الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِن أعْنابٍ وحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا﴾ ﴿كِلْتا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ولَمْ تَظْلِمْ مِنهُ شَيْئًا وفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا﴾ ﴿وكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وهو يُحاوِرُهُ أنا أكْثَرُ مِنكَ مالًا وأعَزُّ نَفَرًا﴾ ﴿ودَخَلَ جَنَّتَهُ وهو ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أظُنُّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدًا﴾ ﴿وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً ولَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لَأجِدَنَّ خَيْرًا مِنها مُنْقَلَبًا﴾ ﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ وهو يُحاوِرُهُ أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلًا﴾ ﴿لَكِنّا هو اللَّهُ رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَدًا﴾ ﴿ولَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ إنْ تَرَنِي أنا أقَلَّ مِنكَ مالًا ووَلَدًا﴾ ﴿فَعَسى رَبِّي أنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِن جَنَّتِكَ ويُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ ﴿أوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ ﴿وأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أنْفَقَ فِيها وهي خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ويَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أحَدًا﴾ ﴿ولَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وما كانَ مُنْتَصِرًا﴾ ﴿هُنالِكَ الوَلايَةُ لِلَّهِ الحَقِّ هو خَيْرٌ ثَوابًا وخَيْرٌ عُقْبًا﴾ اعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا أنَّ الكُفّارَ افْتَخَرُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْصارِهِمْ عَلى فُقَراءِ المُسْلِمِينَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ ذَلِكَ مِمّا لا يُوجِبُ الِافْتِخارَ، لِاحْتِمالِ أنْ يَصِيرَ الفَقِيرُ غَنِيًّا والغَنِيُّ فَقِيرًا، أمّا الَّذِي يَجِبُ حُصُولُ المُفاخِرَةِ بِهِ، فَطاعَةُ اللَّهِ وعِبادَتُهُ، وهي حاصِلَةٌ لِفُقَراءِ المُؤْمِنِينَ، وبَيَّنَ ذَلِكَ بِضَرْبِ هَذا المَثَلِ المَذْكُورِ في الآيَةِ، فَقالَ: ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾ أيْ: مَثَلَ حالِ الكافِرِينَ والمُؤْمِنِينَ بِحالِ رَجُلَيْنِ كانا أخَوَيْنِ في بَنِي إسْرائِيلَ أحَدُهُما كافِرٌ اسْمُهُ بَراطُوسَ والآخَرُ مُؤْمِنٌ اسْمُهُ يَهُوذا، وقِيلَ: هُما المَذْكُورانِ في سُورَةِ الصّافّاتِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ قائِلٌ مِنهم إنِّي كانَ لِي قَرِينٌ﴾ (الصّافّاتِ: ٥١) ورِثا مِن أبِيهِما ثَمانِيَةَ آلافِ دِينارٍ، فَأخَذَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما النِّصْفَ فاشْتَرى الكافِرُ أرْضًا، فَقالَ المُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ إنِّي أشْتَرِي مِنكَ أرْضًا في الجَنَّةِ بِألْفٍ، فَتَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ بَنى أخُوهُ دارا بِألْفٍ، فَقالَ المُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ إنِّي اشْتَرِي مِنكَ دارا في الجَنَّةِ بِألْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ أخُوهُ امْرَأةً بِألْفٍ، فَقالَ المُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ إنِّي جَعَلْتُ ألْفًا صَداقًا لِلْحُورِ العِينِ، ثُمَّ اشْتَرى أخُوهُ خَدَمًا وضِياعًا بِألْفٍ، فَقالَ المُؤْمِنُ: (p-١٠٦)اللَّهُمَّ إنِّي اشْتَرَيْتُ مِنكَ الوِلْدانَ بِألْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ أصابَهُ حاجَةٌ، فَجَلَسَ لِأخِيهِ عَلى طَرِيقِهِ فَمَرَّ بِهِ في حَشَمِهِ فَتَعَرَّضَ لَهُ فَطَرَدَهُ ووَبَّخَهُ عَلى التَّصَدُّقِ بِمالِهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿جَعَلْنا لِأحَدِهِما جَنَّتَيْنِ﴾، فاعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ تِلْكَ الجَنَّةَ بِصِفاتٍ: الصِّفَةُ الأُولى: كَوْنُها جَنَّةً، وسُمِّيَ البُسْتانُ جَنَّةً؛ لِاسْتِتارِ ما يَسْتَتِرُ فِيها بِظِلِّ الأشْجارِ، وأصْلُ الكَلِمَةِ مِنَ السَّتْرِ والتَّغْطِيَةِ. والصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ﴾ أيْ وجَعَلْنا النَّخْلَ مُحِيطًا بِالجَنَّتَيْنِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَرى المَلائِكَةَ حافِّينَ مِن حَوْلِ العَرْشِ﴾ (الزُّمَرِ: ٧٥) أيْ واقِفِينَ حَوْلَ العَرْشِ مُحِيطِينَ بِهِ، والحِفافُ جانِبُ الشَّيْءِ، والأحِفَّةُ جَمْعٌ، فَمَعْنى قَوْلِ القائِلِ: حَفَّ بِهِ القَوْمُ أيْ صارُوا في أحِفَّتِهِ، وهي جَوانِبُهُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎لَهُ لَحَظاتٌ في حَفافَيْ سَرِيرِهِ إذا كَرَّها فِيها عِقابٌ ونائِلُ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: حَفُّوهُ إذا طافُوا بِهِ، وحَفَّفْتُهُ بِهِمْ أيْ جَعَلْتُهم حافِّينَ حَوْلَهُ، وهو مُتَعَدٍّ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، فَتَزِيدُهُ الباءُ مَفْعُولًا ثانِيًا، كَقَوْلِهِ: غَشِيتُهُ وغَشِيتُهُ بِهِ، قالَ: وهَذِهِ الصِّفَةُ مِمّا يُؤْثِرُها الدَّهّاقِينُ في كُرُومِهِمْ، وهي أنْ يَجْعَلُوها مَحْفُوفَةً بِالأشْجارِ المُثْمِرَةِ، وهو أيْضًا حُسْنٌ في المَنظَرِ. الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: ﴿وجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ أُمُورٌ: أحَدُها: أنْ تَكُونَ تِلْكَ الأرْضُ جامِعَةً لِلْأقْواتِ والفَواكِهِ. وثانِيها: أنْ تَكُونَ تِلْكَ الأرْضُ مُتَّسِعَةَ الأطْرافِ مُتَباعِدَةَ الأكْنافِ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّها لَمْ يَتَوَسَّطْها ما يَقْطَعُ بَعْضَها عَنْ بَعْضٍ. وثالِثُها: أنَّ مِثْلَ هَذِهِ الأرْضِ تَأْتِي في كُلِّ وقْتٍ بِمَنفَعَةٍ أُخْرى، وهي ثَمَرَةٌ أُخْرى، فَكانَتْ مَنافِعُها دارَّةً مُتَواصِلَةً. الصِّفَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كِلْتا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ولَمْ تَظْلِمْ مِنهُ شَيْئًا﴾ كِلا اسْمٌ مُفْرَدٌ مَعْرِفَةٌ يُؤَكَّدُ بِهِ مُذَكَّرانِ مَعْرِفَتانِ، وكِلْتا اسْمٌ مُفْرَدٌ يُؤَكَّدُ بِهِ مُؤَنَّثانِ مَعْرِفَتانِ، وإذا أُضِيفا إلى المُظْهَرِ كانا بِالألِفِ في الأحْوالِ الثَّلاثَةِ، كَقَوْلِكَ: جاءَنِي كِلا أخَوَيْكَ، ورَأيْتُ كِلا أخَوَيْكَ، ومَرَرْتُ بِكِلا أخَوَيْكَ، وجاءَنِي كِلْتا أُخْتَيْكَ، ورَأيْتُ كِلْتا أُخْتَيْكَ، ومَرَرْتُ بِكِلْتا أُخْتَيْكَ، وإذا أُضِيفا إلى المُضْمَرِ كانا في الرَّفْعِ بِالألِفِ، وفي الجَرِّ والنَّصْبِ بِالياءِ وبَعْضُهم يَقُولُ: مَعَ المُضْمَرِ بِالألِفِ في الأحْوالِ الثَّلاثَةِ أيْضًا، وقَوْلُهُ: ﴿آتَتْ أُكُلَها﴾ حُمِلَ عَلى اللَّفْظِ لِأنَّ كِلْتا لَفْظُهُ لَفْظُ مُفْرَدٍ، ولَوْ قِيلَ: آتَتا عَلى المَعْنى لَجازَ، وقَوْلُهُ: ﴿ولَمْ تَظْلِمْ مِنهُ شَيْئًا﴾ أيْ لَمْ تَنْقُصْ والظُّلْمُ النُّقْصانُ، يَقُولُ الرَّجُلُ: ظَلَمَنِي حَقِّي أيْ نَقَصَنِي. الصِّفَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا﴾ أيْ كانَ النَّهْرُ يَجْرِي في داخِلِ تِلْكَ الجَنَّتَيْنِ، وفي قِراءَةِ يَعْقُوبَ وفَجَرْنا مُخَفَّفَةً وفي قِراءَةِ الباقِينَ: (وفَجَّرْنا) مُشَدَّدَةً، والتَّخْفِيفُ هو الأصْلُ؛ لِأنَّهُ نَهْرٌ واحِدٌ والتَّشْدِيدُ عَلى المُبالَغَةِ؛ لِأنَّ النَّهْرَ يَمْتَدُّ فَيَكُونُ كَأنْهارٍ و﴿خِلالَهُما﴾ أيْ وسَطَهُما وبَيْنَهُما، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَأوْضَعُوا خِلالَكُمْ﴾ (التَّوْبَةِ: ٤٧) . ومِنهُ يُقالُ: خَلَّلْتُ القَوْمَ أيْ دَخَلْتُ بَيْنَ القَوْمِ. الصِّفَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾ قَرَأ عاصِمٌ بِفَتْحِ الثّاءِ والمِيمِ في المَوْضِعَيْنِ، وهو جَمْعُ ثِمارٍ أوْ ثَمَرَةٍ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الثّاءِ وسُكُونِ المِيمِ في الحَرْفَيْنِ، والباقُونَ بِضَمِّ الثّاءِ والمِيمِ في الحَرْفَيْنِ ذَكَرَ أهْلُ اللُّغَةِ: أنَّهُ بِالضَّمِّ أنْواعُ الأمْوالِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وغَيْرِهِما، وبِالفَتْحِ حَمْلُ الشَّجَرِ، قالَ قُطْرُبٌ: كانَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ يَقُولُ: الثُّمْرُ المالُ والوَلَدُ، وأنْشَدَ لِلْحارِثِ بْنِ كِلْدَةَ: ؎ولَقَدْ رَأيْتُ مَعاشِرًا ∗∗∗ قَدْ أثْمَرُوا مالًا ووَلَدًا وقالَ النّابِغَةُ: ؎مَهْلًا فِداءٌ لَكَ الأقْوامُ كُلُّهم ∗∗∗ ما أثْمَرُوهُ أمِن مالٍ ومِن ولَدِ (p-١٠٧)وقَوْلُهُ: ﴿وكانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾ أيْ أنْواعٌ مِنَ المالِ مِن ثَمَرَ مالُهُ إذا كَثُرَ، وعَنْ مُجاهِدٍ: الذَّهَبُ والفِضَّةُ: أيْ كانَ مَعَ الجَنَّتَيْنِ أشْياءُ مِنَ النُّقُودِ، ولَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الصِّفاتِ قالَ بَعْدَهُ: ﴿فَقالَ لِصاحِبِهِ وهو يُحاوِرُهُ أنا أكْثَرُ مِنكَ مالًا وأعَزُّ نَفَرًا﴾ والمَعْنى: أنَّ المُسْلِمَ كانَ يُحاوِرُهُ بِالوَعْظِ والدُّعاءِ إلى الإيمانِ بِاللَّهِ وبِالبَعْثِ، والمُحاوَرَةُ مُراجَعَةُ الكَلامِ مِن قَوْلِهِمْ: حارَ إذا رَجَعَ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّهُ ظَنَّ أنْ لَنْ يَحُورَ﴾ ﴿بَلى﴾ (الِانْشِقاقِ: ١٤ - ١٥)، فَذَكَرَ تَعالى أنَّ عِنْدَ هَذِهِ المُحاوَرَةِ قالَ الكافِرُ: ﴿أنا أكْثَرُ مِنكَ مالًا وأعَزُّ نَفَرًا﴾ والنَّفَرُ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ وأصْحابُهُ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِالذَّبِّ عَنْهُ ويَنْفِرُونَ مَعَهُ، وحاصِلُ الكَلامِ أنَّ الكافِرَ تَرَفَّعَ عَلى المُؤْمِنِ بِجاهِهِ ومالِهِ، ثُمَّ إنَّهُ أرادَ أنْ يُظْهِرَ لِذَلِكَ المُسْلِمِ كَثْرَةَ مالِهِ، فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْ هَذِهِ الحالَةِ، فَقالَ: ﴿ودَخَلَ جَنَّتَهُ﴾ وأراهُ إيّاها عَلى الحالَةِ المُوجِبَةِ لِلْبَهْجَةِ والسُّرُورِ وأخْبَرَهُ بِصُنُوفِ ما يَمْلِكُهُ مِنَ المالِ، فَإنْ قِيلَ: لِمَ أفْرَدَ الجَنَّةَ بَعْدَ التَّثْنِيَةِ ؟ قُلْنا: المُرادُ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ جَنَّةٌ ولا نَصِيبٌ في الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ المُؤْمِنُونَ، وهَذا الَّذِي مَلَكَهُ في الدُّنْيا هو جَنَّتُهُ لا غَيْرَ، ولَمْ يَقْصِدِ الجَنَّتَيْنِ ولا واحِدًا مِنهُما، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ وهو اعْتِراضٌ وقَعَ في أثْناءِ الكَلامِ، والمُرادُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ لَمّا اعْتَزَّ بِتِلْكَ النِّعَمِ وتَوَسَّلَ بِها إلى الكُفْرانِ والجُحُودِ لِقُدْرَتِهِ عَلى البَعْثِ كانَ واضِعًا تِلْكَ النِّعَمَ في غَيْرِ مَوْضِعِها، ثُمَّ حَكى تَعالى عَنِ الكافِرِ أنَّهُ قالَ: ﴿ما أظُنُّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدًا﴾ ﴿وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً﴾ فَجَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ، فالأوَّلُ قَطَعَهُ بِأنَّ تِلْكَ الأشْياءَ لا تَهْلِكُ ولا تَبِيدُ أبَدًا مَعَ أنَّها مُتَغَيِّرَةٌ مُتَبَدِّلَةٌ، فَإنْ قِيلَ: هَبْ أنَّهُ شَكَّ في القِيامَةِ، فَكَيْفَ قالَ: ﴿ما أظُنُّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدًا﴾ مَعَ أنَّ الحَدْسَ يَدُلُّ عَلى أنَّ أحْوالَ الدُّنْيا بِأسْرِها ذاهِبَةٌ باطِلَةٌ غَيْرُ باقِيَةٍ ؟ قُلْنا: المُرادُ أنَّها لا تَبِيدُ مُدَّةَ حَياتِهِ ووُجُودِهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿ولَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لَأجِدَنَّ خَيْرًا مِنها مُنْقَلَبًا﴾ أيْ مَرْجِعًا وعاقِبَةً وانْتِصابُهُ عَلى التَّمْيِيزِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي إنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى﴾ (فُصِّلَتْ: ٥٠) وقَوْلُهُ: ﴿لَأُوتَيَنَّ مالًا ووَلَدًا﴾ (مَرْيَمَ: ٧٧) والسَّبَبُ في وُقُوعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: أنَّهُ تَعالى لَمّا أعْطاهُ المالَ في الدُّنْيا ظَنَّ أنَّهُ إنَّما أعْطاهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لَهُ، والِاسْتِحْقاقُ باقٍ بَعْدِ المَوْتِ فَوَجَبَ حُصُولُ العَطاءِ، والمُقْدِمَةُ الأُولى كاذِبَةٌ فَإنَّ فَتْحَ بابِ الدُّنْيا عَلى الإنْسانِ يَكُونُ في أكْثَرِ الأمْرِ لِلِاسْتِدْراكِ والتَّمْلِيَةِ، قَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ خَيْرًا مِنهُما، والمَقْصُودُ عَوْدُ الكِنايَةِ إلى الجَنَّتَيْنِ، والباقُونَ مِنها، والمَقْصُودُ عَوْدُ الكِنايَةِ إلى الجَنَّةِ الَّتِي دَخَلَها * * * ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى جَوابَ المُؤْمِنِ، فَقالَ جَلَّ جَلالُهُ: ﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ وهو يُحاوِرُهُ أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلًا﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ الإنْسانَ الأوَّلَ قالَ: ﴿وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً﴾ وهَذا الثّانِي كَفَّرَهُ حَيْثُ قالَ: ﴿أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الشّاكَّ في حُصُولِ البَعْثِ كافِرٌ. البَحْثُ الثّانِي: هَذا الِاسْتِدْلالُ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: يَرْجِعُ إلى الطَّرِيقَةِ المَذْكُورَةِ في القُرْآنِ، وهو أنَّهُ تَعالى لَمّا قَدَرَ عَلى الِابْتِداءِ وجَبَ أنْ يَقْدِرَ عَلى الإعادَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلًا﴾ إشارَةٌ إلى خَلْقِ الإنْسانِ في الِابْتِداءِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ لَمّا خَلَقَكَ هَكَذا فَلَمْ يَخْلُقْكَ عَبَثًا، وإنَّما خَلَقَكَ لِلْعُبُودِيَّةِ وإذا خَلَقَكَ لِهَذا المَعْنى وجَبَ أنْ يَحْصُلَ لِلْمُطِيعِ ثَوابٌ ولِلْمُذْنِبِ عِقابٌ وتَقْرِيرُهُ ما ذَكَرْناهُ في سُورَةِ يس، ويَدُلُّ عَلى هَذا الوَجْهِ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلًا﴾ أيْ هَيَّأكَ هَيْئَةً تَعْقِلُ وتَصْلُحُ لِلتَّكْلِيفِ، فَهَلْ يَجُوزُ في العَقْلِ مَعَ هَذِهِ الحالَةِ إهْمالُهُ أمْرَكَ، ثُمَّ قالَ المُؤْمِنُ: ﴿لَكِنّا هو اللَّهُ رَبِّي﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: قالَ أهْلُ اللُّغَةِ (لَكُنّا) أصْلُهُ لَكِنْ أنا فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ وأُلْقِيَتْ حَرَكَتُها عَلى نُونِ لَكِنْ فاجْتَمَعَتِ النُّونانِ فَأُدْغِمَتْ نُونُ لَكِنْ في النُّونِ الَّتِي بَعْدَها ومِثْلُهُ:(p-١٠٨) ؎وتَقْلِينَنِي لَكِنَّ إيّاكَ لا أقْلِي أيْ لَكِنْ أنا لا أقْلِيكِ، وهو في قَوْلِهِ: ﴿هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ رَبِّي﴾ جُمْلَةٌ مِنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ واقِعَةٌ في مَعْرِضِ الخَبَرِ لِقَوْلِهِ: (هُوَ) فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿لَكِنّا﴾ اسْتِدْراكٌ لِماذا ؟ قُلْنا لِقَوْلِهِ: ﴿أكَفَرْتَ﴾ كَأنَّهُ قالَ لِأخِيهِ: أكَفَرْتَ بِاللَّهِ لَكِنِّي مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ كَما تَقُولُ: زَيْدٌ غائِبٌ لَكِنْ عَمْرٌو حاضِرٌ. والبَحْثُ الثّانِي: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ ويَعْقُوبُ الحَضْرَمِيُّ ونافِعٌ في رِوايَةٍ: (لَكِنّا هو اللَّهُ رَبِّي) في الوَصْلِ بِالألِفِ، وفي قِراءَةِ الباقِينَ: (لَكِنَّ هو اللَّهُ رَبِّي) بِغَيْرِ ألِفٍ، والمَعْنى واحِدٌ، ثُمَّ قالَ المُؤْمِنُ: ﴿ولا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَدًا﴾ ذَكَرَ القَفّالُ فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: إنِّي لا أرى الفَقْرَ والغِنى إلّا مِنهُ، فَأحْمَدُهُ إذا أعْطى، وأصْبِرُ إذا ابْتَلى، ولا أتَكَبَّرُ عِنْدَما يُنْعِمُ عَلَيَّ ولا أرى كَثْرَةَ المالِ والأعْوانِ مِن نَفْسِي؛ وذَلِكَ لِأنَّ الكافِرَ لَمّا اعْتَزَّ بِكَثْرَةِ المالِ والجاهِ، فَكَأنَّهُ قَدْ أثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا في إعْطاءِ العِزِّ والغِنى. وثانِيها: لَعَلَّ ذَلِكَ الكافِرَ مَعَ كَوْنِهِ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ كانَ عابِدَ صَنَمٍ، فَبَيَّنَ هَذا المُؤْمِنُ فَسادَ قَوْلِهِ بِإثْباتِ الشُّرَكاءِ. وثالِثُها: أنَّ هَذا الكافِرَ لَمّا عَجَّزَ اللَّهَ عَنِ البَعْثِ والحَشْرِ، فَقَدْ جَعَلَهُ مُساوِيًا لِلْخَلْقِ في هَذا العَجْزِ، وإذا أثْبَتَ المُساواةَ، فَقَدْ أثْبَتَ الشَّرِيكَ، ثُمَّ قالَ المُؤْمِنُ لِلْكافِرِ: ﴿ولَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ﴾ فَأمَرَهُ أنْ يَقُولَ هَذَيْنِ الكَلامَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿ما شاءَ اللَّهُ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنْ تَكُونَ (ما) شَرْطِيَّةً ويَكُونَ الجَزاءُ مَحْذُوفًا، والتَّقْدِيرُ: أيُّ شَيْءٍ شاءَ اللَّهُ كانَ. والثّانِي: أنْ تَكُونَ ما مَوْصُولَةً مَرْفُوعَةَ المَحَلِّ عَلى أنَّها خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وتَقْدِيرُهُ الأمْرُ ما شاءَ اللَّهُ، واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذا عَلى أنَّ كُلَّ ما أرادَهُ اللَّهُ وقَعَ، وكُلَّ ما لَمْ يُرِدْهُ لَمْ يَقَعْ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ما أرادَ اللَّهُ الإيمانَ مِنَ الكافِرِ، وهو صَرِيحٌ في إبْطالِ قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ. أجابَ الكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِمْ: ما شاءَ مِمّا تَوَلّى فِعْلَهُ لا مِمّا هو فِعْلُ العِبادِ كَما قالُوا: لا مَرَدَّ لِأمْرِ اللَّهِ لَمْ يُرِدْ ما أمَرَ بِهِ العِبادَ، ثُمَّ قالَ: لا يَمْتَنِعُ أنْ يَحْصُلَ في سُلْطانِهِ ما لا يُرِيدُهُ كَما يَحْصُلُ فِيهِ ما نَهى عَنْهُ، واعْلَمْ أنَّ الَّذِي ذَكَرَ الكَعْبِيُّ لَيْسَ جَوابًا عَنِ الِاسْتِدْلالِ بَلْ هو التِزامُ المُخالَفَةِ لِظاهِرِ النَّصِّ وقِياسُ الإرادَةِ عَلى الأمْرِ باطِلٌ؛ لِأنَّ هَذا النَّصَّ دالٌّ عَلى أنَّهُ لا يُوجَدُ إلّا ما أرادَهُ اللَّهُ، ولَيْسَ في النُّصُوصِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَدْخُلُ في الوُجُودِ إلّا ما أمَرَ بِهِ، فَظَهَرَ الفَرْقُ، وأجابَ القَفّالُ عَنْهُ بِأنْ قالَ: هَلّا إذا دَخَلْتَ بُسْتانَكَ، قُلْتَ: ما شاءَ اللَّهُ كَقَوْلِ الإنْسانِ لِهَذِهِ الأشْياءِ المَوْجُودَةِ في هَذا البُسْتانِ ما شاءَ اللَّهُ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهم كَلْبُهُمْ﴾ وهم ثَلاثَةٌ، وقَوْلُهُ: ﴿وقُولُوا حِطَّةٌ﴾ (الأعْرافِ: ١٦١) أيْ قُولُوا هَذِهِ حِطَّةٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ المُرادُ مِن هَذا الشَّيْءِ المَوْجُودِ في البُسْتانِ شَيْئًا شاءَ اللَّهُ تَكْوِينَهُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْزَمْ أنْ يُقالَ: كُلُّ ما شاءَ اللَّهُ وقَعَ؛ لِأنَّ هَذا الحُكْمَ غَيْرُ عامٍّ في الكُلِّ بَلْ مُخْتَصٌّ بِالأشْياءِ المُشاهَدَةِ في البُسْتانِ، وهَذا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ القَفّالُ أحْسَنُ بِكَثِيرٍ مِمّا ذَكَرَهُ الجُبّائِيُّ والكَعْبِيُّ، وأقُولُ: إنَّهُ عَلى جَوابِهِ لا يَدْفَعُ الإشْكالَ عَلى المُعْتَزِلَةِ؛ لِأنَّ عِمارَةَ ذَلِكَ البُسْتانِ رُبَّما حَصَلَتْ بِالغُصُوبِ والظُّلْمِ الشَّدِيدِ، فَلا يَصِحُّ أيْضًا عَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ أنْ يُقالَ: هَذا واقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ نَقُولَ: المُرادُ أنَّ هَذِهِ الثِّمارَ حَصَلَتْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى إلّا أنَّ هَذا تَخْصِيصٌ لِظاهِرِ النَّصِّ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ، والكَلامُ الثّانِي الَّذِي أمَرَ المُؤْمِنُ الكافِرَ بِأنْ يَقُولَهُ هو قَوْلُهُ: ﴿لا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ﴾ أيْ لا قُوَّةَ لِأحَدٍ عَلى أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ إلّا بِإعانَةِ اللَّهِ وإقْدارِهِ. والمَقْصُودُ أنَّهُ قالَ المُؤْمِنُ لِلْكافِرِ: هَلّا قُلْتَ عِنْدَ دُخُولِ جَنَّتِكَ: الأمْرُ ما شاءَ اللَّهُ، والكائِنُ ما قَدَّرَهُ اللَّهُ (p-١٠٩)اعْتِرافًا بِأنَّها وكُلُّ خَيْرٍ فِيها بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وفَضْلِهِ، فَإنَّ أمْرَها بِيَدِهِ إنْ شاءَ تَرَكَها وإنْ شاءَ خَرَّبَها، وهَلّا قُلْتَ: لا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ إقْرارًا بِأنَّ ما قُوِّيتَ بِهِ عَلى عِمارَتِها وتَدْبِيرِ أمْرِها، فَهو بِمَعُونَةِ اللَّهِ وتَأْيِيدِهِ لا يَقْوى أحَدٌ في بَدَنِهِ ولا في مِلْكِ يَدِهِ إلّا بِاللَّهِ، ثُمَّ إنَّ المُؤْمِنَ لَمّا عَلَّمَ الكافِرَ الإيمانَ أجابَهُ عَنِ افْتِخارِهِ بِالمالِ والنَّفَرِ، فَقالَ: ﴿إنْ تَرَنِي أنا أقَلَّ مِنكَ مالًا ووَلَدًا﴾ مَن قَرَأ أقَلَّ بِالنَّصْبِ فَقَدْ جَعَلَ أنا فَصْلًا وأقَلَّ مَفْعُولًا ثانِيًا، ومَن قَرَأ بِالرَّفْعِ جَعَلَ قَوْلَهُ: ﴿أنا﴾ مُبْتَدَأً، وقَوْلَهُ: (أقَلُّ) خَبَرًا، والجُمْلَةَ مَفْعُولًا ثانِيًا لِتَرَنِي، واعْلَمْ أنَّ ذِكْرَ الوَلَدِ هَهُنا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالنَّفَرِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿وأعَزُّ نَفَرًا﴾ الأعْوانُ والأوْلادُ، كَأنَّهُ يَقُولُ لَهُ: إنْ كُنْتَ تَرانِي أقَلَّ مالًا ووَلَدًا وأنْصارًا في الدُّنْيا الفانِيَةِ: ﴿فَعَسى رَبِّي أنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِن جَنَّتِكَ﴾ إمّا في الدُّنْيا، وإمّا في الآخِرَةِ، ويُرْسِلَ عَلى جَنَّتِكَ: ﴿حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ﴾ أيْ عَذابًا وتَخْرِيبًا، والحُسْبانُ مَصْدَرٌ كالغُفْرانِ والبُطْلانِ بِمَعْنى الحِسابِ؛ أيْ مِقْدارًا قَدَّرَهُ اللَّهُ وحَسَبَهُ، وهو الحُكْمُ بِتَخْرِيبِها. قالَ الزَّجّاجُ: عَذابٌ حُسْبانٌ، وذَلِكَ الحُسْبانُ حُسْبانُ ما كَسَبَتْ يَداكَ، وقِيلَ: حُسْبانًا أيْ مَرامِيَ، الواحِدُ مِنها حُسْبانَةٌ، وهي الصَّواعِقُ: ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ أيْ فَتُصْبِحَ جَنَّتُكَ أرْضًا مَلْساءَ لا نَباتَ فِيها، والصَّعِيدُ وجْهُ الأرْضِ، زَلَقًا أيْ تَصِيرُ بِحَيْثُ تَزْلَقُ الرِّجْلُ عَلَيْها زَلَقًا، ثُمَّ قالَ: ﴿أوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا﴾ أيْ يَغُوصُ ويَسْفُلُ في الأرْضِ: ﴿فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ أيْ فَيَصِيرُ بِحَيْثُ لا تَقْدِرُ عَلى رَدِّهِ إلى مَوْضِعِهِ. قالَ أهْلُ اللُّغَةِ في قَوْلِهِ: ﴿ماؤُها غَوْرًا﴾ أيْ غائِرًا وهو نَعْتٌ عَلى لَفْظِ المَصْدَرِ، كَما يُقالُ: فُلانٌ زَوْرٌ وصَوْمٌ، لِلْواحِدِ والجَمْعِ والمُذَكِّرِ والمُؤَنَّثِ، ويُقالُ: نِساءٌ نَوْحٌ أيْ نَوائِحُ، ثُمَّ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ حَقَّقَ ما قَدَّرَهُ هَذا المُؤْمِنُ، فَقالَ: ﴿وأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ وهو عِبارَةٌ عَنْ إهْلاكِهِ بِالكُلِّيَّةِ، وأصْلُهُ مِن إحاطَةِ العَدُوِّ؛ لِأنَّهُ إذا أحاطَ بِهِ فَقَدْ مَلَكَهُ واسْتَوْلى عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في كُلِّ إهْلاكٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿إلّا أنْ يُحاطَ بِكُمْ﴾ (يُوسُفَ: ٦٦) ومِثْلُهُ قَوْلُهم: أتى عَلَيْهِ إذا أهْلَكَهُ، مِن أتى عَلَيْهِمُ العَدُوُّ إذا جاءَهم مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَأصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ وهو كِنايَةٌ عَنِ النَّدَمِ والحَسْرَةِ، فَإنَّ مَن عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ يُصَفِّقُ إحْدى يَدَيْهِ عَلى الأُخْرى، وقَدْ يَمْسَحُ إحْداهُما عَلى الأُخْرى، وإنَّما يَفْعَلُ هَذا نَدامَةً عَلى ما أنْفَقَ في الجَنَّةِ الَّتِي وعَظَهُ أخُوهُ فِيها وعَذَلَهُ: ﴿وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ أيْ ساقِطَةٌ عَلى عُرُوشِها فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالعُرُوشِ عُرُوشَ الكَرْمِ، فَهَذِهِ العُرُوشُ سَقَطَتْ ثُمَّ سَقَطَتِ الجُدْرانُ عَلَيْها، ويُمْكِنُ أنْ يُرادَ مِنَ العُرُوشِ السُّقُوفُ وهي سَقَطَتْ عَلى الجُدْرانِ، وحاصِلُ الكَلامِ: أنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ كِنايَةٌ عَنْ بُطْلانِها وهَلاكِها، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ويَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أحَدًا﴾ والمَعْنى أنَّ المُؤْمِنَ لَمّا قالَ: ﴿لَكِنّا هو اللَّهُ رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَدًا﴾ فَهَذا الكافِرُ تَذَّكَّرَ كَلامَهُ وقالَ: ﴿ويَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أحَدًا﴾ فَإنْ قِيلَ: هَذا الكَلامُ يُوهِمُ أنَّهُ إنَّما هَلَكَتْ جَنَّتُهُ بِشُؤْمِ شِرْكِهِ، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ أنْواعَ البَلاءِ أكْثَرُها إنَّما يَقَعُ لِلْمُؤْمِنِينَ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فَضَّةٍ ومَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ﴾ (الزُّخْرُفِ: ٣٣) وقالَ النَّبِيُّ -ﷺ-: ”«خُصَّ البَلاءُ بِالأنْبِياءِ ثُمَّ الأوْلِياءِ، ثُمَّ الأمْثَلِ فالأمْثَلِ» “، وأيْضًا فَلَمّا قالَ: ﴿ويَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أحَدًا﴾ فَقَدْ نَدِمَ عَلى الشِّرْكِ ورَغِبَ في التَّوْحِيدِ فَوَجَبَ أنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا، فَلِمَ قالَ بَعْدَهُ: ﴿ولَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وما كانَ مُنْتَصِرًا﴾ . والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الأوَّلِ: أنَّهُ لَمّا عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ لِأجْلِ أنَّهُ أنْفَقَ عُمْرَهُ في تَحْصِيلِ الدُّنْيا وكانَ مُعْرِضًا في كُلِّ عُمْرِهِ عَنْ طَلَبِ الدِّينِ، فَلَمّا ضاعَتِ الدُّنْيا بِالكُلِّيَّةِ بَقِيَ الحِرْمانُ عَنِ الدُّنْيا والدِّينِ عَلَيْهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ عَظُمَتْ حَسْرَتُهُ. والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الثّانِي: أنَّهُ إنَّما نَدِمَ عَلى الشِّرْكِ لِاعْتِقادِهِ أنَّهُ لَوْ كانَ مُوَحِّدًا غَيْرَ مُشْرِكٍ لَبَقِيَتْ عَلَيْهِ جَنَّتُهُ، فَهو إنَّما رَغِبَ في التَّوْحِيدِ والرَّدِّ عَنِ الشِّرْكِ لِأجْلِ طَلَبِ (p-١١٠)الدُّنْيا فَلِهَذا السَّبَبِ ما صارَ تَوْحِيدُهُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (ولَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) بِالياءِ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فِئَةٌ﴾ جَمْعٌ فَإذا تَقَدَّمَ عَلى الكِنايَةِ جازَ التَّذْكِيرُ؛ ولِأنَّهُ رِعايَةٌ لِلْمَعْنى، والباقُونَ بِالتّاءِ المَنقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِن فَوْقَ؛ لِأنَّ الكِنايَةَ عائِدَةٌ إلى اللَّفْظَةِ وهي الفِئَةُ. البَحْثُ الثّانِي: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ هو أنَّهُ ما حَصَلَتْ لَهُ فِئَةٌ يَقْدِرُونَ عَلى نُصْرَتِهِ مِن دُونِ اللَّهِ؛ أيْ هو اللَّهُ تَعالى وحْدَهُ القادِرُ عَلى نُصْرَتِهِ، ولا يَقْدِرُ أحَدٌ غَيْرُهُ أنْ يَنْصُرَهُ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿هُنالِكَ الوَلايَةُ لِلَّهِ الحَقِّ هو خَيْرٌ ثَوابًا وخَيْرٌ عُقْبًا﴾ . المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفَ القُرّاءُ في ثَلاثَةِ مَواضِعَ مِن هَذِهِ الآيَةِ: أوَّلُها: في لَفْظِ الوَلايَةِ، فَفي قِراءَةِ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ بِكَسْرِ الواوِ، وفي قِراءَةِ الباقِينَ بِالفَتْحِ. وحُكِيَ عَنْ أبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ أنَّهُ قالَ: كَسْرُ الواوِ لَحْنٌ، قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: الوَلايَةُ بِالفَتْحِ النُّصْرَةُ والتَّوَلِّي، وبِالكَسْرِ السُّلْطانُ والمُلْكُ. وثانِيها: قَرَأ أبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ قَوْلَهُ: (الحَقُّ) بِالرَّفْعِ، والتَّقْدِيرُ: هُنالِكَ الوِلايَةُ الحَقُّ لِلَّهِ وقَرَأ الباقُونَ بِالجَرِّ صِفَةً لِلَّهِ. وثالِثُها: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ونافِعٌ والكِسائِيُّ وابْنُ عامِرٍ عُقُبًا بِضَمِّ القافِ، وقَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ (عُقْبى) بِتَسْكِينِ القافِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ﴿هُنالِكَ الوَلايَةُ لِلَّهِ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ مِن قِصَّةِ الرَّجُلَيْنِ ما ذَكَرَ عَلِمْنا أنَّ النُّصْرَةَ والعاقِبَةَ المَحْمُودَةَ كانَتْ لِلْمُؤْمِنِ عَلى الكافِرِ، وعَرَفْنا أنَّ الأمْرَ هَكَذا يَكُونُ في حَقِّ كُلِّ مُؤْمِنٍ وكافِرٍ فَقالَ: ﴿هُنالِكَ الوَلايَةُ لِلَّهِ الحَقِّ﴾ أيْ في مِثْلِ ذَلِكَ الوَقْتِ، وفي مِثْلِ ذَلِكَ المَقامِ تَكُونُ الوَلايَةُ لِلَّهِ يُوالِي أوْلِياءَهُ فَيُغَلِّبَهم عَلى أعْدائِهِ ويُفَوِّضُ أمْرَ الكُفّارِ إلَيْهِمْ، فَقَوْلُهُ: هُنالِكَ إشارَةٌ إلى المَوْضِعِ والوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ إظْهارَ كَرامَةِ أوْلِيائِهِ وإذْلالَ أعْدائِهِ فِيهِما. والوَجْهُ الثّانِي في التَّأْوِيلِ: أنْ يَكُونَ المَعْنى في مِثْلِ تِلْكَ الحالَةِ الشَّدِيدَةِ يَتَوَلّى اللَّهَ ويَلْتَجِئُ إلَيْهِ كُلُّ مُحْتاجٍ مُضْطَرٍّ، يَعْنِي أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أحَدًا﴾ كَلِمَةٌ أُلْجِئُ إلَيْها ذَلِكَ الكافِرُ، فَقالَها جَزَعًا مِمّا ساقَهُ إلَيْهِ شُؤْمُ كُفْرِهِ، ولَوْلا ذَلِكَ لَمْ يَقُلْها. والوَجْهُ الثّالِثُ: المَعْنى: هُنالِكَ الوَلايَةُ لِلَّهِ يَنْصُرُ بِها أوْلِياءَهُ المُؤْمِنِينَ عَلى الكَفَرَةِ، ويَنْتَقِمُ لَهم ويَشْفِي صُدُورَهم مِن أعْدائِهِمْ يَعْنِي: أنَّهُ تَعالى نَصَرَ بِما فَعَلَ بِالكافِرِ أخاهُ المُؤْمِنَ وصَدَّقَ قَوْلَهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَعَسى رَبِّي أنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِن جَنَّتِكَ ويُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ﴾ ويُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ: ﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوابًا وخَيْرٌ عُقْبًا﴾ أيْ لِأوْلِيائِهِ. والوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ قَوْلَهُ هُنالِكَ إشارَةٌ إلى الدّارِ الآخِرَةِ أيْ في تِلْكَ الدّارِ الآخِرَةِ الوَلايَةُ لِلَّهِ، كَقَوْلِهِ ﴿لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ﴾ ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوابًا﴾ أيْ في الآخِرَةِ لِمَن آمَنَ بِهِ والتَجَأ إلَيْهِ: ﴿وخَيْرٌ عُقْبًا﴾ أيْ هو خَيْرٌ عاقِبَةً لِمَن رَجاهُ وعَمِلَ لِوَجْهِهِ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّهُ قُرِئَ (عُقْبًى) بِضَمِّ القافِ وسُكُونِها وعُقْبى عَلى فُعْلى، وكُلُّها بِمَعْنى العاقِبَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب