الباحث القرآني
(p-٤٨٣)سُورَةُ المُمْتَحِنَةِ
مَقْصُودُها بَراءَةُ مَن أقَرَّ بِالإيمانِ مِمَّنِ اتَّسَمَ بِالعُدْوانِ دَلالَةً عَلى صِحَّةِ مُدَّعاهُ كَما أنَّ الكُفّارَ تَبَرَّأُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ وكَذَّبُوا بِما جاءَهم مِنَ الحَقِّ لِئَلّا يَكُونُوا عَلى باطِلِهِمْ أحْرَصَ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَلى حَقِّهِمْ، وتَسْمِيَتُها بِالمُمْتَحِنَةِ أوْضَحُ شَيْءٍ فِيها وأدَلُّهُ عَلى ذَلِكَ لِأنَّ الصِّهْرَ أعْظَمُ الوَصْلِ وأشْرَفُها بَعْدَ الدِّينِ، فَإذا نُفِيَ ومُنِعَ دَلَّ عَلى أعْظَمِ المُقاطَعَةِ لِدَلالَتِهِ عَلى الِامْتِهانِ بِسَبَبِ الكُفْرانِ الَّذِي هو أقْبَحُ العِصْيانِ( بِسْمِ اللَّهِ )الكافِي مَن لَجَأ إلَيْهِ فَمَن تَوَلّاهُ أغْناهُ عَمَّنْ سِواهُ( الرَّحْمَنِ )الَّذِي عَمَّ بِنِعْمَةِ الإيجادِ مَن فَلَقَ عَنْ وُجُودِهِ العَدَمَ وبَراهُ، وشَمِلَ بِرَحْمَتِهِ البَيانَ مَن حاطَهُ بِالعَقْلِ ورَعاهُ( الرَّحِيمِ )الَّذِي خَصَّ بِالتَّوْفِيقِ مَن أحَبَّهُ وارْتَضاهُ.
* * *
ولَمّا كانَ التَّأْدِيبُ عَقِبَ الإنْعامِ جَدِيرًا بِالقَبُولِ، وكانَ قَدْ أجْرى سُبْحانَهُ سُنَّتَهُ الإلَهِيَّةَ بِذَلِكَ، فَأدَّبَ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ عَقِبَ سُورَةِ الفَتْحِ السَّبَبِيِّ بِسُورَةِ الحُجُراتِ، وكانَتْ سُورَةُ الحَشْرِ مُذَكِّرَةً بِالنِّعْمَةِ في فَتْحِ بَنِي النَّضِيرِ (p-٤٨٤)[و]مُعْلِمَةً بِأنَّهُ لا ولِيَّ إلّا اللَّهَ، ولِذَلِكَ خَتَمَها بِصِفَتَيِ العِزَّةِ والحِكْمَةِ بَعْدَ أنِ افْتَتَحَها بِهِما، وثَبَتَ أنَّ مِنَ الحِكْمَةِ حَشْرَ الخَلْقِ، وأنَّ أوْلِياءَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ، وأنَّ أعْداءَهُ هُمُ الخاسِرُونَ، وكانَ الحُبُّ في اللَّهِ والبُغْضُ في اللَّهِ أفْضَلَ الأعْمالِ وأوْثَقَ عُرى الإيمانِ، ولِذَلِكَ ذَمَّ سُبْحانَهُ مَن والى أعْداءَهُ وناصَرَهُمْ، وسَمّاهم مَعَ التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الإسْلامِ مُنافِقِينَ، أنْتَجَ [ذَلِكَ] قَطْعًا وُجُوبَ البَراءَةِ مِن أعْدائِهِ والإقْبالَ عَلى خِدْمَتِهِ ووَلائِهِ، فَقالَ مُعِيدًا لِلتَّأْدِيبِ عَقِبَ سُورَةِ الفَتْحِ عَلى أهْلِ الكِتابِ بِسُورَةٍ جامِعَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالفَتْحِ الأعْظَمِ والفَتْحِ السَّبَبِيِّ:﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مُنادِيًا بِأداةِ البُعْدِ وإنْ كانَ مَن نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ مِن أهْلِ القُرْبِ، ومُعَبِّرًا بِالماضِي إقامَةً لِمَن والى الكُفّارَ نَوْعَ مُوالاةٍ في ذَلِكَ المَحَلِّ إلْهابًا لَهُ وتَهْيِيجًا إلى التَّرَفُّعِ عَنْهُ لِئَلّا يَقْدَحَ في خُصُوصِيَّتِهِ ويَحُطَّ مِن عَلِيِّ رُتْبَتِهِ مَعَ اللُّطْفِ [بِهِ] بِالتَّسْمِيَةِ لَهُ بِالإيمانِ حَيْثُ شَهِدَ سُبْحانَهُ عَلى مَن فَعَلَ نَحْوَ فِعْلِهِ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ بِالنِّفاقِ وأحَلَّهُ مَحَلَّ أهْلِ الشِّقاقِ، فَحَكَمَ عَلى (p-٤٨٥)القُلُوبِ في المَوْضِعَيْنِ فَقالَ هُناكَ: ﴿الَّذِينَ نافَقُوا﴾ [الحشر: ١١] كَما قالَ هُنا: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾
ولَمّا كانَ قَدْ تَقَدَّمَ في المُجادِلَةِ النَّهْيُ الشَّدِيدُ عَنْ إظْهارِ مُطْلَقِ المُوادَّةِ لِلْكُفّارِ، وفي الحَشْرِ الزَّجْرُ العَظِيمُ عَنْ إبْطانِ ذَلِكَ فَتَكَفَّلَتِ السُّورَتانِ بِالمَنعِ مِن مُصاحَبَةِ وُدِّهِمْ ظاهِرًا أوْ باطِنًا، بَكَّتَ هُنا مَنِ اتَّصَفَ بِالإيمانِ وقَرَّعَهُ ووَبَّخَهُ عَلى السَّعْيِ في مُوادَّتِهِمْ والتَّكَلُّفِ لِتَحْصِيلِها، فَإنَّ ذَلِكَ قادِحٌ في اعْتِقادِ تَفَرُّدِهِ سُبْحانَهُ بِالعِزَّةِ والحِكْمَةِ، فَعَبَّرَ لِذَلِكَ بِصِيغَةِ الِافْتِعالِ فَقالَ بَعْدَ التَّبْكِيتِ بِالنِّداءِ بِأداةِ البُعْدِ والتَّعْبِيرِ بِأدْنى أسْنانِ الإيمانِ: ﴿لا تَتَّخِذُوا﴾ وزادَ في ذَلِكَ المَعْنى مِن وجْهَيْنِ: التَّعْبِيرِ بِما مِنهُ العَداوَةُ تَجْرِئَةً عَلَيْهِمْ وتَنْفِيرًا مِنهم والتَّوْحِيدِ لِما يُطْلَقُ عَلى الجَمْعِ لِئَلّا يُظَنَّ أنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ المَجْمُوعُ بِقَيْدِ الِاجْتِماعِ والإشارَةِ إلى أنَّهم في العَداوَةِ عَلى قَلْبٍ واحِدٍ، فَأهْلُ الحَقِّ أوْلى بِأنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ في الوِلايَةِ فَقالَ: ﴿عَدُوِّي﴾ أيْ وأنْتُمْ تَدَّعُونَ مُوالاتِي [ومِنَ المَشْهُورِ أنَّ مُصادِقَ العَدُوِّ أدْنى مُصادَقَةٍ لا يَكُونُ ولِيًّا فَكَيْفَ بِما هو فَوْقَ الأدْنى] وهو فَعُولٌ مِن عَدى، وأبْلَغَ في الإيقاظِ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَدُوَّكُمْ﴾ أيِ (p-٤٨٦)العَرِيقَ في عَداوَتِكم ما دُمْتُمْ عَلى مُخالَفَتِهِ في الدِّينِ.
ولَمّا وحَّدَ لِأجْلِ ما تَقَدَّمَ مِنَ الإشارَةِ إلى اتِّحادِ الكَلِمَةِ، بَيَّنَ أنَّ المُرادَ الجَمْعُ فَقالَ: ﴿أوْلِياءَ﴾ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بَيانَ هَذا الِاتِّحادِ بِقَوْلِهِ مُشِيرًا إلى غايَةِ الإسْراعِ والمُبادَرَةِ إلى ذَلِكَ بِالتَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: ﴿تُلْقُونَ﴾ أيْ جَمِيعَ ما هو في حَوْزَتِكم مِمّا لا تَطْمَعُونَ فِيهِ إلْقاءَ الشَّيْءِ الثَّقِيلِ مِن عُلُوٍّ ﴿إلَيْهِمْ﴾ عَلى بُعْدِهِمْ مِنكم حِسًّا ومَعْنًى ﴿بِالمَوَدَّةِ﴾ [أيْ] بِسَبَبِها.
ولَمّا تَوَقَّعَ السّامِعُ التَّصْرِيحَ بِمُضادَّتِهِمْ في الوَصْفِ الَّذِي ناداهم بِهِ بَعْدَ التَّلْوِيحِ إلَيْهِ، قالَ مُلْهِبًا ومُهَيِّجًا إلى عَداوَتِهِمْ بِالتَّذْكِيرِ بِمُخالَفَتِهِمْ إيّاهُ في الِاعْتِقادِ المُسْتَلْزِمِ لِاسْتِصْغارِهِمْ لِأنَّهُ أشَدُّ المُخالَفَةِ ﴿وقَدْ﴾ أيْ والحالُ أنَّهم قَدْ ﴿كَفَرُوا﴾ أيْ غَطَّوْا جَمِيعَ ما لَكم مِنَ الأدِلَّةِ ﴿بِما﴾ أيْ بِسَبَبِ ما ﴿جاءَكم مِنَ الحَقِّ﴾ أيِ الأمْرِ الثّابِتِ الكامِلِ في الثَّباتِ الَّذِي لا شَيْءَ أعْظَمُ ثَباتًا مِنهُ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بَيانَ كُفْرِهِمْ بِما يُبْعِدُ مِن مُطْلَقِ مُوادَّتِهِمْ فَضْلًا عَنِ السَّعْيِ فِيها بِقَوْلِهِ مُذَكِّرًا لَهم بِالحالِ الماضِيَةِ زِيادَةً في التَّنْفِيرِ مِنهم ومُصَوِّرًا لَها بِما يَدُلُّ عَلى الإصْرارِ بِأنَّهم ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ﴾ أيِ الكامِلَ في الرُّسْلِيَّةِ الَّذِي يَجِبُ عَلى كُلِّ أحَدٍ عَداوَةُ مَن عاداهُ أدْنى عَداوَةٍ ولَوْ كانَ أقْرَبَ النّاسِ فَكَيْفَ إذا كانَ عَدُوًّا، وبَيَّنَ أنَّ المُخاطَبَ [مِن] أوَّلِ السُّورَةِ مِنَ المُهاجِرِينَ وأنَّ إيرادَهُ عَلى وجْهِ الجَمْعِ لِلسَّيْرِ (p-٤٨٧)والتَّعْمِيمِ في النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: ﴿وإيّاكُمْ﴾ أيْ مِن دِيارِكم مِن مَكَّةَ المُشَرَّفَةِ.
ولَمّا بَيَّنَ كُفْرَهُمْ، مُعَبِّرًا بِالمُضارِعِ إشارَةً إلى دَوامِ أذاهم لِمَن آمَنَ المُقْتَضِي لِخُرُوجِهِ عَنْ وطَنِهِ، عَلَّلَ الإخْراجَ بِما يُحَقِّقُ مَعْنى الكُفْرِ والعَداوَةِ فَقالَ: ﴿أنْ﴾ أيْ أخْرَجُوكم مِن أوْطانِكم لِأجْلِ أنْ ﴿تُؤْمِنُوا﴾ أيْ تُوقِعُوا حَقِيقَةَ الإيمانِ مَعَ التَّجْدِيدِ والِاسْتِمْرارِ.
