الباحث القرآني
(فائِدَة)
قَول النَّبِي لعمر "وَما يدْريك أن الله اطّلع على أهل بدر فَقالَ اعْمَلُوا ما شِئْتُم فقد غفرت لكم"
أشكل على كثير من النّاس مَعْناهُ فَإن ظاهره إباحَة كل الأعْمال لَهُم وتخييرهم فِيما شاؤا مِنها وذَلِكَ مُمْتَنع فَقالَت طائِفَة مِنهُم ابْن الجَوْزِيّ لَيْسَ المُراد من قَوْله اعْمَلُوا الِاسْتِقْبال وإنَّما هو للماضي وتَقْدِيره أي عمل كانَ لكم فقد غفرته
قالَ ويدل على ذَلِك شَيْئانِ:
أحدهما أنه لَو كانَ للمستقبل كانَ جَوابه قَوْله فسأغفر لكم.
والثّانِي أنه كانَ يكون إطلاقا في الذُّنُوب ولا وجه لذَلِك.
وَحَقِيقَة هَذا الجَواب أنِّي قد غفرت لكم بِهَذِهِ الغَزْوَة ما سلف من ذنوبكم لكنه ضَعِيف من وجْهَيْن:
أحدهما أن لفظ اعْمَلُوا يأباه فَإنَّهُ للاستقبال دون الماضِي
وَقَوله فقد غفرت لكم لا يُوجب أن يكون اعْمَلُوا مثله فَإن قَوْله قد غفرت تَحْقِيق لوُقُوع المَغْفِرَة في المُسْتَقْبل كَقَوْلِه ﴿أتى أمر الله﴾ ﴿وَجاء رَبك﴾ ونظائره.
الثّانِي أن نفس الحَدِيث يردّه فَإن سَببه قصّة حاطِب وتجسسه على النَّبِي وذَلِكَ ذَنْب واقع بعد غَزْوَة بدر لا قبلها وهو سَبَب الحَدِيث فَهو مُراد مِنهُ قطعا فالَّذِي نظن في ذَلِك والله أعلم أن هَذا خطاب لقوم قد علم الله سُبْحانَهُ أنّهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الإسْلام وأنَّهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غَيرهم من الذُّنُوب ولَكِن لا يتركهم سُبْحانَهُ مصرِّين عَلَيْها بل يوفّقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذَلِك ويكون تخصيصهم بِهَذا دون غَيرهم لِأنَّهُ قد تحقق ذَلِك فيهم وأنَّهم مغْفُور لَهُم ولا يمْنَع ذَلِك كَون المَغْفِرَة حصلت بِأسْباب تقوم بهم كَما لا يَقْتَضِي ذَلِك أن يعطّلوا الفَرائِض وثوقا بالمغفرة فَلَو كانَت قد حصلت بِدُونِ الِاسْتِمْرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذَلِك إلى صَلاة ولا صِيام ولا حج ولا زَكاة ولا جِهاد وهَذا محال ومن أوجب الواجِبات التَّوْبَة بعد الذَّنب فضمان المَغْفِرَة لا يوجّب تَعْطِيل أسباب المَغْفِرَة ونَظِير هَذا قَوْله في الحَدِيث الآخر أذْنب عبد ذَنبا فَقالَ أي ربّ أذنبت ذَنبا فاغفره لي فغفر لَهُ ثمَّ مكث ما شاءَ الله أن يمْكث ثمَّ أذْنب ذَنبا آخر فَقالَ أي ربّ أصبت ذَنبا فاغْفِر لي فغفر لَهُ ثمَّ مكث ما شاءَ الله أن يمْكث ثمَّ أذْنب ذَنبا آخر فَقالَ رب أصبت ذَنبا فاغفره لي فَقالَ الله علم عَبدِي أن لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب ويَأْخُذ بِهِ قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاءَ فَلَيْسَ في هَذا إطْلاق وإذن مِنهُ سُبْحانَهُ لَهُ في المحرّمات والجرائم وإنَّما يدل على أنه يغْفر لَهُ ما دامَ كَذَلِك إذا أذْنب تابَ واختصاص هَذا العَبْد بِهَذا، لِأنَّهُ قد علم أنه لا يصر على ذَنْب وأنه كلما أذْنب تابَ حكم يعم كل من كانَت حاله حاله لَكِن ذَلِك العَبْد مَقْطُوع لَهُ بذلك كَما قطع بِهِ لأهل بدر وكَذَلِكَ كل من بشّره رَسُول الله بِالجنَّةِ أو أخبرهُ بِأنَّهُ مغْفُور لَهُ لم يفهم مِنهُ هو ولا غَيره من الصَّحابَة إطْلاق الذُّنُوب والمعاصي لَهُ، ومسامحته بترك الواجِبات بل كانَ هَؤُلاءِ أشد اجْتِهادًا وحذرا وخوفا بعد البشارَة مِنهُم قبلها، كالعشرة المَشْهُود لَهُم بِالجنَّةِ.
وَقد كانَ الصديّق شَدِيد الحذر والمخافة، وكَذَلِكَ عمر، فَلهم علمُوا أن البشارَة المُطلقَة مقيّدة بشروطها والاستمرار عَلَيْها إلى المَوْت، ومقيدة بانتقاء موانعها ولم يفهم أحد مِنهُم من ذَلِك الإطْلاق الإذْن فِيما شاءوا من الأعْمال.
* (فصل)
وَأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النّاسَ بِالجَهازِ، وأمَرَ أهْلَهُ أنْ يُجَهِّزُوهُ، فَدَخَلَ أبو بكر عَلى ابْنَتِهِ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وهي تُحَرِّكُ بَعْضَ جَهازِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: أيْ بُنَيَّةُ أمَرَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَجْهِيزِهِ؟ قالَتْ: نَعَمْ فَتَجَهَّزْ، قالَ: فَأيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ؟ قالَتْ: لا واللَّهِ ما أدْرِي. ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أعْلَمَ النّاسَ أنَّهُ سائِرٌ إلى مَكَّةَ، فَأمَرَهم بِالجِدِّ والتَّجْهِيزِ، وقالَ: «اللَّهُمَّ خُذِ العُيُونَ والأخْبارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتّى نَبْغَتَها في بِلادِها»
فَتَجَهَّزَ النّاسُ.
فَكَتَبَ حاطِبُ بْنُ أبِي بَلْتَعَةَ إلى قُرَيْشٍ كِتابًا يُخْبِرُهم بِمَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَيْهِمْ، ثُمَّ أعْطاهُ امْرَأةً، وجَعَلَ لَها جُعْلًا عَلى أنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ في قُرُونٍ في رَأْسِها، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ، وأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الخَبَرُ مِنَ السَّماءِ بِما صَنَعَ حاطب، فَبَعَثَ عليا والزبير - وغَيْرُ ابْنِ إسْحاقَ يَقُولُ: «بَعَثَ عليا والمقداد والزبير - فَقالَ: انْطَلِقا حَتّى تَأْتِيا رَوْضَةَ خاخٍ، فَإنَّ بِها ظَعِينَةً مَعَها كِتابٌ إلى قُرَيْشٍ، فانْطَلَقا تَعادى بِهِما خَيْلُهُما، حَتّى وجَدا المَرْأةَ بِذَلِكَ المَكانِ فاسْتَنْزَلاها، وقالا: مَعَكِ كِتابٌ؟ فَقالَتْ: ما مَعِي كِتابٌ، فَفَتَّشا رَحْلَها فَلَمْ يَجِدا شَيْئًا، فَقالَ لَها علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحْلِفُ بِاللَّهِ ما كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولا كَذَبْنا، واللَّهِ لَتُخْرِجِنَّ الكِتابَ، أوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ، فَلَمّا رَأتِ الجِدَّ مِنهُ، قالَتْ: أعْرِضْ، فَأعْرَضَ فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِها فاسْتَخْرَجَتِ الكِتابَ مِنها، فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِما فَأتَيا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَإذا فِيهِ:
مِن حاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ إلى قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهم بِمَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَيْهِمْ، فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حاطبا، فَقالَ: ما هَذا يا حاطب؟ فَقالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ يا رَسُولَ اللَّهِ، واللَّهِ إنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، وما ارْتَدَدْتُ ولا بَدَّلْتُ ولَكِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ لَسْتُ مِن أنْفُسِهِمْ، ولِي فِيهِمْ أهْلٌ وعَشِيرَةٌ ووَلَدٌ ولَيْسَ لِي فِيهِمْ قَرابَةٌ يَحْمُونَهُمْ، وكانَ مَن مَعَكَ لَهم قَراباتٌ يَحْمُونَهُمْ، فَأحْبَبْتُ إذْ فاتَنِي ذَلِكَ أنْ أتَّخِذَ عِنْدَهم يَدًا يَحْمُونَ بِها قَرابَتِي، فَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: دَعْنِي يا رَسُولَ اللَّهِ أضْرِبْ عُنُقَهُ فَإنَّهُ قَدْ خانَ اللَّهَ ورَسُولَهُ وقَدْ نافَقَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْرِيكَ يا عمر لَعَلَّ اللَّهَ قدِ اطَّلَعَ عَلى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكم " فَذَرَفَتْ عَيْنا عمر، وقالَ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ».
ثُمَّ مَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو صائِمٌ، والنّاسُ صِيامٌ حَتّى إذا كانُوا بِالكُدَيْدِ - وهو الَّذِي تُسَمِّيهِ النّاسُ اليَوْمَ قُدَيْدًا - أفْطَرَ وأفْطَرَ النّاسُ مَعَهُ.
ثُمّ مَضى حَتّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرانِ، وهو بَطْنُ مَرٍّ، ومَعَهُ عَشَرَةُ آلافٍ وعَمّى اللَّهُ الأخْبارَ عَنْ قُرَيْشٍ فَهم عَلى وجَلٍ وارْتِقابٍ، وكانَ أبو سفيان يَخْرُجُ يَتَحَسَّسُ الأخْبارَ، فَخَرَجَ هو وحَكِيمُ بْنُ حِزامٍ، وبديل بن ورقاء، يَتَحَسَّسُونَ الأخْبارَ، وكانَ العباس قَدْ خَرَجَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأهْلِهِ وعِيالِهِ مُسْلِمًا مُهاجِرًا، فَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالجُحْفَةِ، وقِيلَ فَوْقَ ذَلِكَ، وكانَ مِمَّنْ لَقِيَهُ في الطَّرِيقِ ابْنُ عَمِّهِ أبُو سُفْيانَ بْنُ الحارِثِ، وعبد الله بن أبي أمية، لَقِياهُ بِالأبْواءِ، وهُما ابْنُ عَمِّهِ وابْنُ عَمَّتِهِ، فَأعْرَضَ عَنْهُما، لِما كانَ يَلْقاهُ مِنهُما مِن شِدَّةِ الأذى والهَجْوِ، فَقالَتْ لَهُ أم سلمة: لا يَكُنِ ابْنُ عَمِّكَ وابْنُ عَمَّتِكَ أشْقى النّاسِ بِكَ، وقالَ علي لأبي سفيان فِيما حَكاهُ أبو عمر: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِن قِبَلِ وجْهِهِ، فَقُلْ لَهُ ما قالَ إخْوَةُ يُوسُفَ لِيُوسُفَ: ﴿تاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وإنْ كُنّا لَخاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٩١] فَإنَّهُ لا يَرْضى أنْ يَكُونَ أحَدٌ أحْسَنَ مِنهُ قَوْلًا، فَفَعَلَ ذَلِكَ أبو سفيان، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكم وهو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ [يوسف: ٩٢]
فَأنْشَدَهُ أبو سفيان أبْياتًا، مِنها:
؎لَعَمْرُكَ إنِّي حِينَ أحْمِلُ رايَةً ∗∗∗ لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
؎لَكالمُدْلِجِ الحَيْرانِ أظْلَمَ لَيْلُهُ ∗∗∗ فَهَذا أوانِي حِينَ أُهْدى فَأهْتَدِي
؎هَدانِي هادٍ غَيْرُ نَفْسِي ودَلَّنِي ∗∗∗ عَلى اللَّهِ مَن طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ
فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَدْرَهُ وقالَ: "أنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدٍ " وحَسُنَ إسْلامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَيُقالُ: إنَّهُ ما رَفَعَ رَأْسَهُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُنْذُ أسْلَمَ حَياءً مِنهُ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّهُ، وشَهِدَ لَهُ بِالجَنَّةِ وقالَ: " «أرْجُو أنْ يَكُونَ خَلَفًا مِن حمزة» "، ولَمّا حَضَرَتْهُ الوَفاةُ، قالَ: "لا تَبْكُوا عَلَيَّ، فَواللَّهِ ما نَطَقْتُ بِخَطِيئَةٍ مُنْذُ أسْلَمْتُ "
فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَرَّ الظَّهْرانِ، نَزَلَهُ عِشاءً، فَأمَرَ الجَيْشَ فَأوْقَدُوا النِّيرانَ، فَأُوقِدَتْ عَشَرَةُ آلافِ نارٍ، وجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى الحَرَسِ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرَكِبَ العباس بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ البَيْضاءَ وخَرَجَ يَلْتَمِسُ لَعَلَّهُ يَجِدُ بَعْضَ الحَطّابَةِ، أوْ أحَدًا يُخْبِرُ قُرَيْشًا؛ لِيَخْرُجُوا يَسْتَأْمِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ أنْ يَدْخُلَها عَنْوَةً، قالَ: واللَّهِ إنِّي لَأسِيرُ عَلَيْها إذْ سَمِعْتُ كَلامَ أبي سفيان، وبديل بن ورقاء وهُما يَتَراجَعانِ وأبو سفيان يَقُولُ: ما رَأيْتُ كاللَّيْلَةِ نِيرانًا قَطُّ ولا عَسْكَرًا، قالَ: يَقُولُ بديل: هَذِهِ واللَّهِ خُزاعَةُ حَمَشَتْها الحَرْبُ، فَيَقُولُ أبو سفيان: خُزاعَةُ أقَلُّ وأذَلُّ مِن أنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرانَها وعَسْكَرَها، قالَ: فَعَرَفْتُ صَوْتَهُ، فَقُلْتُ: أبا حنظلة، فَعَرَفَ صَوْتِي فَقالَ: أبا الفضل؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ: ما لَكَ فِداكَ أبِي وأُمِّي؟ قالَ: قُلْتُ: هَذا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في النّاسِ، واصَباحَ قُرَيْشٍ واللَّهِ، قالَ: فَما الحِيلَةُ فِداكَ أبِي وأُمِّي؟ قُلْتُ: واللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فارْكَبْ في عَجُزِ هَذِهِ البَغْلَةِ حَتّى آتِيَ بِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأسْتَأْمِنُهُ لَكَ، فَرَكِبَ خَلْفِي، ورَجَعَ صاحِباهُ، قالَ: فَجِئْتُ بِهِ، فَكُلَّما مَرَرْتُ بِهِ عَلى نارٍ مِن نِيرانِ المُسْلِمِينَ قالُوا: " مَن هَذا؟ " فَإذا رَأوْا بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأنا عَلَيْها، قالُوا: عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى بَغْلَتِهِ، حَتّى مَرَرْتُ بِنارِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، فَقالَ: مَن هَذا؟ وقامَ إلَيَّ فَلَمّا رَأى أبا سفيان عَلى عَجُزِ الدّابَّةِ قالَ: أبو سفيان عَدُوُّ اللَّهِ؟ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أمْكَنَ مِنكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ ولا عَهْدٍ، ثُمَّ خَرَجَ يَشْتَدُّ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ورَكَضْتُ البَغْلَةَ فَسَبَقَتْ فاقْتَحَمْتُ عَنِ البَغْلَةِ، فَدَخَلْتُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ودَخَلَ عَلَيْهِ عمر، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ هَذا أبو سفيان فَدَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَهُ، قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إنِّي قَدْ أجَرْتُهُ، ثُمَّ جَلَسْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأخَذْتُ بِرَأْسِهِ، فَقُلْتُ: واللَّهِ لا يُناجِيهِ اللَّيْلَةَ أحَدٌ دُونِي، فَلَمّا أكْثَرَ عمر في شَأْنِهِ، قُلْتُ: مَهْلًا يا عمر، فَواللَّهِ لَوْ كانَ مِن رِجالِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ ما قُلْتَ مِثْلَ هَذا، قالَ: مَهْلًا يا عباس، " فَواللَّهِ لَإسْلامُكَ كانَ أحَبَّ إلَيَّ مِن إسْلامِ الخطاب لَوْ أسْلَمَ، وما بِي إلّا أنِّي قَدْ عَرَفْتُ أنَّ إسْلامَكَ كانَ أحَبَّ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن إسْلامِ الخطاب، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " «اذْهَبْ بِهِ يا عباس إلى رَحْلِكَ، فَإذا أصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ، فَذَهَبْتُ فَلَمّا أصْبَحْتُ غَدَوْتُ بِهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قالَ: " ويْحَكَ يا أبا سفيان ألَمْ يَأْنِ لَكَ أنْ تَعْلَمَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ؟ " قالَ: بِأبِي أنْتَ وأُمِّي ما أحْلَمَكَ وأكْرَمَكَ وأوْصَلَكَ، لَقَدْ ظَنَنْتُ أنْ لَوْ كانَ مَعَ اللَّهِ إلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أغْنى شَيْئًا بَعْدُ، قالَ: ويْحَكَ يا أبا سفيان ألَمْ يَأْنِ لَكَ أنْ تَعْلَمَ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ»؟ " قالَ: بِأبِي أنْتَ وأُمِّي ما أحْلَمَكَ وأكْرَمَكَ وأوْصَلَكَ، أمّا هَذِهِ فَإنَّ في النَّفْسِ حَتّى الآنَ مِنها شَيْئًا، فَقالَ لَهُ العباس: ويْحَكَ أسْلِمْ واشْهَدْ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَبْلَ أنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ، فَأسْلَمَ وشَهِدَ شَهادَةَ الحَقِّ " فَقالَ العباس: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أبا سفيان رَجُلٌ يُحِبُّ الفَخْرَ، فاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا، قالَ: نَعَمْ
«مَن دَخَلَ دارَ أبي سفيان فَهو آمِنٌ، ومَن أغْلَقَ عَلَيْهِ بابَهُ فَهو آمِنٌ، ومَن دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرامَ فَهو آمِنٌ».
وَأمَرَ العباس أنْ يَحْبِسَ أبا سفيان بِمَضِيقِ الوادِي عِنْدَ خَطْمِ الجَبَلِ؛ حَتّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللَّهِ فَيَراها، فَفَعَلَ فَمَرَّتِ القَبائِلُ عَلى راياتِها، كُلَّما مَرَّتْ بِهِ قَبِيلَةٌ قالَ: يا عباس مَن هَذِهِ؟ فَأقُولُ: سُلَيْمٌ، قالَ: فَيَقُولُ: ما لِي ولِسُلَيْمٍ، ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ القَبِيلَةُ، فَيَقُولُ: يا عباس مَن هَؤُلاءِ؟، فَأقُولُ: مُزَيْنَةُ، فَيَقُولُ: ما لِي ولِمُزَيْنَةَ، حَتّى نَفِدَتِ القَبائِلُ، ما تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إلّا سَألَنِي عَنْها، فَإذا أخْبَرْتُهُ بِهِمْ، قالَ: ما لِي ولِبَنِي فُلانٍ، حَتّى مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في كَتِيبَتِهِ الخَضْراءِ فِيها المُهاجِرُونَ والأنْصارُ، لا يُرى مِنهم إلّا الحَدَقُ مِنَ الحَدِيدِ، قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ يا عباس مَن هَؤُلاءِ؟
قالَ: قُلْتُ: هَذا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، قالَ: ما لِأحَدٍ بِهَؤُلاءِ قِبَلٌ ولا طاقَةٌ، ثُمَّ قالَ: واللَّهِ يا أبا الفضل لَقَدْ أصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أخِيكَ اليَوْمَ عَظِيمًا، قالَ: قُلْتُ: يا أبا سفيان إنَّها النُّبُوَّةُ، قالَ: فَنَعَمْ إذًا، قالَ: قُلْتُ: النَّجاءُ إلى قَوْمِكَ.
وَكانَتْ رايَةُ الأنْصارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبادَةَ، فَلَمّا مَرَّ بأبي سفيان قالَ لَهُ: اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الحُرْمَةُ، اليَوْمَ أذَلَّ اللَّهُ قُرَيْشًا.
فَلَمّا حاذى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أبا سفيان قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ألَمْ تَسْمَعْ ما قالَ سعد؟ قالَ: وما قالَ؟ فَقالَ: كَذا وكَذا، فَقالَ عثمان وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما نَأْمَنُ أنْ يَكُونَ لَهُ في قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَلِ اليَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فِيهِ الكَعْبَةُ، اليَوْمَ يَوْمٌ أعَزَّ اللَّهُ فِيهِ قُرَيْشًا».
ثُمَّ أرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى سعد فَنَزَعَ مِنهُ اللِّواءَ ودَفَعَهُ إلى قيس ابْنِهِ، ورَأى أنَّ اللِّواءَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سعد، إذْ صارَ إلى ابْنِهِ، قالَ أبو عمر: ورُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا نَزَعَ مِنهُ الرّايَةَ دَفَعَها إلى الزبير.
وَمَضى أبو سفيان حَتّى إذا جاءَ قُرَيْشًا، صَرَخَ بِأعْلى صَوْتِهِ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذا مُحَمَّدٌ قَدْ جاءَكم فِيما لا قِبَلَ لَكم بِهِ، فَمَن دَخَلَ دارَ أبي سفيان فَهو آمِنٌ، فَقامَتْ إلَيْهِ هند بنت عتبة فَأخَذَتْ بِشارِبِهِ، فَقالَتْ: اقْتُلُوا الحَمِيتَ الدَّسِمَ الأحْمَشَ السّاقَيْنِ قُبِّحَ مِن طَلِيعَةِ قَوْمٍ، قالَ: ويْلَكم لا تَغُرَّنَّكم هَذِهِ مِن أنْفُسِكُمْ، فَإنَّهُ قَدْ جاءَكم ما لا قِبَلَ لَكم بِهِ، مَن دَخَلَ دارَ أبي سفيان فَهو آمِنٌ، ومَن دَخَلَ المَسْجِدَ فَهو آمِنٌ، قالُوا: قاتَلَكَ اللَّهُ، وما تُغْنِي عَنّا دارُكَ؟ قالَ: ومَن أغْلَقَ عَلَيْهِ بابَهُ فَهو آمِنٌ، ومَن دَخَلَ المَسْجِدَ فَهو آمِنٌ، فَتَفَرَّقَ النّاسُ إلى دُورِهِمْ وإلى المَسْجِدِ.
وَسارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَدَخَلَ مَكَّةَ مِن أعْلاها وضُرِبَتْ لَهُ هُنالِكَ قُبّةٌ، وأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خالِدَ بْنَ الوَلِيدِ أنْ يَدْخُلَها مِن أسْفَلِها، وكانَ عَلى المُجَنِّبَةِ اليُمْنى، وفِيها أسْلَمُ وسُلَيْمٌ وغِفارٌ ومُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ، وقَبائِلُ مِن قَبائِلِ العَرَبِ، وكانَ أبو عبيدة عَلى الرَّجّالَةِ والحُسَّرِ، وهُمُ الَّذِينَ لا سِلاحَ مَعَهُمْ، وقالَ لخالد ومَن مَعَهُ: إنْ عَرَضَ لَكم أحَدٌ مِن قُرَيْشٍ فاحْصُدُوهم حَصْدًا حَتّى تُوافُونِي عَلى الصَّفا، فَما عَرَضَ لَهم أحَدٌ إلّا أنامُوهُ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ عَدُوِّی وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ تُلۡقُونَ إِلَیۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُوا۟ بِمَا جَاۤءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ یُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِیَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُوا۟ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَـٰدࣰا فِی سَبِیلِی وَٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِیۚ تُسِرُّونَ إِلَیۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَاۤ أَخۡفَیۡتُمۡ وَمَاۤ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن یَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَاۤءَ ٱلسَّبِیلِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق