﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إلَيْهِ وإذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذا إفْكٌ قَدِيمٌ﴾ ﴿ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إمامًا ورَحْمَةً وهَذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿ووَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ إحْسانًا﴾ ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووَضَعَتْهُ كُرْهًا وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتّى إذا بَلَغَ أشُدَّهُ وبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وأصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي إنِّي تُبْتُ إلَيْكَ وإنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهم أحْسَنَ ما عَمِلُوا ونَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ في أصْحابِ الجَنَّةِ وعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ﴾ ﴿والَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أتَعِدانِنِي أنْ أُخْرَجَ وقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي وهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ ويْلَكَ آمِن إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ إنَّهم كانُوا خاسِرِينَ﴾ ﴿ولِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا ولِيُوَفِّيَهم أعْمالَهم وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ .
(p-٥٩)قالَ قَتادَةُ: هي مَقالَةُ كُفّارِ قُرَيْشٍ لِلَّذِينَ آمَنُوا: أيْ لِأجْلِ الَّذِينَ آمَنُوا: واللّامُ لِلتَّبْلِيغِ. ثُمَّ انْتَقَلُوا إلى الغَيْبَةِ في قَوْلِهِمْ: ﴿ما سَبَقُونا﴾، ولَوْ لَمْ يَنْتَقِلُوا لَكانَ الكَلامُ ما سُبِقْتُمْ إلَيْهِ. ولَمّا سَمِعُوا أنَّ جَماعَةً آمَنُوا خاطَبُوا جَماعَةً مِنَ المُؤْمِنِينَ، أيْ قالُوا: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إلَيْهِ﴾: أُولَئِكَ الَّذِينَ بَلَغَنا إيمانُهم يُرِيدُونَ عَمّارًا وصُهَيْبًا وبِلالًا ونَحْوَهم مِمَّنْ أسْلَمَ وآمَنَ بِالنَّبِيِّ ﷺ . وقالَ الكَلْبِيُّ والزَّجّاجُ: هي مَقالَةُ كِنانَةَ وعامِرٍ وسائِرِ قَبائِلِ العَرَبِ المُجاوِرَةِ. قالَتْ ذَلِكَ حِينَ أسْلَمَتْ غِفارٌ ومُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ، أيْ لَوْ كانَ هَذا الدِّينُ خَيْرًا، ما سَبَقَنا إلَيْهِ الرُّعاةُ. وقالَ الثَّعْلَبِيُّ: هي مَقالَةُ اليَهُودِ حِينَ أسْلَمَ ابْنُ سَلامٍ وغَيْرُهُ مِنهم. وقالَ أبُو المُتَوَكِّلِ: أسْلَمَ أبُو ذَرٍّ، ثُمَّ أسْلَمَتْ غِفارٌ، فَقالَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ. وقِيلَ: أسْلَمَتْ أمَةٌ لِعُمَرَ، فَكانَ يَضْرِبُها، حَتّى يَفْتُرَ ويَقُولَ: لَوْلا أنِّي فَتَرْتُ لَزِدْتُكِ ضَرْبًا فَقالَ كُفّارُ قُرَيْشٍ: لَوْ كانَ ما يَدْعُو إلَيْهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا، ما سَبَقَتْنا إلَيْهِ فُلانَةُ. والظّاهِرُ أنَّ اسْمَ كانَ هو القُرْآنُ، وعَلَيْهِ يَعُودُ بِهِ ويُؤَيِّدُهُ، ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى. وقِيلَ: بِهِ عائِدٌ عَلى الرَّسُولِ، والعامِلُ في إذْ مَحْذُوفٌ، أيْ ﴿وإذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ﴾، ظَهَرَ عِنادُهم. وقَوْلُهُ: (فَسَيَقُولُونَ)، مُسَبَّبٌ عَنْ ذَلِكَ الجَوابِ المَحْذُوفِ، لِأنَّ هَذا القَوْلَ هو ناشِئٌ عَنِ العِنادِ، ويَمْتَنِعُ أنْ يَعْمَلَ في إذْ فَسَيَقُولُونَ، لِحَيْلُولَةِ الفاءِ ولِتَعانُدِ زَمانِ إذْ وزَمانِ سَيَقُولُونَ.
﴿إفْكٌ قَدِيمٌ﴾، كَما قالُوا: ﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾، وقِدَمُهُ بِمُرُورِ الأعْصارِ عَلَيْهِ.
ولَمّا طَعَنُوا في صِحَّةِ القُرْآنِ، قِيلَ لَهم: إنَّهُ أنْزَلَ اللَّهُ مِن قَبْلِهِ التَّوْراةَ عَلى مُوسى، وأنْتُمْ لا تُنازَعُونَ في ذَلِكَ، فَلا يُنازَعُ في إنْزالِ القُرْآنِ. (إمامًا) أيْ يُهْتَدى بِهِ، إنَّ فِيهِ البِشارَةَ بِمَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإرْسالِهِ، فَيَلْزَمُ اتِّباعُهُ والإيمانُ بِهِ، وانْتَصَبَ إمامًا عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيهِ العامِلُ في: (ومِن قَبْلِهِ)، أيْ وكِتابُ مُوسى كانَ مِن قَبْلِ القُرْآنِ في حالِ كَوْنِهِ إمامًا. وقَرَأ الكَلْبِيُّ: كِتابَ مُوسى، نَصَبَ وفَتَحَ مِيمَ مَن عَلى أنَّها مَوْصُولَةٌ، تَقْدِيرُهُ: وآتَيْنا الَّذِي قَبْلَهُ كِتابَ مُوسى. وقِيلَ: انْتَصَبَ إمامًا بِمَحْذُوفٍ، أيْ أنْزَلْناهُ إمامًا، أيْ قُدْوَةً يُؤْتَمُّ بِهِ، (ورَحْمَةً) لِمَن عَمِلَ بِهِ، وهَذا إشارَةٌ إلى القُرْآنِ.
﴿كِتابٌ مُصَدِّقٌ﴾ لَهُ، أيْ لِكِتابِ مُوسى، وهي التَّوْراةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْ خَبَرَهُ وخَبَرَ مَن جاءَ بِهِ، وهو الرَّسُولُ. فَجاءَ هو مُصَدِّقًا لِتِلْكَ الأخْبارِ، أوْ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ الإلَهِيَّةِ. ولِسانًا: حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في ”مُصَدِّقٌ“، والعامِلُ فِيهِ مُصَدِّقٌ، أوْ مِن ”كِتابٌ“، إذْ قَدْ وصَفَ العامِلُ فِيهِ اسْمَ الإشارَةِ. أوْ لِسانًا: حالُ مَوْطِئِهِ، والحالُ في الحَقِيقَةِ هو ”عَرَبِيًّا“، أوْ عَلى حَذْفٍ، أيْ ذا الشَّأْنِ عَرَبِيٌّ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِـ ”مُصَدِّقٌ“، أيْ هَذا القُرْآنُ مُصَدِّقٌ مَن جاءَ بِهِ وهو الرَّسُولُ، وذَلِكَ بِإعْجازِهِ وأحْوالِهِ البارِعَةِ. وقِيلَ: انْتَصَبَ عَلى إسْقاطِ الخافِضِ، أيْ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ، وشَيْبَةُ، والأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وابْنُ عامِرٍ، ونافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ: لِتُنْذِرَ، بِتاءِ الخِطابِ لِلرَّسُولِ، والأعْمَشُ، وابْنُ كَثِيرٍ أيْضًا، وباقِي السَّبْعَةِ: بِياءِ الغَيْبَةِ، أيْ لِيُنْذِرَنا القُرْآنُ والَّذِينَ ظَلَمُوا: الكُفّارُ عُبّادُ الأصْنامِ، حَيْثُ وضَعُوا العِبادَةَ في غَيْرِ مَن يَسْتَحِقُّهُ.
