الباحث القرآني

ولَمّا كَرَّرَ في هَذِهِ السُّورَةِ أمْرَهُ بِمُقاوَلَتِهِمْ، وأطالَ في الحَثِّ عَلى مُجادَلَتِهِمْ، وخَتَمَ بِما يَقْتَضِي سَلْبَهم العَقْلَ مَعَ تَكْرِيرِ الإخْبارِ بِأنَّ المَقْضِيَّ بِخَسارَتِهِ مِنهم لا يُؤْمِنُونَ لِآيَةٍ مِنَ الآياتِ، وكانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهم حالَ إسْماعِهِمْ ما أمَرَ بِهِ لا يَسْكُتُونَ لِما عِنْدَهم مِن عَظِيمِ النَّخْوَةِ وشَماخَةِ الكِبْرِ وقُوَّةِ الجُرْأةِ، وأنَّهُ لا جَوابَ لَهم إلّا التَّبِعَةُ والبَذاءَةُ كَما هو دَأْبُ المُعانِدِ المَغْلُوبِ، وأنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ ﷺ لِما جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الحَياءِ والشَّهامَةِ والصِّيانَةِ والنَّزاهَةِ - كانَ الحالُ مُحْتاجًا إلى التَّسْلِيَةِ، فَقالَ تَعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ﴾ والمُرادُ بِالمُضارِعِ وُجُودُ العِلْمِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى زَمانٍ، وعَدَلَ عَنِ الماضِي لِئَلّا يُظَنَّ الِاخْتِصاصُ بِهِ، فالمُرادُ تَحَقُّقُ التَّجَدُّدِ لِتَعَلُّقِ العِلْمِ بِتَجَدُّدِ الأقْوالِ ﴿إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾ أيْ: يُوقِعُ عَلى سَبِيلِ التَّجْدِيدِ والِاسْتِمْرارِ لَكَ الحُزْنَ عَلى ما فاتَكَ مِن حالاتِ الصَّفاءِ الَّتِي كَدَّرَها ﴿الَّذِي يَقُولُونَ﴾ أيْ: مِن تَكْذِيبِكَ، فَقَدْ عَلِمْنا امْتِثالَكَ لِأوامِرِنا في إسْماعِهِمْ ما يَكْرَهُونَ مِن تَنْزِيهِنا، وعِلْمِنا رَدَّهم عَلَيْكَ بِما لا يُرْضِيكَ، وعِلْمِنا أنَّهُ يَبْلُغُ مِنكَ، فَلا تَحْزَنْ لِأنَّ مَن عَلِمَ أنَّ رَبَّهُ يُرْضِي المُطِيعَ لَهُ (p-٩٥)ويَجْزِي عاصِيَهِ، وهو عالِمٌ بِما يَنالُ المُطِيعَ في طاعَتِهِ لا يَنْبَغِي أنْ يَحْزَنَ بَلْ يُسَرُّ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ: ( يس ) ﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهم إنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ﴾ [يس: ٧٦] ولا شَكَّ أنَّ الحُزْنَ عِنْدَ وُقُوعٍ ما يَسُوءُ - مِن طَبْعِ البَشَرِ الَّذِي لا يَقْدِرُ عَلى الِانْفِكاكِ عَنْهُ، فالنَّهْيُ عَنْهُ [إنَّما هُوَ] نَهْيٌ عَمّا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الِاسْتِرْسالِ المُؤَدِّي إلى الجَزَعِ المُؤَدِّي إلى عَدَمِ الصَّبْرِ ونِسْيانِ ما يُعَزِّي، فَهو مِنَ النَّهْيِ عَنِ السَّبَبِ لِلْمُبالَغَةِ في النَّهْيِ عَنِ المُسَبِّبِ، وما أنْسَبَ ذِكْرَ ما يُحْزِنُ بَعْدَ تَقْرِيرِ أنَّ الدُّنْيا لِأهْلِها لَعِبٌ ولَهْوٌ وأنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ لِلْمُتَّقِينَ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّهُما ضِدّانِ، فَلا تُنالُ إحْداهُما إلّا بِضِدٍّ ما لِلْأُخْرى، فَلا تُنالُ الآخِرَةُ إلّا بِضِدٍّ ما لِأهْلِ الدُّنْيا مِنَ اللَّعِبِ واللَّهْوِ، وذَلِكَ هو الحُزْنُ النّاشِئُ عَنِ التَّقْوى الحامِلُ عَلَيْها الخَوْفَ كَما رُوِيَ في حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ: «( أنا عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهم مِن أجْلِي )» . ولَمّا أخْبَرَهُ - سُبْحانَهُ - بِعِلْمِهِ بِذَلِكَ، سَبَّبَ عَنْهُ قَوْلَهُ: ﴿فَإنَّهُمْ﴾ أيْ: فَلا يَحْزُنْكَ ذَلِكَ فَإنَّهم ﴿لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ بَلْ أنْتَ عِنْدَهم الأمِينُ، ولْيَكُنْ عِلْمُنا بِما تَلْقى مِنهم سَبَبًا لِزَوالِ حُزْنِكَ، وكَذا إخْبارُنا لَكَ بِعَدَمِ تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، بَلْ أنْتَ عِنْدَهم في نَفْسِ الأمْرِ أمِينٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ ولَكِنَّهم لِشِدَّةِ عِنادِهِمْ ووُقُوفِهِمْ مَعَ الحُظُوظِ وعَجْزِهِمْ عَنْ جَوابٍ يُبَرِّدُ غِلَلَهم ويَشْفِي عِلَلَهم (p-٩٦)- يُنْكِرُونَ آياتِ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَقِّيَّتِها، فَلْيُخَفِّفْ حُزْنَكَ لِنَفْسِكَ ما انْتَهَكُوهُ مِن حُرْمَةِ مَن أرْسَلَكَ، والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: حَذْفٌ مِنَ الجُمْلَةِ الأُولى - إظْهارًا لِشَرَفِ النَّبِيِّ ﷺ وأدَبًا مَعَهُ - سَبَبُ الحُزْنِ، وهو التَّكْذِيبُ لِدَلالَةٍ الثّانِيَةِ عَلَيْهِ، ومِنَ الثّانِي النَّهْيُ عَنِ المُسَبِّبِ لِدِلالَةِ الأُولى عَلَيْهِ؛ رَوى الطَّبَرَيُّ في تَفْسِيرِهِ عَنِ السُّدِّيِّ أنَّهُ لَمّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ قالَ الأخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ لِبَنِي زُهْرَةَ إنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكم، وأنْتُمْ أحَقُّ مَن كَفَّ عَنْهُ، فَإنَّهُ إنْ كانَ نَبِيًّا لَمْ تُقاتِلُوهُ [اليَوْمَ]، وإنْ كانَ كاذِبًا [كُنْتُمْ] أحَقَّ مَن كَفَّ عَنْ ابْنِ أُخْتِهِ، قِفُوا هاهُنا حَتّى ألْقى أبا الحَكَمِ، فَإنْ غَلَبَ مُحَمَّدٌ رَجَعْتُمْ سالِمِينَ، وإنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ فَإنَّ قَوْمَكم لَنْ يَصْنَعُوا بِكم شَيْئًا، فَيَوْمَئِذَ سُمِّيَ ( الأخْنَسَ )، وكانَ اسْمُهُ: ( أُبَيٌّ )، فالتَقى الأخْنَسُ وأبُو جَهْلٍ، فَخَلا الأخْنَسُ بِهِ فَقالَ: يا أبا الحَكَمِ! أخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أصادِقٌ هو أمْ كاذِبٌ، فَإنَّهُ لَيْسَ هاهُنا مِن قُرَيْشٍ أحَدٌ غَيْرِي وغَيْرَكَ يَسْمَعُ كَلامَنا، فَقالَ أبُو جَهْلٍ: ويْحَكَ! واللَّهِ إنَّ مُحَمَّدًا لَصادِقٌ، وما كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، ولَكِنْ (p-٩٧)إذا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّواءِ والحِجابَةِ والسِّقايَةِ والنُّبُوَّةِ فَماذا يَكُونُ لِسائِرِ قُرَيْشٍ ! وعَنْ ناجِيَةَ قالَ: قالَ أبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ما نَتَّهِمُكَ ولَكِنْ نَتَّهِمُ الَّذِي جِئْتَ بِهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ، وعَلى ذَلِكَ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَكِنَّ﴾ وقالَ: ﴿الظّالِمِينَ﴾ في مَوْضِعِ الضَّمِيرِ تَعْمِيمًا وتَعْلِيقًا لِلْحُكْمِ بِالوَصْفِ، أيْ: الَّذِينَ كانُوا في مِثْلِ الظَّلامِ ﴿بِآياتِ﴾ أيْ: بِسَبَبِ آياتِ ﴿اللَّهِ﴾ أيْ: المُلْكِ الأكْبَرِ الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ ﴿يَجْحَدُونَ﴾ قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ في أوَّلِ كِتابِ ( الحُجَّةِ): أيْ: يَجْحَدُونَ ما عَرَفُوهُ مِن صِدْقِكَ وأمانَتِكَ، وعَلَّقَ باءَ الجَرِّ بِالظّالِمِينَ كَما هي في قَوْلِهِ﴿وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها﴾ [الإسراء: ٥٩] ونَحْوِها، وقالَ ابْنُ القَطّاعِ في كِتابِ الأفْعالِ: جَحَدَ الشَّيْءَ جَحْدًا وجُحُودًا: أنْكَرَهُ وهو عالِمٌ بِهِ. هَذا قَصْدُهم غَيْرَ أنَّهُ لا طَرِيقَ لَهم إلى إنْكارَ الآياتِ إلّا بِالتَّكْذِيبِ، أوْ ما يَؤُولُ إلَيْهِ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الَّذِي أرْسَلَكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وهو القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وهو الحَكِيمُ الخَبِيرُ، فاقْتَضَتْ قُدْرَتُهُ وقَهْرُهُ وانْتِصارُهُ لِأهْلِ وِلايَتِهِ وجَبْرُهُ أنْ يَحِلَّ بِأعْدائِهِمْ سَطْوَةٌ تَجِلُّ عَنِ الوَصْفِ، واقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ عَدَمُ المُعاجَلَةِ بِها تَشْرِيفًا لَكَ وتَكْثِيرًا لِأُمَّتِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب