﴿واضْرِبْ لَهُمْ﴾ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ والكَفَرَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا طَرْدَهم ﴿مَثَلا رَجُلَيْنِ﴾ مَفْعُولانِ لِ «اضْرِبْ» ثانِيهُما أوَّلُهُما لِأنَّهُ المُحْتاجُ إلى التَّفْصِيلِ والبَيانِ قالَهُ بَعْضُهُمْ، وقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُ هَذا المَقامِ فَتَذَكَّرْ، والمُرادُ بِالرَّجُلَيْنِ إمّا رَجُلانِ مُقَدَّرانِ عَلى ما قِيلَ وضَرْبُ المَثَلِ لا يَقْتَضِي وُجُودَهُما وإمّا رَجُلانِ مَوْجُودانِ وهو المُعَوَّلُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: هُما أخَوانِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ أحَدُهُما كافِرٌ اسْمُهُ فَرْطُوسُ، وقِيلَ اسْمُهُ قِطْفِيرُ والآخَرُ مُؤْمِنٌ اسْمُهُ يَهُوذا في قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ.
وقالَ مُقاتِلٌ: اسْمُهُ يَمْلِيخا، وعَنِ ابْنِ عَبّاسِ أنَّهُما ابْنا مَلِكٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ أنْفَقَ أحَدُهُما مالَهُ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى، وكَفَرَ الآخَرُ واشْتَغَلَ بِزِينَةِ الدُّنْيا وتَنْمِيَةِ مالِهِ، ورُوِيَ أنَّهُما كانا حَدّادَيْنِ كَسَبا مالًا، ورُوِيَ أنَّهُما ورِثا مِن أبِيهِما ثَمانِيَةَ آلافِ دِينارٍ فَتَشاطَراها فاشْتَرى الكافِرُ أرْضًا بِألْفٍ فَقالَ المُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ أنا أشْتَرِي مِنكَ أرْضًا في الجَنَّةِ بِألْفٍ، فَتَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ بَنى أخُوهُ دارًا بِألْفٍ فَقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أشْتَرِي مِنكَ دارًا في الجَنَّةِ بِألْفٍ، فَتَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ أخُوهُ امْرَأةً بِألْفٍ فَقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي جَعَلْتُ ألْفًا صَداقًا لِلْحُورِ، فَتَصَدَّقُ بِهِ، ثُمَّ اشْتَرى أخُوهُ خَدَمًا ومَتاعًا بِألْفٍ، فَقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أشْتَرِي مِنكَ الوِلْدانَ المُخَلَّدِينَ بِألْفٍ فَتَصَدَّقُ بِهِ، ثُمَّ أصابَتْهُ حاجَةٌ فَجَلَسَ لِأخِيهِ عَلى طَرِيقِهِ فَمَرَّ بِهِ في حَشَمِهِ فَتَعَرَّضَ لَهُ فَطَرَدَهُ ووَبَّخَهُ عَلى التَّصَدُّقِ بِمالِهِ، وقِيلَ: هُما أخَوانِ مِن بَنِي مَخْزُومٍ كافِرٌ هو الأسْوَدُ بْنُ الأسَدِ ومُؤْمِنٌ هو أبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الأسَدِ، والمُرادُ ضَرْبُهُما مَثَلًا لِلْفَرِيقَيْنِ المُؤْمِنَيْنِ والكافِرَيْنِ لا مِن حَيْثُ أحْوالُهُما المُسْتَفادَةُ مِمّا ذُكِرَ آنِفًا مِن أنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ في الآخِرَةِ كَذا ولِلْكافِرِينَ فِيها كَذا، بَلْ مِن حَيْثُ عِصْيانُ الكَفَرَةِ مَعَ تَقَلُّبِهِمْ في نِعَمِ اللَّهِ تَعالى وطاعَةُ المُؤْمِنِينَ مَعَ مُكابَدَتِهِمْ مَشاقَّ الفَقْرِ، أيِ اضْرِبْ لَهم مَثَلًا مِن حَيْثِيَّةِ العِصْيانِ مَعَ النِّعْمَةِ والطّاعَةِ مَعَ الفَقْرِ حالَ رَجُلَيْنِ ﴿جَعَلْنا لأحَدِهِما﴾ وهو الكافِرُ ﴿جَنَّتَيْنِ﴾ بُسْتانَيْنِ لَمْ يُعَيِّنْ سُبْحانَهُ مَكانَهُما؛ إذْ لا يَتَعَلَّقُ بِتَعْيِينِهِ كَبِيرُ فائِدَةٍ.
وذَكَرَ إبْراهِيمُ بْنُ القاسِمِ الكاتِبُ في كِتابِهِ: «عَجائِبُ البِلادِ» أنَّ بُحَيْرَةَ تِنِيسَ كانَتْ هاتَيْنِ الجَنَّتَيْنِ فَجَرى ما جَرى فَفَرَّقَهُما اللَّهُ تَعالى في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى ما يُعْلَمُ مِنهُ قَوْلٌ آخَرُ، والجُمْلَةُ بِتَمامِها تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ فَلا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِرَجُلَيْنِ فَمَوْضِعُها النَّصْبُ.
﴿مِن أعْنابٍ﴾ مِن كُرُومٍ مُتَنَوِّعَةٍ فالكَلامُ عَلى ما قِيلَ إمّا عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ وإمّا الأعْنابُ فِيهِ مَجازٌ عَنِ الكُرُومِ وهي أشْجارُ العِنَبِ، والمَفْهُومُ مِن ظاهِرِ كَلامِ الرّاغِبِ أنَّ العِنَبَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الثَّمَرَةِ والكَرْمِ وعَلَيْهِ فَيُرادُ الكُرُومُ مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى (p-274)التَّقْدِيرِ أوِ ارْتِكابِ المَجازِ، والدّاعِي إلى إرادَةِ ذَلِكَ أنَّ الجَنَّةَ لا تَكُونُ مِن ثَمَرٍ بَلْ مِن شَجَرٍ ﴿وحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ﴾ أيْ: جَعَلْنا النَّخْلَ مُحِيطَةً بِهِما مُطِيفَةً بِحِفافَيْهِما؛ أيْ: جانِبَيْهِما مُؤَزَّرًا بِها كُرُومُهُما، يُقالُ: حَفَّهُ القَوْمُ إذا طافُوا بِهِ وحَفَفْتُهُ بِهِمْ إذا جَعَلَتَهم حافِّينَ حَوْلَهُ فَتُزِيدُهُ الباءُ مَفْعُولًا آخَرَ كَقَوْلِكَ: غَشِيتُهُ بِهِ ﴿وجَعَلْنا بَيْنَهُما﴾ وسَطَهُما ﴿زَرْعًا﴾ لِتَكُونا جامِعَتَيْنِ لِلْأقْواتِ والفَواكِهِ مُتَواصِلَتَيِ العِمارَةِ عَلى الهَيْئَةِ الرّائِقَةِ والوَضْعِ الأنِيقِ.
{"ayah":"۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلࣰا رَّجُلَیۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَیۡنِ مِنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَحَفَفۡنَـٰهُمَا بِنَخۡلࣲ وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمَا زَرۡعࣰا"}