﴿وبُشْرى﴾، قِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلى ”مُصَدِّقٌ“، فَهو في مَوْضِعِ رَفْعٍ، أوْ عَلى إضْمارِ هو. وقِيلَ: مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مَعْطُوفٍ عَلى لِيُنْذِرَ، أيْ: ويُبَشِّرَ بُشْرى. وقِيلَ: مَنصُوبٌ عَلى إسْقاطِ الخافِضِ، أيْ ولِبُشْرى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وتَبِعَهُ أبُو البَقاءِ: وبُشْرى في مَحَلِّ النَّصْبِ، مَعْطُوفٌ عَلى مَحَلِّ لِيُنْذِرَ، لِأنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. انْتَهى. وهَذا لا يَجُوزُ عَلى الصَّحِيحِ مِن مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ، لِأنَّهم يَشْتَرِطُونَ في الحَمْلِ عَلى المَحَلِّ أنْ يَكُونَ المَحَلُّ بِحَقِّ الأصالَةِ، وأنْ يَكُونَ لِلْمَوْضِعِ مَحْرَزٌ. والمَحَلُّ هُنا لَيْسَ بِحَقِّ الأصالَةِ، لِأنَّ الأصْلَ هو الجَرُّ في المَفْعُولِ (p-٦٠)لَهُ، وإنَّما النَّصْبُ ناشِئٌ عَنْ إسْقاطِ الخافِضِ، لَكِنَّهُ لَمّا كَثُرَ بِالشُّرُوطِ المَذْكُورَةِ في النَّحْوِ، وصَلَ إلَيْهِ الفِعْلُ فَنَصَبَهُ. ولَمّا عَبَّرَ عَنِ الكُفّارِ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا، عَبَّرَ عَنِ المُؤْمِنِينَ بِالمُحْسِنِينَ، لِيُقابِلَ بِلَفْظِ الإحْسانِ لَفْظَ الظُّلْمِ.
﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ فُصِّلَتْ. ولَمّا ذَكَرَ: ﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾، قالَ: (ووَصَّيْنا)، إذْ كانَ بِرُّ الوالِدَيْنِ ثانِيًا أفْضَلَ الأعْمالِ، إذْ في الصَّحِيحِ: «أيُّ الأعْمالِ أفْضَلُ ؟ فَقالَ الصَّلاةُ عَلى مِيقاتِها قالَ: ثُمَّ أيُّ ؟ قالَ: ثُمَّ بِرُّ الوالِدَيْنِ»، وإنْ كانَ عُقُوقُهُما ثانِيَ أكْبَرِ الكَبائِرِ، إذْ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «ألا أُنَبِّئُكم ؟ بِأكْبَرِ الكَبائِرِ ؟ الإشْراكُ بِاللَّهِ وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ»، والوارِدُ في بَرِّهِما كَثِيرٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: حُسْنًا، بِضَمِّ الحاءِ وإسْكانِ السِّينِ، وعَلِيٌّ، والسُّلَمِيُّ، وعِيسى: بِفَتْحِهِما، وعَنْ عِيسى: بِضَمِّهِما، والكُوفِيُّونَ: إحْسانًا، فَقِيلَ: ضَمَّنَ ووَصَّيْنا مَعْنى ألْزَمْنا، فَيَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ، فانْتَصَبَ حُسْنًا وإحْسانًا عَلى المَفْعُولِ الثّانِي لِوَصَّيْنا. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: إيصاءٌ ذا حُسْنٍ، أوْ ذا إحْسانٍ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حُسْنًا بِمَعْنى إحْسانٍ، فَيَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أيْ ووَصَّيْناهُ بِهِما لِإحْسانِنا إلَيْهِما، فَيَكُونَ الإحْسانُ مِنَ اللَّهِ تَعالى. وقِيلَ: النَّصْبُ عَلى المَصْدَرِ عَلى تَضْمِينِ وصَّيْنا مَعْنى أحْسَنّا بِالوَصِيَّةِ لِلْإنْسانِ بِوالِدَيْهِ إحْسانًا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ونَصْبُ هَذا يَعْنِي إحْسانًا عَلى المَصْدَرِ الصَّرِيحِ والمَفْعُولِ الثّانِي في المَجْرُورِ، والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصَّيْنا، أوْ بِقَوْلِهِ: إحْسانًا. انْتَهى. ولا يَصِحُّ أنْ يَتَعَلَّقَ بِإحْسانًا، لِأنَّهُ مُصَدَّرٌ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ والفِعْلِ، فَلا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ، ولِأنَّ أحْسَنَ لا يَتَعَدّى بِالباءِ، إنَّما يَتَعَدّى بِاللّامِ، تَقُولُ: أحْسَنْتُ لِزَيْدٍ، ولا تَقُولُ: أحْسَنْتُ بِزَيْدٍ، عَلى مَعْنى أنَّ الإحْسانَ يَصِلُ إلَيْهِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ﴿ووَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨] في سُورَةِ العَنْكَبُوتِ، وانْجَرَّ هُنا بِالكَلامِ عَلى ذَلِكَ مَزِيدًا لِلْفائِدَةِ.
﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا﴾: لَيْسَ الكُرْهُ في أوَّلِ عُلُوقِها، بَلْ في ثانِي اسْتِمْرارِ الحَمْلِ، إذْ لا تَدْبِيرَ لَها في حَمْلِهِ ولا تَرْكِهِ. انْتَهى. ولا يَلْحَقُها كُرْهٌ إذْ ذاكَ، فَهَذا احْتِمالٌ بَعِيدٌ. وقالَ مُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ: المَعْنى حَمَلَتْهُ مَشَقَّةً، ووَضَعَتْهُ مَشَقَّةً. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِضَمِّ الكافِ، وشَيْبَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، والأعْرَجُ، والحَرَمِيّانِ، وأبُو عَمْرٍو: بِالفَتْحِ، وبِهِما مَعًا: أبُو رَجاءٍ، ومُجاهِدٌ، وعِيسى، والضَّمُّ والفَتْحُ لُغَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، كالعَقْرِ والعُقْرِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: بِالضَّمِّ المَشَقَّةُ، وبِالفَتْحِ الغَلَبَةُ والقَهْرُ، وضَعَّفُوا قِراءَةَ الفَتْحِ. وقالَ بَعْضُهم: لَوْ كانَ بِالفَتْحِ، لَرَمَتْ بِهِ عَنْ نَفْسِها إذْ مَعْناهُ: القَهْرُ والغَلَبَةُ. انْتَهى. وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ قِراءَةُ الفَتْحِ في السَّبْعَةِ المُتَواتِرَةِ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: القِراءَةُ بِفَتْحِ الكافِ لا تَحْسُنُ، لِأنَّ الكَرْهَ، بِالفَتْحِ، النَّصَبُ والغَلَبَةُ. انْتَهى. وكانَ أبُو حاتِمٍ يَطْعَنُ في بَعْضِ القُرْآنِ بِما لا عِلْمَ لَهُ بِهِ جَسارَةً مِنهُ، عَفا اللَّهُ عَنْهُ، وانْتِصابُهُما عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ الفاعِلِ، أيْ حَمَلَتْهُ ذاتَ كُرْهٍ، أوْ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ حَمْلًا ذا كُرْهٍ.
﴿وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾: أيْ ومُدَّةُ حَمْلِهِ وفِصالِهِ، وهَذا لا يَكُونُ إلّا بِأنْ يَكُونَ أحَدُ الطَّرَفَيْنِ ناقِصًا، إمّا بِأنْ تَلِدَ المَرْأةُ لِسِتَّةِ أشْهُرٍ وتُرْضِعَ عامَيْنِ، وإمّا أنْ تَلِدَ لِتِسْعَةِ أشْهُرٍ عَلى العُرْفِ وتُرْضِعَ عامَيْنِ غَيْرَ رُبْعِ عامٍ. فَإنْ زادَتْ مُدَّةُ الحَمْلِ، نَقَصَتْ مُدَّةُ الرَّضاعِ. فَمُدَّةُ الرَّضاعِ عامٌ وتِسْعَةُ أشْهُرٍ، وإكْمالُ العامَيْنِ لِمَن أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ. وقَدْ كَشَفَتِ التَّجْرِبَةُ أنَّ أقَلَّ مُدَّةِ الحَمْلِ سِتَّةُ أشْهُرٍ، كَنَصِّ القُرْآنِ. وقالَ جالِينُوسُ: كُنْتُ شَدِيدَ الفَحْصِ عَنْ مُقَدَّرِ زَمَنِ الحَمْلِ، فَرَأيْتُ امْرَأةً ولَدَتْ لِمِائَةٍ وأرْبَعٍ وثَمانِينَ لَيْلَةً. وزَعَمَ ابْنُ سِينا أنَّهُ شاهَدَ ذَلِكَ، وأمّا أكْثَرُ الحَمْلِ فَلَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ. قالَ ابْنُ سِينا في الشِّفاءِ: بَلَغَنِي مِن جِهَةِ مَن أثِقُ بِهِ كُلَّ الثِّقَةِ، أنَّ امْرَأةً وضَعَتْ بَعْدَ الرّابِعِ مِن سِنِي الحَمْلِ، ولَدَتْ ولَدًا نَبَتَتْ أسْنانُهُ. وحُكِيَ عَنْ أرِسْطاطالِيسَ أنَّهُ قالَ: إنَّ مُدَّةَ الحَمْلِ لِكُلِّ الحَيَوانِ مَضْبُوطَةٌ سِوى الإنْسانِ، فَرُبَّما وضَعَتْ لِسَبْعَةِ أشْهُرٍ، ولِثَمانِيَةٍ، وقَلَّ ما يَعِيشُ الوَلَدُ في الثّامِنِ، إلّا في بِلادٍ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ مِصْرَ. انْتَهى. وعَبَّرَ عَنِ الرَّضاعِ بِالفِصالِ، لَمّا كانَ الرَّضاعُ يَلِي الفِصالَ (p-٦١)ويُلابِسُهُ، لِأنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ ويَتِمُّ، سُمِّيَ بِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: وفِصالُهُ، وهو مَصْدَرُ فاصَلَ، كَأنَّهُ مِنِ اثْنَيْنِ: فاصَلَ أُمَّهُ وفاصَلَتْهُ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، والجَحْدَرِيُّ: وفَصْلُهُ، قِيلَ: والفَصْلُ والفِصالُ مَصْدَرانِ، كالفَطْمِ والفِطامِ. وهُنا لَطِيفَةٌ: ذَكَرَ تَعالى الأُمَّ في ثَلاثَةِ مَراتِبَ في قَوْلِهِ: بِوالِدَيْهِ. وحَمْلُهُ وإرْضاعُهُ المُعَبَّرُ عَنْهُ بِالفِصالِ، وذَكَرَ الوالِدَ في واحِدَةٍ في قَوْلِهِ: بِوالِدَيْهِ، فَناسَبَ ما قالَ الرَّسُولُ مِن جَعْلِ ثَلاثَةِ أرْباعِ البِرِّ لِلْأُمِّ والرُّبُعِ لِلْأبِ «فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: ”يا رَسُولَ اللَّهِ، مَن أبَرُّ ؟ قالَ: أُمَّكَ، قالَ: ثُمَّ مَن ؟ قالَ: أُمَّكَ، قالَ: ثُمَّ مَن ؟ قالَ: أُمَّكَ، قالَ: ثُمَّ مَن ؟ قالَ: أباكَ“» .
﴿حَتّى إذا بَلَغَ أشُدَّهُ﴾ في الكَلامِ حَذْفٌ تَكُونُ: حَتّى غايَةً لَهُ، تَقْدِيرُهُ: فَعاشَ بَعْدَ ذَلِكَ، أوِ اسْتَمَرَّتْ حَياتُهُ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في ﴿بَلَغَ أشُدَّهُ﴾ في سُورَةِ يُوسُفَ. والظّاهِرُ ضَعْفُ قَوْلِ مَن قالَ: بُلُوغُ الأشُدِّ أرْبَعُونَ، لِعَطْفِ ﴿وبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً﴾ . والعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغايُرَ، إلّا إنِ ادُّعِيَ أنَّ ذَلِكَ تَوْكِيدٌ لِبُلُوغِ الأشُدِّ فَيُمْكِنُ، والتَّأْسِيسُ أوْلى مِنَ التَّأْكِيدِ، وبُلُوغُ الأرْبَعِينَ اكْتِمالُ العَقْلِ لِظُهُورِ الفَلاحِ. قِيلَ: ولَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إلّا بَعْدَ الأرْبَعِينَ. وفي الحَدِيثِ: «إنَّ الشَّيْطانَ يَجُرُّ يَدَهُ عَلى وجْهِ مَن زادَ عَلى الأرْبَعِينَ ولَمْ يَتُبْ ويَقُولُ: بِأبِي وجْهٌ لا يُفْلِحُ» .
﴿قالَ رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ﴾: وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا في سُورَةِ النَّمْلِ.
﴿وأصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي﴾: سَألَ أنْ يَجْعَلَ ذُرِّيَّتَهُ مَوْقِعًا لِلصَّلاحِ ومَظِنَّةً لَهُ، كَأنَّهُ قالَ: هَبْ لِيَ الصَّلاحَ في ذُرِّيَّتِي، فَأوْقَعَهُ فِيهِمْ، أوْ ضَمَّنَ: وأصْلِحْ لِي مَعْنى: والطُفْ بِي في ذُرِّيَّتِي، لِأنَّ أصْلِحْ يَقْتَدِي بِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ: ﴿وأصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: ٩٠]، فَلِذَلِكَ احْتِيجَ قَوْلُهُ: ﴿فِي ذُرِّيَّتِي﴾ إلى التَّأْوِيلِ. قِيلَ: نَزَلَتْ في أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وتَتَناوَلُ مَن بَعْدَهُ، وهو مُشْكِلٌ، لِأنَّها نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وأبُوهُ أسْلَمَ عامَ الفَتْحِ. ولِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهم أحْسَنَ ما عَمِلُوا﴾: فَلَمْ يُقْصَدْ بِذَلِكَ أبُو بَكْرٍ ولا غَيْرُهُ. والمُرادُ بِالإنْسانِ الجِنْسُ، ولِذَلِكَ أشارَ بِقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ) جَمْعًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”يُتَقَبَّلُ“ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ”أحْسَنُ“ رَفْعًا، وكَذا ويُتَجاوَزُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ وثّابٍ، وطَلْحَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، والأعْمَشُ: بِخِلافٍ عَنْهُ. وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ: نَتَقَبَّلُ أحْسَنَ نَصْبًا، ونَتَجاوَزُ بِالنُّونِ فِيهِما، والحَسَنُ، والأعْمَشُ، وعِيسى: بِالياءِ فِيهِما مَفْتُوحَةً ونَصْبِ أحْسَنَ.
﴿فِي أصْحابِ الجَنَّةِ﴾، قِيلَ: في بِمَعْنى مَعَ، وقِيلَ: هو نَحْوُ قَوْلِكَ: أكْرَمَنِي الأمِيرُ في ناسٍ مِن أصْحابِهِ، يُرِيدُ في جُمْلَةِ مَن أكْرَمَ مِنهم، ومَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلى الحالِ عَلى مَعْنى كائِنِينَ في أصْحابِ الجَنَّةِ. وانْتَصَبَ ﴿وعْدَ الصِّدْقِ﴾ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ﴾، وعْدٌ مِنهُ تَعالى بِالتَّقَبُّلِ والتَّجاوُزِ، لَمّا ذَكَرَ الإنْسانَ البارَّ بِوالِدَيْهِ وما آلَ إلَيْهِ مِنَ الخَيْرِ، ذَكَرَ العاقَّ بِوالِدَيْهِ وما آلَ إلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ. والمُرادُ بِالَّذِي: الجِنْسُ، ولِذَلِكَ جاءَ الخَبَرُ مَجْمُوعًا في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ﴾ . وقالَ الحَسَنُ: هو الكافِرُ العاقُّ بِوالِدَيْهِ المُنْكِرُ البَعْثَ. وقَوْلُ مَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ، واتَّبَعَهُ قَتادَةُ: إنَّها نَزَلَتْ في عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَوْلٌ خَطَأٌ ناشِئٌ عَنْ جَوْرٍ، حِينَ دَعا مَرْوانُ، وهو أمِيرُ المَدِينَةِ، إلى مُبايَعَةِ يَزِيدَ، فَقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: جَعَلْتُمُوها هِرَقْلِيَّةً ؟ كُلَّما ماتَ هِرَقْلُ ولِيَ ابْنُهُ، وكُلَّما ماتَ قَيْصَرُ ولِيَ ابْنُهُ ؟ فَقالَ مَرْوانُ: خُذُوهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ أُخْتِهِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وقَدْ أنْكَرَتْ ذَلِكَ عائِشَةُ فَقالَتْ، وهي المَصْدُوقَةُ: لَمْ يَنْزِلْ في آلِ أبِي بَكْرٍ مِنَ القُرْآنِ غَيْرُ بَراءَتِي، وقالَتْ: واللَّهِ ما هو بِهِ، ولَوْ شِئْتُ أنْ أُسَمِّيَهُ لَسَمَّيْتُهُ. وصَدَّتْ مَرْوانَ وقالَتْ: ولَكِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أباكَ وأنْتَ في صُلْبِهِ، فَأنْتَ فَضَضٌ مِن لَعْنَةِ اللَّهِ. ويَدُلُّ عَلى فَسادِ هَذا القَوْلِ أنَّهُ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ﴾، وهَذِهِ صِفاتُ الكُفّارِ أهْلِ النّارِ، وكانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِن أفاضِلِ الصَّحابَةِ وسَراتِهِمْ وأبْطالِهِمْ، ومِمَّنْ لَهُ في الإسْلامِ غَناءٌ يَوْمَ اليَمامَةِ وغَيْرِهِ.
﴿أُفٍّ لَكُما﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى أُفٍّ مَدْلُولًا ولُغاتٍ وقِراءَةً في سُورَةِ الإسْراءِ، واللّامُ في لَكُما لِلْبَيانِ، أيْ لَكُما، أعْنِي التَّأْفِيفَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿أتَعِدانِنِي﴾، بِنُونَيْنِ، (p-٦٢)الأُولى مَكْسُورَةٌ، والحَسَنُ، وعاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو، وفي رِوايَةٍ، وهِشامٌ: بِإدْغامِ نُونِ الرَّفْعِ في نُونِ الوِقايَةِ. وقَرَأ نافِعٌ في رِوايَةٍ، وجَماعَةٌ: بِنُونٍ واحِدَةٍ. وقَرَأ الحَسَنُ، وشَيْبَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ: بِخِلافٍ عَنْهُ، وعَبْدُ الوارِثِ، عَنْ أبِي عَمْرٍو. وهارُونُ بْنُ مُوسى، عَنِ الجَحْدَرِيِّ، وسامٌ عَنْ هِشامٍ: بِفَتْحِ النُّونِ الأُولى، كَأنَّهم فَرُّوا مِنَ الكَسْرَتَيْنِ والياءِ إلى الفَتْحِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ فَفَتَحُوا، كَما فَرَّ مَن أدْغَمَ ومَن حَذَفَ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: فَتْحُ النُّونِ باطِلٌ غَلَطٌ. (أنْ أُخْرَجَ): أيْ أُخْرَجَ مِن قَبْرِي لِلْبَعْثِ والحِسابِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أنْ أُخْرَجَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والحَسَنُ، وابْنُ يَعْمُرَ، والأعْمَشُ، وابْنُ مُصَرِّفٍ، والضَّحّاكُ: مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ.
﴿وقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي﴾: أيْ مَضَتْ، ولَمْ يُخْرَجْ مِنهم أحَدٌ ولا بُعِثَ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: ﴿وقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي﴾ مُكَذِّبَةً بِالبَعْثِ.
﴿وهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ﴾، يُقالُ: اسْتَغَثْتُ اللَّهَ واسْتَغَثْتُ بِاللَّهِ، والِاسْتِعْمالانِ في لِسانِ العَرَبِ. وقَدْ رَدَدْنا عَلى ابْنِ مالِكٍ إنْكارَ تَعْدِيَتِهِ بِالباءِ، وذَكَرْنا شَواهِدَ عَلى ذَلِكَ في الأنْفالِ، أيْ يَقُولانِ: الغِياثُ بِاللَّهِ مِنكَ ومِن قَوْلِكَ، وهو اسْتِعْظامٌ لِقَوْلِهِ.
﴿ويْلَكَ﴾: دُعاءٌ عَلَيْهِ بِالثُّبُورِ، والمُرادُ بِهِ الحَثُّ والتَّحْرِيضُ عَلى الإيمانِ لا حَقِيقَةُ الهَلاكِ. وقِيلَ: ويْلَكَ لِمَن يُحَقِّرُ ويُحَرِّكُ لِأمْرٍ يَسْتَعْجِلُ إلَيْهِ. وقَرَأ الأعْرَجُ، وعَمْرُو بْنُ فائِدَةَ: (أنَّ وعْدَ اللَّهِ)، بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، أيْ: آمِن بِأنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، والجُمْهُورُ بِكَسْرِها، ﴿فَيَقُولُ ما هَذا﴾: أيْ ما هَذا الَّذِي يَقُولُ ؟ أيْ مِنَ الوَعْدِ بِالبَعْثِ مِنَ القُبُورِ إلّا شَيْءٌ سَطَّرَهُ الأوَّلُونَ في كُتُبِهِمْ، ولا حَقِيقَةَ لَهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وظاهِرُ ألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّها نَزَلَتْ في مُشارٍ إلَيْهِ قالَ وقِيلَ لَهُ، فَنَفى اللَّهُ أقْوالَهُ تَحْذِيرًا مِنَ الوُقُوعِ في مِثْلِها.
وقَوْلُهُ: (أُولَئِكَ)، ظاهِرُهُ أنَّهُ إشارَةٌ إلى جِنْسٍ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِي قالَ﴾، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ في مُشارٍ إلَيْهِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ في أُولَئِكَ بِمَعْنى صِنْفِ هَذا المَذْكُورِ وجِنْسِهِ هم: ﴿الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ﴾ أيْ قَوْلُ اللَّهِ أنَّهُ يُعَذِّبُهم (في أُمَمٍ)، أيْ جُمْلَةِ: ﴿أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ﴾، يَقْتَضِي أنَّ الجِنَّ يَمُوتُونَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ كالإنْسِ. وقالَ الحَسَنُ في بَعْضِ مَجالِسِهِ: الجِنُّ لا يَمُوتُونَ، فاعْتَرَضَهُ قَتادَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ فَسَكَتَ. وقَرَأ العَبّاسُ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: أنَّهم كانُوا، بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، والجُمْهُورُ بِالكَسْرِ. (ولِكُلٍّ): أيْ مِنَ المُحْسِنِ والمُسِيءِ، (دَرَجاتٌ) غَلَبَ دَرَجاتٌ، إذِ الجَنَّةُ دَرَجاتٌ والنّارُ دَرَكاتٌ، والمَعْنى: مَنازِلُ ومَراتِبُ مِن جَزاءِ ما عَمِلُوا مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، ومِن أجْلِ ما عَمِلُوا مِنها. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: دَرَجاتُ المُحْسِنِينَ تَذْهَبُ عُلُوًّا، ودَرَجاتُ المُسِيئِينَ تَذْهَبُ سُفْلًا. انْتَهى. والمُعَلِّلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ولِيُوَفِّيَهم أعْمالَهم قَدْرَ جَزائِهِمْ، فَجُعِلَ الثَّوابُ دَرَجاتٍ والعِقابُ دَرَكاتٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ولِيُوَفِّيَهم بِالياءِ، أيِ اللَّهُ تَعالى، والأعْمَشُ والأعْرَجُ وشَيْبَةُ وأبُو جَعْفَرٍ والأخَوانِ وابْنُ ذَكْوانَ ونافِعٌ: بِخِلافٍ عَنْهُ بِالنُّونِ، والسُّلَمِيُّ: بِالتّاءِ مِن فَوْقٍ، أيْ ولِنُوَفِّيَهُمُ الدَّرَجاتِ، أسْنَدَ التَّوْفِيَةَ إلَيْها مَجازًا.
{"ayahs_start":11,"ayahs":["وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَوۡ كَانَ خَیۡرࣰا مَّا سَبَقُونَاۤ إِلَیۡهِۚ وَإِذۡ لَمۡ یَهۡتَدُوا۟ بِهِۦ فَسَیَقُولُونَ هَـٰذَاۤ إِفۡكࣱ قَدِیمࣱ","وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِمَامࣰا وَرَحۡمَةࣰۚ وَهَـٰذَا كِتَـٰبࣱ مُّصَدِّقࣱ لِّسَانًا عَرَبِیࣰّا لِّیُنذِرَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُحۡسِنِینَ","إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِ خَـٰلِدِینَ فِیهَا جَزَاۤءَۢ بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰلِدَیۡهِ إِحۡسَـٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهࣰا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهࣰاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَـٰلُهُۥ ثَلَـٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِینَ سَنَةࣰ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحࣰا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِی فِی ذُرِّیَّتِیۤۖ إِنِّی تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَإِنِّی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ نَتَقَبَّلُ عَنۡهُمۡ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُوا۟ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَیِّـَٔاتِهِمۡ فِیۤ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَعۡدَ ٱلصِّدۡقِ ٱلَّذِی كَانُوا۟ یُوعَدُونَ","وَٱلَّذِی قَالَ لِوَ ٰلِدَیۡهِ أُفࣲّ لَّكُمَاۤ أَتَعِدَانِنِیۤ أَنۡ أُخۡرَجَ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلۡقُرُونُ مِن قَبۡلِی وَهُمَا یَسۡتَغِیثَانِ ٱللَّهَ وَیۡلَكَ ءَامِنۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ فَیَقُولُ مَا هَـٰذَاۤ إِلَّاۤ أَسَـٰطِیرُ ٱلۡأَوَّلِینَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ حَقَّ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ فِیۤ أُمَمࣲ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ خَـٰسِرِینَ","وَلِكُلࣲّ دَرَجَـٰتࣱ مِّمَّا عَمِلُوا۟ۖ وَلِیُوَفِّیَهُمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ"],"ayah":"وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِمَامࣰا وَرَحۡمَةࣰۚ وَهَـٰذَا كِتَـٰبࣱ مُّصَدِّقࣱ لِّسَانًا عَرَبِیࣰّا لِّیُنذِرَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُحۡسِنِینَ"}