الباحث القرآني

ثم قال الله عز وجل: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾. البحث أولًا: ﴿قَدْ نَعْلَمُ﴾ (قد) للتحقيق، لكن قال النحويون: إنها مع الماضي للتحقيق، ومع المضارع للتقليل، هذا هو الغالب مع الماضي للتحقيق؛ كقوله تعالى: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ﴾ [ق ٤]. وفي المضارع يقولون: إنها للتقليل، ومنه قولهم: قد يجود البخيل، فـ(قد) هنا للتقليل، لكنها وردت في القرآن مقرونة بالمضارع، وهي للتحقيق، مثل قوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [النور ٦٤]، ومثل هذه الآية ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾، ولها أمثلة. فهل نقول: إنها للتقليل، أو نقول: إنها للتحقيق؟ الجواب: للتحقيق لا شك، لكن عبر عن الماضي بالمضارع؛ إشارة إلى أن الله عز وجل علم ويعلم ما يكون، فتكون دالة على الاستمرار، بخلاف علم الماضي، فهي دالة على شيء مضى وانتهى، لكن إذا كان الشيء مستمرًّا جاءت بلفظ المضارع. وثانيًا: ﴿إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾ مع أنها واقعة بعد العلم، وإذا وقعت بعد العلم وجب أن تكون مفتوحة الهمزة، كما في قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة ١٨٧] ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ [البقرة ٢٣٥] فلماذا كسرت الهمزة هنا؟ كسرت لوجود اللام، لام التوكيد. فإذا وجدت لام التوكيد وجب كسر (إن) على كل حال، عرفتم؟ إذا اقترن خبرها أو اسمها باللام وجب أن تكسر على كل حال، لولا اللام لكان سياق الآية: قد نعلم أنه يحزنك، لكن اللام تكسر الهمزة. ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾ فيها قراءتان: ﴿لَيُحْزِنُكَ﴾ ، و ﴿لَيَحْزُنُكَ﴾. ﴿لَيُحْزِنُكَ﴾ من الرباعي، من أحزنه يُحْزِنه. ﴿لَيَحْزُنُكَ﴾ من الثلاثي: حزنه يَحْزُنه. والحزن ضد السرور، وهو معنى قائم بالنفس، يستلزم الانكسار والندم. ﴿لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ ما الذي يقولون؟ يقولون قولًا منكرًا عظيمًا، يقولون: لله البنات، يقولون: نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله عز وجل، يقولون للرسول عليه الصلاة السلام: إنه ساحر، إنه مجنون، إنه كاهن. فكل ما يقولونه مما ينافي التوحيد والرسالة لا شك أنه يحزن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. هل هذا انتصار لنفسه، أو حزنًا لله عز وجل؟ الثاني بلا شك. ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ يقولها عالم السر وأخفى عز وجل، الذي يعلم ما في القلوب ﴿إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ يعني: في قلوبهم، وأما في ألسنتهم يقولون: إنه ساحر كذاب، لكن في قلوبهم لا، يعلمون أنه صادق وأنه أمين، وكانوا يسمونه قبل الرسالة الأمين ويرضونه ويحكِّمونه، لكن لما جاء بالحق -والعياذ بالله- شرقوا به وأنكروه. ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ أي: بقلوبهم، بخلاف الألسن، فإنهم يكذبون ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾، ﴿الظَّالِمِينَ﴾ هنا المراد بهم: المكذبون للرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو ظلم الكفر. ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَجْحَدُونَ﴾ وقُدّم عليه لإفادة الحصر، والثاني: لتناسب رؤوس الآيات؛ لأن تناسب رؤوس الآيات من البلاغة بلا شك، ولهذا تأمل قول الله عز وجل في سورة طه: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ [طه ٧٠] فقدم هارون، مع أن موسى مقدم في جميع المواضع، لكن من أجل تناسب رؤوس الآيات. * ففيها إذن فائدتان: معنوية، والثاني: لفظية. المعنوية: هي إفادة الحصر، كأن المعنى: ولكنَّ الظالمين لا يجحدون إلا بآيات الله، وإلا يعترفون بأشياء كثيرة، إلا آيات الله عز وجل فإنهم لا يعترفون بها. * في هذه الآيات الكريمة: إثبات علم الله عز وجل في كل ما يقوله هؤلاء المكذبون؛ لقوله: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾. * ومنها: تسلية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقوية روحه المعنوية؛ فإن في هذه الآية من تسليته وتقوية روحه المعنوية ما هو ظاهر، وهكذا ينبغي للإنسان أن يسلي أخاه فيما يقع لمثله حتى يهون عليه الأمر؛ لأن الإنسان بطبيعته إذا وجد مشاركًا أيش؟ هان عليه الأمر، ألم تر إلى قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف ٣٩]، في الدنيا إذا اشتركوا في العذاب هان عليهم، لكن في الآخرة لن ينفعهم، وانظر إلى قول المرأة الخنساء: ؎وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَــــــــاكِينَحــــــــــَوْلِي ∗∗∗ عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي؎وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ∗∗∗ أُسَلِّي النَّفْسَ عَنْهُبِالتَّأَسِّـــــي فإذا ذكر الله عز وجل لنبيه ﷺ ما يسليه، ويقوي معنويته، ويذهب عنه حزنه، فإن هذا من فضل الله عليه تبارك وتعالى. * ومن فوائد الآيات الكريمة: حرص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على هداية الخلق، وأنه يحزنه إعراض الناس عن دين الله عز وجل. * ومنها: علم الله تعالى بما في القلوب؛ بقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾. نظير هذه الآية قوله تعالى عن آل فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا﴾ هذه مفعول لأجله عامله (جحدوا)، أي: جحدوا بذلك ظلمًا ﴿وُعُلُوًّا﴾ [النمل ١٤]، وانظر إلى قول موسى، وهو يجادل فرعون، يقول له موسى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ [الإسراء ١٠٢] قال: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾، ولم يكذبه فرعون، في هذه المحاورة، ما قال: لم أعلم، بينما لما كان يشرح لقومه يقول لهم: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ﴾ [القصص ٣٨] والظاهر لي -والله أعلم- أن فرعون لم يقل لموسى: إنني لا أعلم خوفًا من نزول العقوبة العاجلة، أو خوفًا من أن ينزل كتاب يكذبه. على كل حال الرجل أقر، وطريق إقراره السكوت. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أنه ينبغي للدعاة أن يتسلوا برسول الله ﷺ فيما إذا سمعوا ما يكرهون من هؤلاء المكذبين المعاندين، فليتسلوا به ويقولوا في أنفسهم وفي ألسنتهم: إن الله تعالى عالم ما تقولون وسيجازيهم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الجحد بآيات الله كفر، ولو استيقنها الإنسان، ما دام جحدها، وإن كان مؤمنًا بها في قلبه، فإنه يكفر؛ لأن أحكام الدنيا تُجرَى على أيش؟ تجرى على الظاهر. فنحن نكفر من أظهر الكفر وإن كان مؤمنًا بقلبه، ونسكت عمن أظهر الإسلام ولو كان كافرًا بقلبه؛ لأن هذا أحكام الدنيا التي أوجب الله عز وجل؛ إذ إننا نحن لا نعلم ما في قلوب الناس، ومن ثم أنكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أسامة بن زيد حيث قتل المشرك بعد أن قال: لا إله إلا الله، واحتج أسامة بأنه قالها تعوذًا، أي: خوفًا من القتل، لا عن يقين، فقال له النبي ﷺ: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ أَشَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟»[[أخرجه مسلم (٩٦ / ١٥٨) من حديث أسامة بن زيد. ]]. فأمور الدنيا على الظاهر لا على الباطن، لكن في الآخرة -نسأل الله أن يسترها علينا وعليكم- على الباطن، كما قال عز وجل: ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق ٨، ٩]، وقال عز وجل: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ [العاديات ٩، ١٠]. إذا قيل: هل هناك وصف آخر يكفر به الإنسان؟ فالجواب: نعم، بالاستكبار، فالردة لها أصلان فقط: الجحود، والثاني: الاستكبار. الجحود ولو عمل ولم يستكبر ظاهرًا، فإنه يكفر، كما لو قال: الصلوات الخمس غير مفروضة لكني أفعلها تورعًا واحتياطًا، ماذا نقول له؟ نقول: إنه كافر؛ لأنه جحد. والاستكبار: أن يستكبر عن فعل ما تركه كفر، ما عن كل شيء، على أن الإنسان إذا ترك الطاعة استكبارًا حتى ولو كانت نافلة فإننا في شك من إيمانه؛ لأن جنس الاستكبار علو على الله عز وجل، وعلى أوامره ونواهيه، فيخشى إذا ترك المسنون استكبارًا واستنكافًا أن يكون كافرًا، لا إذا تركه عمدًا متهاونًا به. هناك فرق كما تعرفونه من أنفسكم، فرق بين شخص يقول: أنا لا أصلي الراتبة استكبارًا، وآخر يقول: لا أصلي الراتبة لأنها لا تجب علي. الثاني: لا يكفر ولا يفسق. وأما الأول: فإن الإنسان يكون في شك من إيمانه؛ لأن الاستكبار -والعياذ بالله- علو على الخالق، وعلى أوامره تبارك وتعالى ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب