ولَمّا كانَ هَذا الكَلامُ ساقِطًا في نَفْسِهِ لِما قامَ مِنَ الأدِلَّةِ الباهِرَةِ (p-١٤١)عَلى صِدْقِ القُرْآنِ وكانَ الوُقُوفُ مَعَ المَحْسُوساتِ غالِبًا عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ نُفُوذِهِمْ في المَعْقُولاتِ، دَلَّ عَلى بُطْلانِهِ لِمُوافَقَةِ القُرْآنِ لِأعْظَمِ الكُتُبِ القَدِيمَةِ التَّوْراةِ الَّتِي اشْتُهِرَ أنَّها مِن عِنْدِ اللَّهِ وأنَّ الآتِيَ بِها كُلِّمَ وقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ في الإتْيانِ بِها بِما لَمْ يَأْتِ بِهِ قَبْلَهُ مِنَ المُعْجِزاتِ والآياتِ البَيِّناتِ وهم يَسْتَفْتُونَ أهْلَها، فَقالَ عَلى وجْهِ التَّبْكِيتِ [لَهُمْ] والتَّوْبِيخِ: ﴿ومِن﴾ أيْ: قالُوا ذَلِكَ والحالُ أنَّهُ كانَ في بَعْضِ الزَّمَنِ الَّذِي مِن ﴿قَبْلِهِ﴾ أيِ: القُرْآنِ العَظِيمِ الَّذِي حُرِمُوا تَدَبُّرَ آياتِهِ وحَلِّ مُشْكِلاتِهِ وأعْجَزَهم فَصاحَتُهُ ﴿كِتابُ مُوسى﴾ كَلِمُ اللَّهِ وصَفْوَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو التَّوْراةُ الَّتِي كَلَّمَهُ اللَّهُ بِها تَكْلِيمًا حالَ كَوْنِ كِتابِهِ ﴿إمامًا﴾ أيْ: يَسْتَحِقُّ أنْ يَؤُمَّهُ كُلُّ مَن سَمِعَ بِهِ في أُصُولِ الدِّينِ مُطْلَقًا وفي جَمِيعِ ما فِيهِ قَبْلَ تَحْرِيفِهِ ونَسْخِهِ وتَبْدِيلِهِ ﴿ورَحْمَةً﴾ لِما فِيهِ مِن نِعْمَةِ الدَّلالَةِ عَلى اللَّهِ والبَيانِ الشّافِي فَهَبْهم طَعَنُوا في هَذا القُرْآنِ وهم لا يَقْدِرُونَ عَلى الطَّعْنِ في كِتابِ مُوسى الَّذِي قَدْ سَلَّمُوا لِأهْلِهِ أنَّهم أهْلُ العِلْمِ وجَعَلُوهم حُكَماءَ يَرْضَوْنَ بِقَوْلِهِمْ في هَذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ، وكِتابُهم مُصادِقٌ لِكِتابِهِمْ (p-١٤٢)فَقَدْ صارُوا بِذَلِكَ مُصَدِّقِينَ بِما كَذَّبُوا بِهِ، ولِذَلِكَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وهَذا﴾ أيِ: القُرْآنُ المُبِينُ المُبَيِّنُ ﴿كِتابُ﴾ أيْ: جامِعٌ لِجَمِيعِ الخَيْراتِ. ولَمّا أُرِيدَ تَعْمِيمُ التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ والحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ، حَذَفَ المُتَعَلِّقَ فَقالَ: ﴿مُصَدِّقٌ﴾ أيْ: لِكِتابِ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وغَيْرِهِ مِنَ الكُتُبِ الَّتِي تَصِحُّ نِسْبَتُها إلى اللَّهِ تَعالى؛ فَإنَّ جَمِيعَ الكُتُبِ الَّتِي جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ناطِقَةٌ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وأنَّ هَذا الكِتابَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذا فَأنّى يَصِحُّ فِيما هَذا شَأْنُهُ أنْ يَكُونَ إفْكًا، إنَّما الإفْكُ ما كَذَّبَ كُتُبَ اللَّهِ الَّتِي أتَتْ بِها أنْبِياؤُهُ وتَوارَثَها أوْلِياؤُهُ.
ولَمّا كانَ الكِتابُ قَدْ تَقُومُ الأدِلَّةُ عَلى مُصادَقَتِهِ لِكُتُبِ اللَّهِ ويَكُونُ بِغَيْرِ لِسانِ المُكَذِّبِ بِهِ فَيَكُونُ في التَّكْذِيبِ أقَلَّ مَلامَةً، احْتُرِزَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿لِسانًا﴾ أيْ: أُشِيرَ إلى هَذا المُصَدِّقِ القَرِيبِ مِنكم زَمانًا ومَكانًا وفَهْمًا حالَ كَوْنِهِ ﴿عَرَبِيًّا﴾ في أعْلى طَبَقاتِ اللِّسانِ العَرَبِيِّ مَعَ كَوْنِهِ أسْهَلَ الكُتُبِ تَناوُلًا وأبْعَدَها عَنِ التَّكْلِيفِ، لَيْسَ هو بِحَيْثُ يَمْنَعُهُ عُلُوُّهُ بِفَخامَةِ الألْفاظِ وجَلالَةِ المَعانِي وعُلُوِّ النَّظْمِ ورَصافَةِ السَّبْكِ ووَجازَةِ (p-١٤٣)العِبارَةِ، وظُهُورِ المَعانِي ودِقَّةِ الإشارَةِ مَعَ سُهُولَةِ الفَهْمِ وقُرْبِ المُتَناوَلِ بَعْدَ بُعْدِ المَغْزى.
ولَمّا دَلَّ عَلى أنَّ الكِتابَ حَقٌّ، بَيَّنَ ثَمَرَتَهُ فَقالَ: ﴿لِيُنْذِرَ﴾ أيْ: أُشِيرَ إلى الكِتابِ [فِي هَذا الحالِ لِيُنْذِرَ الكِتابُ] بِحُسْنِ بَيانِهِ وعَظِيمِ شَأْنِهِ ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ سَواءٌ كانُوا عَرِيقِينَ في الظُّلْمِ أمْ لا، فَأمّا العَرِيقُونَ فَهو لَهم نُذُرِي كامِلَةٌ، فَإنَّهم لا يَهْتَدُونَ كَما تَقَدَّمَ، وأمّا غَيْرُهم فَيَهْتَدِي بِنِذارَتِهِ ويَسْعَدُ بِعِبارَتِهِ وإشارَتِهِ، ولِيُبَشِّرَ الَّذِينَ أحْسَنُوا في وقْتٍ ما ”ما“ هو ”بُشْرى“ كامِلَةٌ ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾ لا نِذارَةَ لَهم لا في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ، فالآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: أثْبَتَ أوَّلًا ”يُنْذِرَ“ و”الَّذِينَ ظَلَمُوا“ دَلالَةً عَلى حَذْفِ [نَحْوِهِ ثانِيًا، ”وبُشْرى“ و”لِلْمُحْسِنِينَ“ ثانِيًا دَلالَةً عَلى] ”نُذُرِي“ و”لِلظّالِمِينَ“ أوَّلًا.
{"ayah":"وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِمَامࣰا وَرَحۡمَةࣰۚ وَهَـٰذَا كِتَـٰبࣱ مُّصَدِّقࣱ لِّسَانًا عَرَبِیࣰّا لِّیُنذِرَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُحۡسِنِینَ"}