قوله عزّ وجلّ:
﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِن أعْنابٍ وحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا﴾ ﴿كِلْتا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ولَمْ تَظْلِمْ مِنهُ شَيْئًا وفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا﴾ ﴿وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وهو يُحاوِرُهُ أنا أكْثَرُ مِنكَ مالا وأعَزُّ نَفَرًا﴾
الضَمِيرُ في "لَهُمْ" عائِدٌ عَلى الطائِفَةِ المُتَحَيِّرَةِ الَّتِي أرادَتْ مِنَ النَبِيِّ ﷺ أنْ يَطْرُدَ فُقَراءَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ، وعَلى أُولَئِكَ الداعِينَ أيْضًا، فالمَثَلُ مَضْرُوبٌ لِلطّائِفَتَيْنِ؛ إذِ الرَجُلُ الكافِرُ صاحِبُ الجَنَّتَيْنِ هو بِإزاءِ مُتَجَبِّرِي قُرَيْشٍ، أو بَنِي تَمِيمٍ، عَلى الخِلافِ المَذْكُورِ أوَّلًا، والرَجُلُ المُؤْمِنُ المُقِرُّ بِالرُبُوبِيَّةِ هو بِإزاءِ بِلالٍ وعَمّارٍ وصُهَيْبٍ وأقْرانِهِمْ.
(p-٦٠٥)وَ"حَفَفْناهُما" بِمَعْنى: جَعَلْنا ذَلِكَ لَها مِن كُلِّ جِهَةٍ، تَقُولُ: حَفَّكَ اللهُ بِخَيْرٍ، أيْ: عَمَّكَ بِهِ مِن جِهاتِكَ، والحِفافُ: الجانِبُ مِنَ السَرِيرِ ونَحْوَهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وظاهِرُ هَذا المَثَلِ أنَّهُ بِأمْرٍ وقَعَ وكانَ مَوْجُودًا، وعَلى هَذا فَسَّرَهُ أكْثَرُ أهْلِ هَذا التَأْوِيلِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَثَلُ مَضْرُوبًا بِمَن هَذِهِ صِفَتُهُ وإنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ في وُجُودٍ قَطُّ. والأوَّلُ أظْهَرُ.
ورُوِيَ في ذَلِكَ أنَّهُما كانا أخَوَيْنِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ ورِثا أرْبَعَةَ آلافِ دِينارٍ، فَصَنَعَ أحَدُهُما بِمالِهِ ما ذَكَرَ، واشْتَرى عَبِيدًا وتَزَوَّجَ وأثْرى، وأنْفَقَ الآخَرُ مالَهُ في طاعَةِ اللهِ تَعالى حَتّى افْتَقَرَ، والتَقَيا فَفَخَرَ الغَنِيُّ ووَبَّخَ المُؤْمِنَ، فَجَرَتْ بَيْنَهُما هَذِهِ المُحاوَرَةُ، ورُوِيَ أنَّهُما كانا شَرِيكَيْنِ حَدّادَيْنِ كَسَبا مالًا كَثِيرًا وصَنَعا نَحْوَ ما رُوِيَ في أمْرِ الأخَوَيْنِ، فَكانَ مِن أمْرِهِما ما قَصَّ اللهُ في كِتابِهِ. وذَكَرَ إبْراهِيمُ بْنُ القاسِمِ الكاتِبِ في كِتابِهِ (فِي عَجائِبِ البِلادِ) أنَّ بُحَيْرَةَ تِنِّيسٍ كانَتْ ما بَيْنَ الجَنَّتَيْنِ، وكانَتْ لِلْأخَوَيْنِ، فَباعَ أحَدُهُما نَصِيبَهُ مِنَ الآخَرِ، وأنْفَقَ في طاعَةِ اللهِ حَتّى عِيَّرَهُ الآخَرُ، فَجَرَتْ بَيْنَهُما هَذِهِ المُحاوَرَةُ، قالَ: فَغَرَّقَها اللهُ في لَيْلَةٍ، وإيّاها عَنّى بِهَذِهِ الآيَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وفِي بَسْطِ قِصَصِهِما طُولٌ فاخْتَصَرْتُهُ واقْتَصَرَتْ عَلى مَعْناهُ لِقِلَّةِ صِحَّتِهِ، ولِأنَّ في هَذا ما يَفِي بِفَهْمِ الآيَةِ.
وتَأمَّلْ هَذِهِ الهَيْئَةَ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تَعالى، فَإنَّ المَرْءَ لا يَكادُ يَتَخَيَّلُ أجْمَلَ مِنها في مَكاسِبِ الناسِ: جَنَّتا عِنَبٍ أحاطَ بِهِما نَخْلٌ بَيْنَهُما فُسْحَةٌ هي مُزْدَرَعٌ لِجَمِيعِ الحُبُوبِ، والماءُ الغَيْلُ يُسْقِي جَمِيعَ ذَلِكَ مِنَ النَهْرِ الَّذِي قَدْ جَمَّلَ هَذا المَنظَرَ، وعَظَّمَ النَفْعَ، وقَرَّبَ الكَدَّ، وأغْنى عَنِ النَواضِحِ وغَيْرِها.
(p-٦٠٦)وَقَرَأ الجُمْهُورُ: "كِلْتا"، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ: "كِلا"، والتاءُ في "كِلْتا" مُنْقَلِبَةٌ عن واوٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وهو بِالتاءِ أو بِغَيْرِ التاءِ اسْمٌ مُفْرَدٌ واقِعٌ عَلى الشَيْءِ المُثَنّى، ولَيْسَ باسِمٍ مُثَنّى، ومَعْناهُ: كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما، و"الأُكُلُ": ثَمَرُها الَّذِي يُؤْكَلُ مِنها، قالَ الفَرّاءُ: وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "كُلُّ الجَنَّتَيْنِ أتى أُكُلَهُ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنهُ شَيْئًا﴾، أيْ: لَمْ تَنْقُصْ عَنِ العُرْفِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ تَظَلَّمَنِي مالِي كَذا ولَوى يَدِي ∗∗∗ لَوى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هو غالِبُ
وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَفَجَّرْنا" بِشَدِّ الجِيمِ، وقَرَأ سَلّامٌ، ويَعْقُوبٌ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ: "وَفَجَرْنا" بِفَتْحِ الجِيمِ دُونَ شَدٍّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "نَهْرًا" بِفَتْحِ الهاءِ. وقَرَأ أبُو السَمّالِ، والفَيّاضُ بْنُ غَزَوانِ، وطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ: "نَهْرًا" بِسُكُونِ الهاءِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وجَماعَةُ قُرّاءِ المَدِينَةِ ومَكَّةَ: "ثُمُرٌ" "وَأُحِيطَ بِثُمُرِهِ" بِضَمِّ الثاءِ والمِيمِ، جَمْعُ ثِمارٍ. وقَرَأ أبُو عَمْرُو، والأعْمَشُ، وأبُو رَجاءٍ بِسُكُونِ المِيمِ فِيهِما تَخْفِيفًا، وهي في المَعْنى كالأُولى، ويَتَّجِهُ أنْ يَكُونَ جَمَعُ ثَمَرَةٍ كَبَدَنَةٍ وبُدْنِ، وقَرَأ عاصِمٌ "ثَمَرٌ" "وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ" بِفَتْحِ المِيمِ والثاءِ فِيهِما، وهي قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ، والحَسَنِ، وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ، والحَجّاجِ.
واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في "الثُمُرِ" بِضَمِّ الثاءِ والمِيمِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ: "الثُمُرُ": (p-٦٠٧)جَمِيعُ المالِ مِنَ الذَهَبِ والفِضَّةِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ويَسْتَشْهِدُونَ لِهَذا القَوْلِ بِبَيْتِ النابِغَةِ:
؎ وما أُثَمِّرُ مَن مالٍ ومِن ولَدِ
وقالَ مُجاهِدٌ: يُرادُ بِها الذَهَبُ والفِضَّةُ خاصَّةً، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: "الثُمُرُ" هي الأُصُولُ الَّتِي فِيها الثَمَرُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
كَأنَّها ثِمارٌ وثُمُرٌ، كَكُتّابٍ وكُتُبٍ. وأمّا مَن قَرَأ بِفَتْحِ الثاءِ والمِيمِ فَلا إشْكالٍ في أنَّ المَعْنى ما في رُؤُوسِ الشَجَرِ مِنَ الأكْلِ، ولَكِنَّ فَصاحَةَ الكَلامِ تَقْتَضِي أنْ يُعَبِّرَ إيجازًا عن هَلاكِ الثَمَرِ والأُصُولُ بِهَلاكِ الثَمَرِ فَقَطْ، خَصَّها بِالذِكْرِ إذْ هي مَقْصَدُ المُسْتَغِلِّ، وإذْ هَلاكُ الأُصُولِ إنَّما يَسُوءُ مِنهُ هَلاكُ الثَمَرِ الَّذِي كانَ يُرْجى في المُسْتَقْبَلِ، وكَما يَقْتَضِي قَوْلُهُ "إنَّ لَهُ ثَمَرًا"، أنَّ لَهُ أُصُولًا، كَذَلِكَ تَقْتَضِي الإحاطَةُ المُطْلَقَةُ بِالثَمَراتِ والأُصُولُ قَدْ هَلَكَتْ. وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ: "وَآتَيْناهُ ثَمَرًا كَثِيرًا". وقَرَأ أبُو رَجاءٍ "وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ" بِفَتْحِ الثاءِ وسُكُونِ المِيمِ. و"المُحاوَرَةُ": مُراجَعَةُ القَوْلِ، وهو مِن: حارَ يَحُورُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
واسْتَدَلَّ بَعْضُ الناسِ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَأعَزُّ نَفَرًا﴾ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ أخاهُ. وقالَ المُناقِضُ: أرادَ بِالنَفَرِ العَبِيدَ والخَوَلَ؛ إذْ هُمُ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ في رَغائِبِهِ، وفي هَذا الكَلامِ مِنَ الكِبْرِ والزَهْوِ والِاغْتِرارِ ما بَيانُهُ يُغْنِي عَنِ القَوْلِ فِيهِ. وهَذِهِ المَقالَةُ بِإزاءِ قَوْلِ عُيَيْنَةَ والأقْرَعِ لِلنَّبِيِّ ﷺ: نَحْنُ ساداتُ العَرَبِ، وأهْلُ الوَبَرِ والمَدَرِ، فَنَحِّ عَنّا سَلْمانَ وقُرَناءَهُ.
{"ayahs_start":32,"ayahs":["۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلࣰا رَّجُلَیۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَیۡنِ مِنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَحَفَفۡنَـٰهُمَا بِنَخۡلࣲ وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمَا زَرۡعࣰا","كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَیۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَیۡـࣰٔاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَـٰلَهُمَا نَهَرࣰا","وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرࣱ فَقَالَ لِصَـٰحِبِهِۦ وَهُوَ یُحَاوِرُهُۥۤ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالࣰا وَأَعَزُّ نَفَرࣰا"],"ayah":"۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلࣰا رَّجُلَیۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَیۡنِ مِنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَحَفَفۡنَـٰهُمَا بِنَخۡلࣲ وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمَا زَرۡعࣰا"}