ولَمّا كانَ الإيمانُ بِهِ سُبْحانَهُ مُسْتَحَقًّا مِن وجْهَيِ الذّاتِ والوَصْفِ لَفَتَ الخِطابَ. مِنَ التَّكَلُّمِ إلى الغَيْبَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِما فَقالَ: ﴿بِاللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي اخْتَصَّ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ، ولَمّا عَبَّرَ بِما أبانَ أنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْإيمانِ لِذاتِهِ أرْدَفَهُ بِما يَقْتَضِي وُجُوبَ ذَلِكَ لِإحْسانِهِ فَقالَ: ﴿رَبِّكُمْ﴾ ولَمّا ألْهَبَهم عَلى مُبايَنَتِهِمْ لَهم بِما فَعَلُوا مَعَهم وانْقَضى ما أُرِيدَ مِنَ التَّنْبِيهِ بِسِياقِ الغَيْبَةِ عادَ إلى التَّكَلُّمِ لِأنَّهُ أشَدُّ تَحَبُّبًا وأعْظَمُ اسْتِعْطافًا وأدَلُّ عَلى الرِّضا فَألْهَبَهم بِما كانَ مِن جانِبِهِمْ مِن ذَلِكَ [الفِعْلِ] أنْ لا يُضَيِّعُوهُ، فَقالَ مُعْلِمًا أنَّ وِلايَتَهُ سُبْحانَهُ لا تَصِحُّ إلّا بِالإيمانِ، ولا يَثْبُتُ الإيمانُ إلّا بِدَلائِلِهِ مِنَ الأعْمالِ، ولا تَصِحُّ الأعْمالُ إلّا بِالإخْلاصِ، ولا يَكُونُ الإخْلاصُ إلّا بِمُبايَنَةِ الأعْداءِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ﴾ أيْ كَوْنًا راسِخًا حِينَ أخْرَجُوكم مِن أوْطانِكم لِأجْلِ إيمانِكم بِي ﴿خَرَجْتُمْ﴾ أيْ مِنها وهي أحَبُّ البِلادِ إلَيْكم ﴿جِهادًا﴾ أيْ لِأجْلِ الجِهادِ ﴿فِي سَبِيلِي﴾ أيْ بِسَبَبِ إرادَتِكم (p-٤٨٨)تَسْهِيلَ طَرِيقِي الَّتِي شَرَعْتُها لِعِبادِي أنْ يَسْلُكُوها ﴿وابْتِغاءَ مَرْضاتِي﴾ أيْ ولِأجْلِ تَطَلُّبِكم بِأعْظَمِ الرَّغْبَةِ لِرِضايَ ولِكُلِّ فِعْلٍ يَكُونُ مَوْضِعًا لَهُ، وجَوابُ هَذا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ﴿لا تَتَّخِذُوا﴾ عَلَيْهِ.
ولَمّا فَرَغَ مِن بَيانِ [حالِ] العَدُوِّ وشَرَطَ إخْلاصَ الوَلِيِّ، وكانَ التَّقْدِيرُ: فَلا تَتَّخِذُوهم أوْلِياءَ، بَنى عَلَيْهِ قَوْلَهُ مُبَيِّنًا ﴿تُلْقُونَ﴾ إعْلامًا بِأنَّ الإسْرارَ إلى أحَدٍ بِما فِيهِ نَفْعُهُ لا يَكُونُ إلّا تَوَدُّدًا: ﴿تُسِرُّونَ﴾ أيْ تُوجِدُونَ إسْرارَ جَمِيعِ ما يَدُلُّ عَلى مُناصَحَتِهِمْ والتَّوَدُّدِ إلَيْهِمْ، وأشارَ إلى بُعْدِهِمْ عَنْهم بِقَوْلِهِ: ﴿إلَيْهِمْ﴾ إبْلاغًا في التَّوْبِيخِ بِالإشارَةِ إلى أنَّهم يَتَجَشَّمُونَ في ذَلِكَ مُسْتَفْتِينَ إبْلاغَ الأخْبارِ الَّتِي يُرِيدُ النَّبِيُّ ﷺ وهو المُؤَيَّدُ بِالوَحْيِ كَتْمَها عَنْهم عَلى وجْهِ الإسْرارِ خَوْفَ الِافْتِضاحِ والإبْلاغِ إلى المَكانِ البَعِيدِ ﴿بِالمَوَدَّةِ﴾ أيْ بِسَبَبِها أوْ بِسَبَبِ الإعْلامِ بِأخْبارٍ يُرادُ بِها أوْ يَلْزَمُ مِنها المَوَدَّةُ.
ولَمّا كانَ المُرادُ بِالإسْرارِ السَّتْرَ عَلى مَن يَكْرَهُ ذَلِكَ، قالَ مُبَكِّتًا لِمَن يَفْعَلُهُ: ﴿وأنا﴾ أيْ والحالُ أنِّي ﴿أعْلَمُ﴾ أيْ مِن كُلِّ أحَدٍ مِن نَفْسِ الفاعِلِ ﴿بِما أخْفَيْتُمْ﴾ أيْ مِن ذَلِكَ ﴿وما أعْلَنْتُمْ﴾ فَأيُّ فائِدَةٍ لِإسْرارِكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنِّي عالِمٌ بِهِ، وإنْ كُنْتُمْ تَتَوَهَّمُونَ أنِّي لا أعْلَمُهُ فَهي القاصِمَةُ.
ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ بِما هَدى إلَيْهِ العاطِفُ: فَمَن فَعَلَ مِنكم فَقَدْ ظَنَّ (p-٤٨٩)أنِّي لا أعْلَمُ الغَيْبَ أوْ فَعَلَ ما يَقْتَضِي ظَنَّ ذَلِكَ، عَطَفَ عَلَيْهِ [قَوْلَهُ]: ﴿ومَن يَفْعَلْهُ﴾ أيْ يُوجِدُ الِاتِّخاذَ سِرًّا أوْ عَلَنًا أوْ يُوجِدِ الإسْرارَ بِالمَوَدَّةِ فالإعْلانُ أوْلى في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ ماضٍ أوْ حالٍ أوِ اسْتِقْبالٍ. ولَمّا كانَ المُحِبُّ قَدْ يَفْعَلُ بِسَبَبِ الإدْلالِ ما يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّبْكِيتَ، فَإذا بُكِّتَ ظَنَّ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلى حَقِيقَتِهِ لِأنَّ مَحَبَّتَهُ لا يَضُرُّها شَيْءٌ، وكانَ قَدْ سَتَرَ المَعايِبَ بِأنْ أخْرَجَ الكَلامَ مَخْرَجَ العُمُومِ، صَرَّحَ بِأنَّ هَذا العِتابَ مُرادٌ بِهِ الإحْبابُ فَقالَ: ﴿مِنكُمْ﴾ وحَقَّقَ الأمْرَ وقَرَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ أيْ عَمِيَ ومالَ وأخْطَأ ﴿سَواءَ السَّبِيلِ﴾ أيْ قَوِيمَ الطَّرِيقِ الواسِعِ المُوَسَّعِ إلى القَصْدِ قَوِيمِهِ وعَدْلِهِ، وسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ رُوِيَ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فَبَعْضُهُ في الصَّحِيحِ عَنْ عَلِيٍّ ومِنهُ في الطَّبَرانِيِّ عَنْ أنَسٍ ومِنهُ في التَّفاسِيرِ «أنَّ سارَّةَ مَوْلاةَ أبِي عَمْرِو بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ هاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ أتَتِ المَدِينَةَ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِ مَكَّةَ فَسَألَها ما أقْدَمَها، فَقالَتْ: ذَهَبَ مَوالِيَّ وقَدِ احْتَجْتُ حاجَةً شَدِيدَةً، وكُنْتُمُ الأهْلَ والعَشِيرَةَ والمَوالِيَ، فَحَثَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ وبَنِي المُطَّلِبِ فَأعْطَوْها وكَسَوْها وحَمَلُوها، فَكَتَبَ مَعَها حاطِبُ بْنُ أبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفُ بَنِي أسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزّى ”مِن حاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ إلى أهْلِ مَكَّةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُكُمْ“ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَأعْطاها عَشْرَةَ (p-٤٩٠)دَنانِيرَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالخَبَرِ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُمَرَ وعَلِيًّا وعَمّارًا والزُّبَيْرَ وطَلْحَةَ والمِقْدادَ وأبا مَرْثَدٍ وكانُوا كُلُّهم فُرْسانًا فَقالَ: انْطَلِقُوا حَتّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خاخٍ فَإنَّ بِها ظَعِينَةً مَعَها كِتابٌ مِن حاطِبٍ إلى المُشْرِكِينَ، فَخُذُوهُ مِنها وخَلُّوا سَبِيلَها، وإنْ لَمْ تَدْفَعْهُ إلَيْكم فاضْرِبُوا عُنُقَها. فانْطَلَقُوا تُعادِي بِهِمْ خَيْلُهُمْ، فَأدْرَكُوها في ذَلِكَ المَكانِ فَأنْكَرَتْ وحَلَفَتْ بِاللَّهِ، فَفَتَّشُوها فَلَمْ يَجِدُوهُ فَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ، فَقالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما كَذَبَنا ولا كُذِبْنا، وسَلَّ سَيْفَهُ فَقالَ: أخْرِجِي الكِتابَ أوْ لَأُلْقِيَنَّ الثِّيابَ ولَأضْرِبَنَّ عُنُقَكِ، فَقالَتْ: عَلى أنْ لا تَرُدُّونِي. ثُمَّ أخْرَجَتْهُ مِن عِقاصِها قَدْ لَفَّتْ عَلَيْهِ شَعْرَها، فَخَلَّوْا سَبِيلَها، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِحاطِبٍ: هَلْ تَعْرِفُ الكِتابَ، قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَما حَمَلَكَ عَلى هَذا؟ قالَ: لا تَعْجَلْ يا رَسُولَ اللَّهِ، واللَّهِ ما كَفَرْتُ مُنْذُ أسْلَمْتُ ولا غَشَشْتُ مُنْذُ نَصَحْتُكَ ولا أحْبَبْتُهم مُنْذُ فارَقْتُهُمْ، ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ المُهاجِرِينَ إلّا ولَهُ بِمَكَّةَ مَن يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ عَشِيرَتِهِ، وكُنْتُ غَرِيبًا خَلِيفًا فِيهِمْ، وكانَ أهْلِي بَيْنَ ظَهْرانِيهِمْ فَأرَدْتُ أنْ أتَّخِذَ عِنْدَهم يَدًا يَدْفَعُ اللَّهُ بِها عَنْ أهْلِي، وقَدْ عَلِمْتُ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُنْزِلُ بِهِمْ بَأْسَهُ، (p-٤٩١)وأنَّ كِتابِي لا يُغْنِي عَنْهم شَيْئًا، فَقالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: صَدَقَ ولا تَقُولُوا لَهُ إلّا خَيْرًا، فَقالَ [عُمَرُ] بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يا رَسُولَ اللَّهِ أضْرِبْ عُنُقَ هَذا المُنافِقِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وما يُدْرِيكَ يا عُمَرُ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، فَفاضَتْ عَيْنا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقالَ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ﴾ "
الآياتِ».
وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: افْتُتِحَتْ - يَعْنِي هَذِهِ السُّورَةَ - بِوَصِيَّةِ المُؤْمِنِينَ عَلى تَرْكِ مُوالاةِ أعْدائِهِمْ ونَهْيِهِمْ عَنْ ذَلِكَ [وأمْرِهِمْ] بِالتَّبَرُّؤِ مِنهُمْ، وهو المَعْنى الوارِدُ في قَوْلِهِ خاتِمَةَ المُجادِلَةِ ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهم أوْ أبْناءَهُمْ﴾ [المجادلة: ٢٢] إلى آخِرِ السُّورَةِ، وقَدْ حَصَلَ [مِنها] أنَّ أسْنى أحْوالِ أهْلِ الإيمانِ وأعْلى مَناصِبِهِمْ ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ﴾ [المجادلة: ٢٢] فَوَصّى عِبادَهُ في افْتِتاحِ المُمْتَحِنَةِ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ مُوالاةِ الأعْداءِ ووَعَظَهم بِقِصَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والَّذِينَ مَعَهُ في تَبَرُّئِهِمْ مِن قَوْمِهِمْ ومُعاداتِهِمْ، والِاتِّصالُ في هَذا بَيِّنٌ، وكَأنَّ سُورَةَ الحَشْرِ ورَدَتْ مَوْرِدَ الِاعْتِراضِ المَقْصُودِ بِها تَمْهِيدُ الكَلامِ وتَنْبِيهُ السّامِعِ (p-٤٩٢)عَلى ما بِهِ تَمامُ الفائِدَةِ لِما ذَكَرَ أنَّ شَأْنَ المُؤْمِنِينَ أنَّهم لا يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا أقْرَبَ النّاسِ إلَيْهِمُ، اعْتَرَضَ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ مُرْتَكَباتِهِمْ، ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ ما عَجَّلَهُ لَهم مِنَ النِّقْمَةِ والنَّكالِ، ثُمَّ عادَ الأمْرُ إلى النَّهْيِ عَنْ مُوالاةِ الأعْداءِ جُمْلَةً لَهُ، ثُمَّ لَمّا كانَ أوَّلُ سُورَةِ المُمْتَحِنَةِ إنَّما نَزَلَ في حاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وكِتابِهِ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، والقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ وكُفّارُ مَكَّةَ لَيْسُوا مِن يَهُودَ، وطَلَبُوا المُعاداةَ لِلْجَمِيعِ واحِدٌ، فَلِهَذا فَضَّلَ بِما هو مِن تَمامِ الإخْبارِ بِحالِ يَهُودَ، وحِينَئِذٍ عادَ الكَلامُ إلى الوَصِيَّةِ عَنْ نَظائِرِهِمْ مِنَ الكُفّارِ المُعانِدِينَ، والتَحَمَتِ السُّوَرُ الثَّلاثُ وكَثُرَ في سُورَةِ المُمْتَحِنَةِ تَرْدادُ الوَصايا والعُهُودِ، وطَلَبَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ولِهَذا المُناسَبَةَ ذَكَرَ فِيها الحُكْمَ في بَيْعَةِ النِّساءِ وما يُشْتَرَطُ عَلَيْهِنَّ في ذَلِكَ، فَمَبْنى السُّورَةِ عَلى طَلَبِ الوَفاءِ افْتِتاحًا واخْتِتامًا حَسَبَ ما بَيَّنَ في التَّفْسِيرِ لِيُنَزِّهَ المُؤْمِنَ عَنْ حالِ مَن قَدَّمَ ذِكْرَهُ في سُورَةِ الحَشْرِ [و]فِي خاتِمَةِ سُورَةِ المُجادِلَةِ - انْتَهى.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ عَدُوِّی وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ تُلۡقُونَ إِلَیۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُوا۟ بِمَا جَاۤءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ یُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِیَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُوا۟ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَـٰدࣰا فِی سَبِیلِی وَٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِیۚ تُسِرُّونَ إِلَیۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَاۤ أَخۡفَیۡتُمۡ وَمَاۤ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن یَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَاۤءَ ٱلسَّبِیلِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق