الباحث القرآني
﴿قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنِ الحُزْنِ الَّذِي يَعْتَرِيهِ، مِمّا حُكِيَ عَنِ الكَفَرَةِ مِنَ الإصْرارِ عَلى التَّكْذِيبِ والمُبالَغَةِ فِيهِ، بِبَيانِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِمَكانَةٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وأنَّ ما يَفْعَلُونَ في حَقِّهِ فَهو راجِعٌ إلَيْهِ تَعالى في الحَقِيقَةِ، وأنَّهُ يَنْتَقِمُ مِنهم لا مَحالَةَ أشَدَّ انْتِقامٍ.
وَكَلِمَةُ " قَدْ " لِتَأْكِيدِ العِلْمِ بِما ذُكِرَ المُفِيدِ لِتَأْكِيدِ الوَعِيدِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ﴾، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ﴾، ونَحْوِهِما، بِإخْراجِها إلى مَعْنى التَّكْثِيرِ، حَسْبَما يُخَرَّجُ إلَيْهِ " رُبَّما " في مِثْلِ قَوْلِهِ:
وَإنْ تُمْسِ مَهْجُورَ الفِناءِ فَرُبَّما ... أقامَ بِهِ بَعْدَ الوُفُودِ وُفُودُ
جَرْيًا عَلى سَنَنِ العَرَبِ عِنْدَ قَصْدِ الإفْراطِ في التَّكْثِيرِ، تَقُولُ لِبَعْضِ قُوّادِ العَساكِرِ: كَمْ عِنْدَكَ مِنَ الفُرْسانِ ؟ فَيَقُولُ: رُبَّ فارِسٍ عِنْدِي وعِنْدَهُ مَقانِبُ جَمَّةٌ، يُرِيدُ بِذَلِكَ: التَّمادِيَ في تَكْثِيرِ فُرْسانِهِ، ولَكِنَّهُ يَرُومُ إظْهارَ بَراءَتِهِ عَنِ التَّزَيُّدِ، وإبْرازَ أنَّهُ مِمَّنْ يُقَلِّلُ كَثِيرَ ما عِنْدَهُ، فَضْلًا عَنْ تَكْثِيرِ القَلِيلِ، وعَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾ .
وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ إنَّما تُسْلَكُ عِنْدَ كَوْنِ الأمْرِ مِنَ الوُضُوحِ، بِحَيْثُ لا تَحُومُ حَوْلَهُ شائِبَةُ رَيْبٍ حَقِيقَةً، كَما في الآياتِ الكَرِيمَةِ المَذْكُورَةِ، أوِ ادِّعاءٍ كَما في البَيْتِ، وقَوْلِهِ:
قَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أنامِلُهْ
وَقَوْلِهِ:
وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
والمُرادُ بِكَثْرَةِ علمه تعالى: كَثْرَةُ تَعَلُّقِهِ، وهو مُتَعَدٍّ إلى اثْنَيْنِ، وما بَعْدَهُ سادٌّ مَسَدَّهُما، واسْمُ " إنَّ " ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وخَبَرُها الجُمْلَةُ المُفَسِّرَةُ لَهُ، والمَوْصُولُ فاعِلُ يَحْزُنْكَ، وعائِدُهُ مَحْذُوفٌ؛ أيِ: الَّذِي يَقُولُونَهُ، وهو ما حُكِيَ عَنْهم مِن قَوْلِهِمْ: ﴿إنْ هَذا إلا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾، ونَحْوِ ذَلِكَ. وقُرِئَ: ( لَيُحْزِنُكَ ) مِن أحْزَنَ، المَنقُولِ مِن حَزَنَ اللّازِمِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّهم لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ تَعْلِيلٌ لِما يُشْعِرُ بِهِ الكَلامُ السّابِقُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ الِاعْتِدادِ بِما قالُوا، لَكِنْ لا بِطَرِيقِ التَّشاغُلِ عَنْهُ وعَدِّهِ هَيِّنًا، والإقْبالِ التّامِّ عَلى ما هو أهَمُّ مِنهُ مِنِ اسْتِعْظامِ جُحُودِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ كَما قِيلَ؛ فَإنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ بِمَعْزِلٍ مِنَ التَّسْلِيَةِ بِالكُلِّيَّةِ، مِمّا يُوهِمُ كَوْنَ حُزْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِخاصَّةِ نَفْسِهِ، بَلْ بِطَرِيقِ التَّسَلِّي بِما يُفِيدُهُ مِن بُلُوغِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في جَلالَةِ القَدْرِ، ورِفْعَةِ المَحِلِّ، والزُّلْفى مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ إلى حَيْثُ لا غايَةَ وراءَهُ، حَيْثُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى جَعْلِ تَكْذِيبِهِ ﷺ تَكْذِيبًا لِآياتِهِ سُبْحانَهُ، عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ (p-127)فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾، بَلْ نَفى تَكْذِيبَهم عَنْهُ ﷺ، وأثْبَتَ لِآياتِهِ تَعالى عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ﴾؛ إيذانًا بِكَمالِ القُرْبِ، واضْمِحْلالِ شُئُونِهِ ﷺ في شَأْنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، نَعَمْ فِيهِ اسْتِعْظامٌ لِجِناياتِهِمْ مُنْبِئٌ عَنْ عِظَمِ عُقُوبَتِهِمْ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَعْتَدَّ بِهِ وكِلْهُ إلى اللَّهِ تَعالى، فَإنَّهم في تَكْذِيبِهِمْ ذَلِكَ لا يُكَذِّبُونَكَ في الحَقِيقَةِ.
﴿وَلَكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾؛ أيْ: ولَكِنَّهم بِآياتِهِ تَعالى يُكَذِّبُونَ، فَوُضِعَ المُظْهَرُ مَوْضِعَ المُضْمَرِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِالرُّسُوخِ في الظُّلْمِ الَّذِي جُحُودُهم هَذا فَنٌّ مِن فُنُونِهِ.
والِالتِفاتُ إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ، واسْتِعْظامِ ما أقْدَمُوا عَلَيْهِ مِن جُحُودِ آياتِهِ تَعالى، وإيرادُ الجُحُودِ في مَوْرِدِ التَّكْذِيبِ؛ لِلْإيذانِ بِأنَّ آياتِهِ تَعالى مِنَ الوُضُوحِ، بِحَيْثُ يُشاهِدُ صِدْقَها كُلُّ أحَدٍ، وأنَّ مَن يُنْكِرُها فَإنَّما يُنْكِرُها بِطَرِيقِ الجَحُودِ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ الإنْكارِ مَعَ العِلْمِ بِخِلافِهِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ﴾، وهو المَعْنِيُّ بِقَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ نَفْيُ ما في القَلْبِ إثْباتُهُ، أوْ إثْباتُ ما في القَلْبِ نَفْيُهُ.
والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِيَجْحَدُونَ، يُقالُ: جَحَدَ حَقَّهُ وبِحَقِّهِ: إذا أنْكَرَهُ وهو يَعْلَمُهُ. وقِيلَ: هو لِتَضْمِينِ الجَحُودِ مَعْنى التَّكْذِيبِ، وأيًّا ما كانَ فَتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ لِلْقَصْرِ. وقِيلَ: المَعْنى: فَإنَّهم لا يُكَذِّبُونَكَ بِقُلُوبِهِمْ، ولَكِنَّهم يَجْحَدُونَ بِألْسِنَتِهِمْ، ويَعْضُدُهُ ما رُوِيَ مِن أنَّ الأخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ قالَ لِأبِي جَهْلٍ: يا أبا الحَكَمِ؛ أخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أصادِقٌ هو أمْ كاذِبٌ ؟ فَإنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنا أحَدٌ غَيْرَنا، فَقالَ لَهُ: واللَّهِ إنَّ مُحَمَّدًا لَصادِقٌ وما كَذَبَ قَطُّ، ولَكِنْ إذا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّواءِ والسِّقايَةِ، والحِجابَةِ والنُّبُوَّةِ، فَماذا يَكُونُ لِسائِرِ قُرَيْشٍ؛ فَنَزَلَتْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يُسَمّى الأمِينَ، فَعَرَفُوا أنَّهُ لا يَكْذِبُ في شَيْءٍ، ولَكِنَّهم كانُوا يَجْحَدُونَ» .
وَقِيلَ: فَإنَّهم لا يُكَذِّبُونَكَ؛ لِأنَّكَ عِنْدَهُمُ الصّادِقُ المَوْسُومُ بِالصِّدْقِ، ولَكِنَّهم يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ، كَما يُرْوى أنَّ أبا جَهْلٍ كانَ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ما نُكَذِّبُكَ وإنَّكَ عِنْدَنا لَصادِقٌ، ولَكِنّا نُكَذِّبُ ما جِئْتَنا بِهِ؛ فَنَزَلَتْ.
وَكَأنَّ صِدْقَ المُخْبِرِ عِنْدَ الخَبِيثِ بِمُطابَقَةِ خَبَرِهِ لِاعْتِقادِهِ، والأوَّلُ هو الَّذِي تَسْتَدْعِيهِ الجَزالَةُ التَّنْزِيلِيَّةُ.
وَقُرِئَ: ( لا يُكْذِبُونَكَ ) مِنَ الإكْذابِ؛ فَقِيلَ: كِلاهُما بِمَعْنًى واحِدٍ، كَأكْثَرَ وكَثَّرَ، وأنْزَلَ ونَزَّلَ، وهو الأظْهَرُ. وقِيلَ: مَعْنى أكْذَبَهُ: وجَدَهُ كاذِبًا، ونُقِلَ عَنِ الكِسائِيِّ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: كَذَّبْتُ الرَّجُلَ؛ أيْ: نَسَبْتَ الكَذِبَ إلَيْهِ، وأكْذَبْتُهُ؛ أيْ: نَسَبْتَ الكَذِبَ إلى ما جاءَ بِهِ لا إلَيْهِ.
{"ayah":"قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَیَحۡزُنُكَ ٱلَّذِی یَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا یُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ یَجۡحَدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق