَّاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَجْرَوْهَا مَجْرَى التَّاءِ فِي أُخْتٍ إِذَا نَسَبْتَ إِلَيْهَا قُلْتَ أَخَوِيٌّ، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَأَجَازَ النَّحْوِيُّونَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى، وَأَنْ تَقُولَ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتَا أُكُلَهُمَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُخْتَارَ [[في ج الجنتان كلتاهما.]] كِلْتَاهُمَا آتَتَا. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى كل الْجَنَّتَيْنِ. قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ "كُلُّ الْجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ". وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا عِنْدَ الفراء: كل شي مِنَ الْجَنَّتَيْنِ آتَى أُكُلَهُ. وَالْأُكُلُ (بِضَمِّ الْهَمْزَةِ) ثَمَرُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ. وَكُلُّ مَا يُؤْكَلُ فَهُوَ أُكُلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُكُلُها دائِمٌ﴾ وَقَدْ تقدم [[راجع ج ٩ ص ٣٢٤.]]. (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أَيْ لَمْ تَنْقُصْ. قوله تعالى: (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أَيْ أَجْرَيْنَا وَشَقَقْنَا وَسَطَ الْجَنَّتَيْنِ بِنَهْرٍ. (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ "ثَمَرٌ" بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ "وَأُحِيطَ بثمره" جمع ثمرة. قال الْجَوْهَرِيُّ: الثَّمَرَةُ وَاحِدَةُ الثَّمَرِ وَالثَّمَرَاتِ، وَجَمْعُ الثَّمَرِ ثِمَارٌ، مِثْلُ جَبَلٍ وَجِبَالٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَمْعُ الثمار ثمر، مئل كِتَابٍ وَكُتُبٌ، وَجَمْعُ الثُّمُرِ أَثْمَارٌ، مِثْلُ أَعْنَاقٍ وَعُنُقٍ. وَالثَّمَرُ أَيْضًا الْمَالُ الْمُثَمَّرُ، يُخَفَّفُ وَيُثَقَّلُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو "وَكَانَ لَهُ ثُمْرٌ" بِضَمِّ الثَّاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَفَسَّرَهُ بِأَنْوَاعِ الْمَالِ. وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا فِي الْحَرْفَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَأَمْوَالٌ. وَقَدْ مَضَى فِي "الْأَنْعَامِ" [[راجع ج ٧ ص ٤٩.]] نَحْوُ هَذَا مُبَيَّنًا. ذَكَرَ النَّحَّاسُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ الزُّبَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا شعيب بن إسحاق قال [أخبرنا [[من ج وفى ى: حدثنا.]]] هَارُونُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبَانٌ عَنْ ثَعْلَبَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ: لَوْ سَمِعْتُ أَحَدًا يَقْرَأُ "وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ" لَقَطَعْتُ لِسَانَهُ، فَقُلْتُ لِلْأَعْمَشِ: أَتَأْخُذُ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا! وَلَا نِعْمَةَ عَيْنٍ [[في هذا الكلمة اثنا عشر لغة: نعم عين ونعمة ونعام ونعيم (بفتحتين) ونعمى ونعامى ونعام ونعم ونعمة (بضمهن) ونعمة ونعام (بكسرها). وتنصب الكل بإضمار الفعل، أي أفعل ذلك أنعاما لعينك وإكراما.]]. فَكَانَ يَقْرَأُ "ثَمَرٌ" وَيَأْخُذُهُ مِنْ جَمْعِ الثَّمَرِ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ جَمَعَ ثَمَرَةً عَلَى ثِمَارٍ، ثُمَّ جَمَعَ ثمار عَلَى ثُمُرٍ، وَهُوَ حَسَنٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ "كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ ثَمَرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ﴾ أَيْ يُرَاجِعُهُ فِي الْكَلَامِ وَيُجَاوِبُهُ. وَالْمُحَاوَرَةُ الْمُجَاوَبَةُ، وَالتَّحَاوُرُ التَّجَاوُبُ. وَيُقَالُ: كَلَّمْتُهُ فَمَا أَحَارَ إِلَيَّ جَوَابًا، وَمَا رَجَعَ إِلَيَّ حَوِيرًا وَلَا حَوِيرَةً وَلَا مَحُورَةً وَلَا حِوَارًا، أَيْ مَا رَدَّ جَوَابًا. (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً) النَّفَرُ: الرَّهْطُ وَهُوَ مَا دُونَ العشرة. وأراد ها هنا الاتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب