الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ﴾ . أي: لُعِنَ. وقيل: عُذِّبَ، والإنسان: الكافرُ. روى الأعمشُ عن مجاهدٍ قال: ما كان في القرآن من قتل الإنسان، فإن ما عني به الكافر. قال النحويون: وهذا إما تعجبٌ، أو استفهام تعجبٍ. قال ابن الخطيب: اعلم أنَّه - تعالى - لما ذكر ترفُّع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب [عباده] المؤمنين من ذلك، فكأنَّه قيل: وأيُّ سببٍ في هذا الترفُّع مع أنَّه أوله نطفة مَذِرَة، وآخره جِيفةٌ قذرةٌ، وهو فيما بين الوقتين حمال عذرة، فلا جرم أن يذكر - تعالى - ما يصلُح أن يكون علاجاً لعجبهم، وعلاجاً لكفرهم فإنَّ خلقة الإنسان تصلُح لأن يستدلّ بها على وجود الصانع، ولأن يستدل بها على القول بالبعث والحشر. قيل: نزلت في عتبةَ بنِ أبي لهبٍ، والظاهر العموم. وقوله تعالى: ﴿قُتِلَ الإنسان﴾ دعاء عليه بأشدِّ الأشياءِ؛ لأنَّ القتل غاية شدائدِ الدُّنيا، و ﴿مَآ أَكْفَرَهُ﴾ ، تعجُّبٌ من إفراطهِ في كفرانِ نعمةِ اللهِ. فإن قيل: الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز، والقادر على الكُلِّ كيف يليق به ذلك؟ والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشَّيء، فالعالمُ به كيف يليق ذلك بِهِ؟ . فالجواب: أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب، لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب، حيث أتوا بأعظم القبائحِ كقولهم إذا تعجَّبُوا من شيءٍ قاتلهُ اللهُ ما أخَسّه، وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا. وقيل: ما أكفرهُ بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه، والاستفهام بقوله: ﴿مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ﴾ قيل: استفهامُ توبيخٍ، أي: أيُّ شيءٍ دعاهُ إلى الكفر. وقيل: استفهام تحقير، له، فذكر أوَّل مراتبه، وهو قوله تعالى: ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾ ، ولا شك أن النطفة شيءٌ حقيرٌ مهينٌ، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر، وقوله: «فقدَّره» اي: أطواراً. وقيل: سوَّاه لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ [الكهف: 37] ، وقدَّر كُلَّ عُضوٍ في الكيفيَّة والكميَّة بالقدر اللائق لمصلحته، لقوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ [الفرقان: 2] ، ثُمَّ لما ذكر المرتبة الوسطى قال تعالى: ﴿ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ﴾ . قيل: المراد: تيسير خروجه من بطنِ أمِّه، ولا شكَّ أن خروجه حيًّا من أضيقِ المسالك من أعجب العجائبِ، يقالُ: إنه كان رأسه في بطن أمه من فوقٍ، ورجلاهُ من تحتٍ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب، فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام، المراد منه قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ [البلد: 10] ، أي: التمييز بين الخير والشرِّ. وقيل: مخصوصٌ بالدين. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ﴾ . يجوز أن يكون الضمير للإنسان، والسبيل ظرف، أي: يسر للإنسان الطريق، أي: طريق الخير، والشر، كقوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ [البلد: 10] . وقال أبو البقاء: ويجوز أن ينتصب بأنَّه مفعولٌ ثانٍ ل «يسره» ، والهاء للإنسان، أي: يسره السبيل، أي: هداه له. قال شهاب الدين: فلا بد من تضمينه معنى «أعْطَى» حتى ينصب اثنين، أو حُذف حرف الجر أي: يسَّره للسَّبيل، ولذلك قدره بقوله: «هَداه له» ، ويجوز أن يكون «السَّبيل» منصوباً على الاشتغالِ بفعلٍِ مقدرٍ، والضمير له، تقديره: ثم يسِّر السبيل يسَّره، أي: سهلهُ للناس، كقوله تعالى: ﴿أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: 50] ، وتقدَّم مثله في قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل﴾ [الإنسان: 3] . * فصل في تفسير الآية روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ومجاهدٍ قالا: سبيل الشقاء والسعادة. وقال ابن زيد: سبيل الإسلام، وقال أبو بكر بن طاهر: يسّر على كلّ أحد ما خلقهُ لهُ وقدره عليه، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اعْمَلُوا فكُلٌّ مُيسَّرٌ لمَا خُلِقَ لَهُ» . قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ هذه المرتبة الثالثة، أي: جعل له قبراً يوارى فيه يقال: قبرهُ إذا دفنه، وأقبرهُ، أي: جعلهُ بحيث يقبر، وجعل له قبراً إكراماً له، ولم يجعله ممَّن يُلْقَى على وجه الأرض تأكله الطير. قاله الفراء. قال أبو عبيدة: «أقْبَرَهُ» جعل له قبراً، وأمرَ أن يقبر، والقَابِرُ: هو الدَّافن بيده؛ قال: الأعشى: [السريع] 5108 - لَوْ أسْندَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِهَا ... عَاشَ ولَمْ يُنْقَلْ إلى قَابرِ يقال: قبرت الميت «أي» دفنته، وأقبره الله أي: صيَّرهُ بحيثُ جعل لهُ قبراً. وتقول العرب: بترت ذنب البعير وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله وطردت فلاناً، والله أطرده، أي: صَيَّره طريداً. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ﴾ . أي: أحياه بعد موته، ومفعول شاء محذوف، أي: شاء إنشارهُ، و «أنشره» جواب «إذا» . وقرأ العامة: «أنْشَرَ» ، بالألف. وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب عن ابن أبي حمزة: «نَشَرهُ» ثلاثياً بغير ألف. ونقلها أبو الفضل أيضاً، وقال: هما لغتان بمعنى الإحياء. قال ابن الخطيب: وإنَّما قال: «إذا شَاءَ أنشرهُ» إشعاراً بأنَّ وقته غير معلوم، فتقديمه وتأخيره موكولٌ إلى مشيئة الله تعالى. قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ﴾ «كلاَّ» : ردعٌ للإنسان عن تكبُّره، وترفعه، وعن كفره، وإصراره عن إنكار التوحيد، وعلى إنكار البعث، والحشر والنشر وقوله تعالى: ﴿لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ﴾ قال مجاهد وقتادة: لا يقضي أحدٌ جميع ما أمر به، وهو إشارة إلى أن الإنسان لا ينفكُّ عن تقصير ألبتَّة. قال ابن الخطيب: وعندي في هذا التفسير نظر؛ لأن الضمير فيه عائد إلى المذكور السَّابق وهو الإنسان في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ﴾ وليس المراد من الإنسان هنا: جميع الإنسان، بل الإنسان الكافر، فقوله تعالى: ﴿لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ﴾ ، كيف يمكن حمله على جميع الناس؟ . وقال ابن فورك: كلاَّ لما يقض الله ما أمره، [كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر، بل أمره بما لم يقض له به وكان ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يقول لما يقض ما أمره] : لم يبال بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقيل: المعنى: إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التَّأمُّلِ في دلائل الله تعالى، والتَّدبُّر في عجائب خلقه. قوله: «ما أمره» ، «ما» : موصولة. قال أبو البقاء: بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف، أي: ما أمره به. قال شهابُ الدين: وفيه نظر، من حيثُ إنَّه قدر العائد مجروراً بحرف لم يجر الموصول، ولا أمره به، فإن قلت: «أمر» يتعدى إليه بحذف الحرف، فاقدره غير مجرور. قلت: إذا قدرته غير مجرور فإمَّا أن تُقدِّره متصلاً أو منفصلاً، وكلاهما مشكل، لما تقدم في أول «البقرة» عند قوله تعالى: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 3] . وقال الحسن: «كلاَّ» معناه: «حقًّا» ، «لما يقض» : أي: لم يعمل بما أمره به. قال القرطبي: و «ما» في قوله: «لما» عماد للكلام، كقوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله﴾ [آل عمران: 159] ، وقوله تعالى: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ [المؤمنون: 40] . وقال ابن الأنباريِّ: الوقف على «كلاَّ» قبيح، والوقف على «أمره» و «نشره» جيد، ف «كلا» على هذا بمعنى حقًّا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب